هل تعيش المنطقة مرحلة جديدة على أنقاض مشروع سايكس-بيكو؟

تم تقسيم أملاك الدولة العثمانية بين بريطانيا وفرنسا سميت باتفاقية (سايكس-بيكو) عام 1916 لمنع النفوذ الأميركي الصاعد في المنطقة العربية، ومنع تمدد النفوذ الشيوعي، لذلك لعبت الدبلوماسية الإنجليزية دورا نشطا وكبيرا للتحالف ضد النازية منذ عام 1942، وتبلورت لديها تنفيذ فكرة الجامعة العربية وعمودها الفقري محور القاهرة الرياض، لذلك المرحلة الحالية ضرب العلاقة السعودية المصرية وتهميش دور الجامعة العربية.

لذلك عكف الاستراتيجيون بعد الحرب العالمية الثانية على رسم خرائط ومشاريع منها ما تم استحسانه ،ومنها ما البناء عليه واعتماده، من هذه المشاريع مشروع برنارد لويس الذي نشر عام 1983 وقيل أن الكونغرس الأمريكي وافق عليه في جلسة سرية، أيا يكن في مدى صحة اعتماد الكونغرس الأمريكي لمشروع برنارد لويس الذي يعتمد على تفكيك الدول العربية والإسلامية وإعادة تركيبها على أسس دينية وطائفية ومذهبية وعرقية وعشائرية ومناطقية، فإن الواقع أشد ألما ولا يحتاج إلى الحديث عن رسم خرائط بينما هي في مرحلة نهاية تنفيذ هذه الخرائط التي ظللنا نتحدث عنها في الفترة الماضية ولم نستعد لها.

كان المناخ الدولي آنذاك غير ملائم لتنفيذ مشروع برنارد لويس، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وبعد انفراط عقد جمهوريات الاتحاد السوفيتي الفيدرالية الخمس عشر، سرعان ما امتد إلى تشيكوسلوفاكيا التي انقسمت إلى دولتين، وإلى يوغسلافيا التي انقسمت إلى خمس دول.

فأصبح العالمين العربي والإسلامي مهيأين للتقسيم خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر التي أعطت أمريكا الضوء الأخضر للتقسيم، بل بدأت باحتلال دولة إسلامية ودولة عربية بالتعاون مع إيران استعدادا لمرحلة التقسيم والتفتيت التي لم تنبه لها العرب والمسلمون، ولكنهم لم يواجهوا مثل هذا المشروع بل اكتفوا بالتنديد كعادتهم في اجتماعات الجامعة العربية، بل كل منهم يهدد الآخر بان المشروع سيمتد إليه.

كانت السودان حاضرة فعليا في التقسيم بين سودان شمالي وجنوبي، ومحاولات التمرد الكردية على السلطة المركزية في العراق قائمة منذ نهاية خمسينات القرن العشرين، وتفكك الصومال أمر واقع منذ تسعينات القرن نفسه، غير أن التفكك النوعية في عملية التجزئة الجارية الجديدة جاءت مع احتلال أمريكا للعراق وسلمته لإيران وبدأت مرحلة العزف على وتر الطائفية.

(سايكس-بيكو) هي بين واقع ملموس من خلال الحدود المرسومة وبين تصورات الكثيرين الذين يتساءلون عن عقد اتفاقات سرية تحاك لمستقبل المنطقة أحدث من مشروع برنارد لويس، خصوصا بعد حدثين وقعا الأول كان عالمي والمتمثل في أحداث 11 سبتمبر والثاني محلي ما سمي بثورات الربيع العربي.

برزت إلى الساحة مشاريع تقسيمية جديدة تقودها هذه المرة الولايات المتحدة انقلابا على اتفاقية سايكس – بيكو التي هيأت المنطقة كوحدة تقف أمام النفوذين الأمريكي والروسي، وهذه الاتفاقية لا تخدم المصالح الأمريكية خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، فحملت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مشروع (الشرق الأوسط الكبير) وتارة يتم الترويج لمشروع آخر معدل (مشروع الشرق الأوسط الجديد) بالإضافة إلى مشاريع عديدة كانت مصدر ثمين لمروجي نظريات المؤامرة بدلا من التركيز على أسباب الضعف الداخلي وكيفية مواجهته.

ومن منطلق الشرق الأوسط ومتغيرات يستحسن أن نشير إلى ما نشرته المجلة الأميركية المتخصصة (أرمد فورسز جورنال) عن خريطة جديدة للشرق الأوسط وضعها الجنرال المتقاعد رالف بيترز قسم فيها المنطقة دولا سنية وشيعية وكردية إضافة إلى دولة إسلامية مستقلة عن السعودية تضم الأماكن المقدسة ومملكة الأردن الكبرى ودويلات أخرى.

ورأى الجنرال أن تقسيم المنطقة على أساس الطوائف والإثنيات من شأنه أن ينهي العنف في هذه المنطقة، وهذا مثال لنموذج أحدى المشاريع التي يتم تداولها ، لكن هناك مشاريع تقسيمية عديدة منها مشروع نموذجي يتم ترويجه لتطبيقه في العراق لبايدن قبل أن يصبح نائب للرئيس أوباما عندما كان عضوا في الكونغرس الأميركي فتم طرح تقسيم العراق إلى ثلاثة مناطق ذات حكم استقلال شبه ذاتي موزعة بين الشيعة والسنة والأكراد، بل إن الواقع الجديد يقسم العراق إلى قسمين فقط بين الشيعة والأكراد بعدما أصبح السنة كيان خاضع للتغير الديمغرافي التي تنفذه المليشيات التابعة لإيران.

واليوم يتم التساؤل لماذا تسمح الولايات المتحدة بتعزيز النفوذ الشيعي في المنطقة بقيادة إيران، ولماذا تسمح بانتشار داعش ( الدولة الإسلامية في العراق وفي الشام وليبيا وقد تمتد إلى مناطق أخرى)، ولماذا غضبت من السعودية عندما أقدمت على دعم الجيش المصري في التخلص من نظام الإخوان المشروع الإقليمي العالمي العابر للحدود حتى يكون في مواجهة المشروع الإيراني ولاية الفقيه العابر للحدود للإطباق على السعودية ومحاصرتها من جميع الجهات، وهل انتهت العلاقة بين واشنطن والرياض لصالح طهران عقب قانون جاستا بعد سبعة عقود على التحالف التاريخي بين واشنطن والرياض؟

تنتهي تلك المسيرة بضربة مزدوجة أميركية لصالح ظهور قوة إقليمية يجري الترتيب لها في الوقت الحالي على حساب كلا الدولتين، لكن عندما فشلت إيران في الصمود بسبب التحالف السعودي التركي في سوريا، استثمرت روسيا الضعف الإيراني في سوريا وتعثر مشروعها، استأسدت روسيا في سوريا، وبدأت مرحلة صراع بين روسيا والغرب قد يفرض على الولايات المتحدة تغيير استراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط.

كما أكد دينيس روس وهو عضو في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ومساعده خاص سابق للرئيس الأمريكي باراك أوباما خلال الربع قرن الماضي أن هناك تحديات بالجملة تواجه الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط.

السعودية وتركيا يقفان أمام تحقيق مشروع إقليمي لإيران بتأمين ممر بري يخترق العراق في نقطة الحدود بين البلدين ثم شمال شرق سوريا إلى حلب وحمص وينتهي بميناء اللاذقية على البحر المتوسط.

لذلك نجد هناك تنافس وصراعات للهيمنة على قرار شيعة العراق، ويتجه أتباع إيران إلى تأجيل الإطاحة بالعبادي لما بعد معركة الموصل، وبعدما طلب العراق استقدام قوات تركية قبل عام فإن العراق من أجل تنفيذ المشروع الإيراني، فإنه طلب من تركيا سحب قواتها، وطلبت من مجلس الأمن أن يطالب تركيا بسحب قواتها، لكن أردوغان رفض سحب قواته، واعتبر أن ما يحدث هي مؤامرة أميركية إيرانية لدعم الأقليات والمليشيات ضد سكان الموصل وتهجيرهم من أجل تغيير ديموغرافي على غرار ما يحدث في سوريا تحت نظر العالم، خصوصا بعدما نجحت إيران من الضغط على العراق بطلب السعودية سحب سفيرها وتغييره تحت حجج كثيرة حتى لا تلتف العشائر السنية والشيعية حول السفير السعودي لمواجهة التمدد الإيراني عبر المليشيات التي ترتكب جرائم على الهوية في العراق.

تقوم تركيا بتدريب مقاتلين في بعشيقة لمواجهة داعش في المعركة المقبلة في الموصل بينهم عرب وأكراد وإيزيديون وتركمان وهي أصلا من الموصل، وترى تركيا وجودهم ضروري في إطار تحرير الموصل، حيث تعتبر تركيا أن القوات التي دربتها هي التي تستحق تحرير الموصل، بينما المليشيات الشيعية التي سبق أن ارتكبت جرائم حرب في المدن المحررة من داعش، فمشاركتهم في تحرير الموصل لن تحقق السلام بل تؤدي إلى حرب أهلية.

لذلك هاجم زعيم التحالف الوطني الشيعي عمار الحكيم الوجود التركي داخل الأراضي العراقية، واستشهد الحكيم بسكان محافظة نينوي بأنها سنية وهي معارضة للتواجد التركي، ومن جانب آخر قالت عضو البرلمان العراقي عن كتلة بدر سهام الموسوي بأن هناك تضارب معلومات بهذا الشأن، وبالتالي فقد أصبح لزاما على البرلمان أن يحقق بالأمر لكي تتضح الحقيقة إلى الشعب العراقي لجهة إن كان دخول القوات التركية قد جاء بناء على اتفاق رسمي موقع من قبل أطراف عراقية وبعلم الحكومة وشخصيا رئيس الوزراء حيدر العبادي من عدمه، أو أن هذه القوات دخلت عنوة.

ظلت إيران تعمل بقوة على شق ممر بري إيراني يبدأ من غرب الموصل إلى اللاذقية منذ خمس سنوات الذي تعمل عليه المليشيات الشيعية، وهو ما فرض عليها الحرب ضد الفصائل السورية المعارضة في سوريا، وهي أقرب من أي وقت مضى من تحقيق هذا الممر الذي سيوطد أقدامها بالمنطقة، شعرت تركيا بأن هناك علاقة بين إيران والأكراد الذين يعتمد عليهم تنفيذ جزء كبير من الممر وتأمينه.

لذلك بدأت تتحرك تركيا بشمال شرق سوريا لإعاقة تنفيذ هذا المشروع الذي يتولاه قائد لواء القدس الجنرال قاسم سليماني، حيث يتضمن تنفيذ هذا الممر تغييرات ديمغرافية أكتمل تنفيذها وسط العراق الذي يبدأ بمدينة بعقوبة مركز محافظة ديالي العراقية التي تبعد 60 كلم شمال بغداد، وهي منطقة يختلط فيها السنة والشيعة لمئات السنين.

 وقد أصبحت ديالي حاليا منطقة صراع طائفي دام، ومن بعقوبة يمر الممر بالاتجاه الشمالي الغربي إلى شرقاط بمحافظة صلاح الدين التي سيطرت عليها المليشيات الشيعية في 22 من شهر سبتمبر 2016 حتى تلعفر سنجار التي استقرت فيها قوات حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) القادمة من سوريا بموافقة من مستشار الأمن الوطني العراقي فلاح فياض.

ومن معبر ربيعة بين العراق وسوريا يمتد الممر بجوار القامشلي وعين العرب ثم عفرين، وجميعها تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية، ولا يزال الممر قيد التنفيذ في سوريا إلى حلب وهي أكبر نقطة بين الحدود الإيرانية مع العراق وإلى البحر المتوسط الذي تركز فيه طهران أعلى طاقاتها، حيث استقدمت له ستة آلاف عنصر من المليشيات الشيعية من العراق استعدادا للاستيلاء على الجزء الشرقي من حلب الذي يمكن أن يتزامن مع الهجوم على الموصل، لذلك تهاجم إيران تركيا عبر وكلائها في العراق تحت خطر اختراق السيادة.

فهل ينجح أردوغان في إقناع بوتين الذي يزور اسطنبول لحضور مؤتمر الطاقة بأن يتوقف عن تمرير مثل هذا الممر تحت غطاء المصالح الاقتصادية بين البلدين الذي يهدد المصالح التركية.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق