هل نجح الدور السعودي في تغيير نظرة روسيا إلى الأزمة السورية بعين الحرب الباردة؟

الحرب بالوكالة استراتيجية تستخدمها كافة القوى الدولية والإقليمية، عندما تستخدم أطرافا أخرى للقتال بدلا عنها بشكل مباشر، أو تهيئ لها البيئة الجاهزة تنشط فيها وتنمو بدعم الاستخبارات بطرق خفية متعددة لا يفهما سوى العاملين في هذا الحقل.

لا زالت لدى روسيا ذاكرة حاضرة عندما نجحت الولايات المتحدة في توظيف عدد من الحركات والقيادات الجهادية للعمل العسكري المشترك مع البنتاغون والناتو في أفغانستان في الثمانينات من القرن الماضي، وزودتهم بكافة الأسلحة والإمدادات والتدريب، ساهمت في انهيار الإتحاد السوفيتي وحلف وارسو منذ عام 1989، لكن فقدت الولايات المتحدة بعد ذلك الهيمنة على هذه الجماعات والقيادات التي انقلبت عليها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ودخلت معها في حرب لا تزال حتى الآن.

رغم ذلك، فإن روسيا لا زالت تؤمن بأن الولايات المتحدة لا زالت تستخدم نفس الاستراتيجية في سوريا، رغم أنها تعلن محاربتها، وشكلت له تحالفا دوليا، لكن روسيا غير مصدقة لما تعلنه الولايات المتحدة لمحاربة داعش، خصوصا وأن الولايات المتحدة بعيدة عن المنطقة وعدد المنضمين والذين حاولا الانضمام إلى داعش لا يتجاوزوا 200 وعند عودتهم سيكونون تحت المراقبة المشددة والحجز.

بينما منطقة الشرق الأوسط ليست بعيدة عن أوروبا وروسيا، خصوصا وأن كثيرا من المنضمين لداعش أتوا من دول جوار روسيا، وأيضا من روسيا والأوزبكيين والطاجيك والشيشان يربو عددهم على ألفي شخص، ما يعني أنهم يشكلون أكبر مجموعة أوربية في صفوف تلك التنظيمات، وخوف روسيا أن يسعى هؤلاء لاستكمال جهادهم ضد موسكو، وضد جمهوريات آسيا الوسطى، الحديقة الخلفية لروسيا، لذلك ترى روسيا أن الحرب في سوريا مسألة داخلية تخصها أيضا.

لذلك تلتقي روسيا والغرب في سوريا على محاربة الإرهاب، ولم تغير موقفها من النظام السوري، رغم أنها بعد التقارب مع السعودية قللت من الدعم العسكري الموجه للنظام السوري، كنقطة التقاء مع السعودية من أجل مستقبل تعاون مشترك في كافة الجوانب.

التفكير الاستراتيجي الروسي يلتقي مع واشنطن على أولوية محاربة الإرهاب في سوريا، رغم أن روسيا متيقنة من أن استراتيجية واشنطن لها يد بشكل مباشر أو غير مباشر في تشكيل تلك الجماعات الإرهابية، وفي نفس الوقت تحاربها، وهي تختلف مع الأولوية لدى كل من تركيا والسعودية اللتين تريان أن القضاء على داعش يتم بالتخلص من نظام بشار الأسد.

رغم ذلك، فإن وسائل محاربة الإرهاب بين واشنطن وموسكو مختلفة فيما ترى واشنطن أن تحارب داعش عن طريق العمليات الجوية المحدودة، بينما ترى موسكو محاربة داعش عن طريق دعم النظام السوري، وهي معادلة تترك داعش ينمو ويتوسع على حساب المعارضة التي تحارب النظام السوري، كما استخدم داعش في العراق من قبل المالكي المدعوم من إيران لتنفيذ مخطط لتهميش السنة وتخويف الأكراد الذين يرفضون الانصياع لحكومة المركز في تعطيل عدد من الاتفاقيات الموقعة مع الحكومة المركزية.

بعد زيارة الوفد السعودي لموسكو، وتوقيع عدد من الاتفاقيات، صرح بوتين في مدينة بطرسبرغ بمناسبة مؤتمر دولي عن الأمن أواخر شهر يونيو 2015، والتصريح الثاني أثناء زيارة وليد المعلم إلى موسكو في الفترة نفسها عندما قال بوتين (لا تعني موسكو منغلقة على أي اقتراح) أو أنها (متمسكة بشخص الأسد).

لكنها حتى لا تغضب موسكو حلفاءها الإيرانيين، الذين لديهم خطط في سوريا التي لا تتطابق بالضرورة مع خططها، ترى موسكو من باب الواقعية السياسية، ووفق قراءتها للأوضاع القائمة في سوريا اليوم (لا ترى بديلا) عن الأسد، لا بل تدعو إلى ضم الأسد إلى تحالف جديد لمحاربة داعش والإرهاب بمشاركة بلدان إقليمية ذكر منها الأردن وتركيا والسعودية.

لأن بوتين يدرك بأن الولايات المتحدة غير مستعدة للقضاء على داعش، ولا يستطيع القضاء على داعش سوى هذه الدول، ولكن هذه الدول تريد مقابل القضاء على داعش مستقبلا واضحا لسوريا، بعيدا عن الأسد الذي يمارس قتل شعبه بكافة أنواع الأسلحة الفتاكة بما فيها الكيماوي المحرم دوليا.

تريد موسكو شخصية بديلة تحافظ على الدولة السورية، وقادرة على الحفاظ على المصالح الروسية في سوريا خصوصا الحفاظ على القاعدة البحرية الروسية في طرطوس، وحرص موسكو على تلافي التجربة الليبية في سوريا حتى لا يدخل البلد في انقسام، لكن موسكو غير قادرة على الاعتراف بأن إيران هي السبب الرئيسي في تقسيم المنطقة العربية عن طريق دعم وكلاء لها كما في لبنان واليمن والعراق.

الموقف الروسي المتغير فتح الباب أمام تطور ميداني مدعوم من السعودية وتركيا، كشف عن هشاشة داعش وضعف الاستراتيجية الأمريكية في سوريا، حتى أن الحسم في درعا وحلب بات وشيكا بينما النظام المدعوم بحزب الله يحاولان التعويض في الزبداني، رغم ذلك لم يحقق بغيته حتى الآن.

على الجانب الآخر يعقد لقاء بين هيئة التنسيق والائتلاف في بروكسل بدعم الاتحاد الأوربي، للبحث عن وثيقة التسوية السياسية في سوريا في 13 يوليو، التي سبق التوصل إليها في باريس في شهر فبراير 2015، تستند إلى بيان جنيف وقرارات مجلس الأمن، لتقدم حلا سياسيا في المستقبل، مع تأكيدها على رفض أي دور للنظام السوري في المرحلة الانتقالية أو ما بعدها، لتفعيل مؤتمر جنيف 3، لقيام نظام ديمقراطي أساسه التداول السلمي للسلطة والتعددية السياسية، وضمان حقوق وواجبات جميع السوريين على أساس المواطنة المتساوية.

التباين بين مواقف الدول العربية خصوصا بين الموقفين السعودي والمصري بسبب دعم الدور التركي (الإخوان المسلمين) في سوريا، الذي يهدد الأمن المصري التي تحارب الجماعة داخل مصر، وترفض كذلك مصر التدخل العسكري التركي في سوريا مثله مثل رفضها للتدخل الإيراني في العراق، لكن يأتي الدور السعودي الضامن بين الطرفين لمثل تلك التخوفات من الجانب المصري خصوصا بعد تراجع شعبية أردوغان وعدم تمكنه من الحصول على الأغلبية البرلمانية، لأن التحالف السعودي التركي يمنع تحقيق تركيا مصالح خاصة لها في سوريا على حساب الأمن العربي، باعتبار سوريا جزءا من أمن مصر والسعودية والمنطقة العربية بشكل عام .

استثمرت السعودية استبعاد موسكو من مجموعة الثماني الكبرى، وخسارتها لأوكرانيا، وهبوط أسعار النفط مما فاقمت أزمتها المالية، لم تعد روسيا تملك من أدوات الدولة العظمى، سوى وظيفة دولية تؤمنها لها عضويتها في مجلس الأمن، واستدرجها الغرب إلى الإفراط في استخدم الفيتو في الأزمة السورية.

لذلك أدركت روسيا هذا المأزق، ووافقت للسعودية بعد استخدام الفيتو في الأزمة اليمنية عندما صدر القرار 2216، ولن تستخدم روسيا الفيتو مرة أخرى في الأزمة السورية، ولكن بعد حصولها على مقايضات تحقق لها مصالحها تعوضها عما خسرته مع الغرب.

من خلال زيارة الوفد السعودي فقد حققت موسكو مصالح ضخمة في العقود الضخمة التي وقعتها مع السعودية ومصر، وستدخل شريكا قويا في منطقة الشرق الأوسط، يمكن أن تضغط على نوايا الولايات المتحدة في إقامة علاقات مستقبلية مع إيران بعد التوصل إلى اتفاق نووي من أجل منع وصول روسيا إلى منطقة الخليج، ولكن روسيا وصلت إلى منطقة الخليج عبر السعودية وإلى البحر المتوسط عبر مصر ومستقبلا عبر سوريا، أربك خطط الولايات المتحدة.

تريد السعودية أن تملئ روسيا الفراغ الدولي إزاء الأزمة السورية من خلال مقاربات سياسية غائبة يمكن إحياؤها من جديد بالتعاون مع أوربا خصوصا مع الشريك الفرنسي، وربط روسيا بمصالح دول إقليمية كبرى في المنطقة مثل السعودية التي تمثل دول الخليج، ومصر التي تمثل شمال أفريقيا، وتركيا التي تمثل البوابة إلى أوربا، لضمان مصالحها، وتعويض خسائرها التي فقدتها.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق