هل الخلاف الداعشي والتخطيط الأمريكي مستهل تراجع التنظيم؟

بعد أن أستغل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) حراك العشائر العربية ضد جور وطغيان الحُكم الطائفي في بغداد، أستطاع هذا التنظيم أن يمتد ويبسط نفوذه على مناطق معينة في العراق ويعلن قيام خلافته الإسلامية بتاريخ 28-6-2014، والتي رفضها علماء السُّنة قاطبة. وإذا تتبعنا مسافة العشرين يوماً ما بين إنهيار المنظومة الأمنية والعسكرية في محافظتي نينوى وصلاح الدين أمام العشائر العربية وإعلان الخلافة، فإن عناصر “داعش” كانت سياستهم مطابقة تقريباً إلى نهج العشائر في إطلاق سراح العسكريين بعد تسليم أنفسهم وسلاحهم، وعدم إيذاء أي مكون، بل كان الداعشيون يخبرون أهالي المناطق التي يدخلونها بأنهم جاؤوا لحمايتهم؛ ولكن سرعان ما أنقلب الوضع إلى وحشية فتاكة، حيث رفعوا شعار “نصرنا بالرعب”!

وبدأت صور الذبح البشري على طريقة الخراف، والإعدامات الجماعية الفورية تترى على وسائل الإعلام، حتى أن مفكر التيار السلفي الجهادي عاصم بن محمد بن طاهر البرقاوي، المعروف بأسم “أبو محمد المقدسي” قد نقد هذه الخلافة ودمويتها الرهيبة في بيان عنونه: “هذا بعض ما عندي وليس كله” ونشره على صفحته في موقع التواصل الإجتماعي بتاريخ 2-7-2014. ولقد حذر فيه “الوالغين في دماء المسلمين كائناً مَنْ كانوا”، وطالبهم بالتوبة والكف “عن دماء المسلمين وتشويه هذا الدين”.

وبعد شهرين من السفك الدموي الذي ضاهت فيه “داعش” الميليشيات الطائفية المدعومة حكومياً ومذهبياً، أخذت تتسرب أخبار التصدع الداخلي، حيث برز خلاف في صفوف كبار المنظرين للتنظيم حول مسألة التكفير، وبث صور الذبح بقطع الرؤوس، وطريقة القتل الميداني. إذ في منتصف الشهر الماضي آب/أغسطس تم إعتقال عدداً من القيادات الشرعية والأمنية المعروفة، وصدرت بحقهم أحكاماً تراوحت ما بين التنبيه والإعدام، ومن بينهم: أبو جعفر الحطاب (أمير شرعي)، أبو مصعب التونسي (أمير سابق في دير الزور)، أبو عبد الله المغربي (أمير الأمنيين في حلب)، أبو أسيد المغربي، أبو الحوراء الجزائري، أبو خالد الشرقي، وآخرين غيرهم.

ومن التوضيحات الصادرة بهذا الخصوص أن أبي مصعب التونسي أفتى بتكفير زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري، وأن أبي جعفر الحطاب كان أحد أعضاء “اللجنة الشرعية” التي صاغت التقرير المطول الذي قضى بتكفير جميع قادة “الجبهة الإسلامية” و”الجيش السوري الحر”. ورغم أن الحطاب وراء إعداد هذا التقرير التكفيري، إلا أن أعتقاله بالقدر الذي يؤكد على ردة أولئك القادة، فإنه يعني أيضاً إنهاء دوره القيادي في هذه المرحلة. أما أبو عبد الله المغربي فقد وردت بعض الأخبار عن تصفيته جسدياً بعد أكتشاف علاقته مع الأستخبارات البريطانية، دونما أن يصدر من التنظيم أي بيان رسمي بحقه.

هذا وصدر قرار عن “ولاية حلب” يقضي بوضع أبي عمر الكويتي في الحبس الإنفرادي، بسبب تجاهله تعليمات القيادة بعدم التعبير عن آرائه الشخصية على مواقع التواصل الإجتماعي. ويُعتبر أبو عمر الكويتي مؤسس كتيبة “جند الخلافة” التي تحولت فيما بعد إلى “جماعة المسلمين” قبل مبايعته إلى “داعش”، رغم رؤيته بأن “الخلافة” محصورة بداعمه المقيم في بريطانيا أبو محمد الرفاعي. وبغض النظر عن أسباب هذا التحول في المبايعة على الخلافة، فأن الكويتي تحدث كثيراً عن تكفير الظواهري، بدعوى أن الأخير لا يفتي بتكفير الشيعة، ويعاملهم وفق مبدأ “العذر بالجهل”. وحسب رأي الكويتي أنه لا عذر بالجهل في الشرك بالله، كونه الشرك الأكبر؛ بل ويقضي بكفر من يعذر الجاهل، ولذا نشأت مسألة “تكفير العاذر بالجهل”، التي كان أحد أشد المنظرين لها هو الشيخ الخليجي أحمد الحازمي، والتي أحدثت بلبلة في صفوف التنظيم الداعشي في الآونة الأخيرة، مما أوجبت إتخاذ الإجراءآت في شأنها.

 الواقع أن أبي عمر الكويتي عندما دخل سوريا في 2012، كان معروفاً بنزعته التكفيرية من جهة، وبتحالفاته المتقلبة من جهة أخرى. ومنها أنه تحالف لفترة مع “كتيبة أبو البنات” التي قادها الداغستاني المتطرف المُلقب بأبي البنات قبل حل الكتيبة وإعتقال مؤسسها في تركيا، حيث يخضع لمحاكمة منذ عدة أشهر مضت. كما وكان للكويتي دوراً كبيراً في أحداث دانا بريف أدلب عام 2013، والتي أدت إلى أشتباكات واسعة بين تنظيم “داعش” وبين كتائب تابعة إلى “الجيش السوري الحر”.

على أي حال، فقد صدر مؤخراً عن اللجنة العامة في “الدولة الإسلامية” تعميم حمل الرقم 7، ويقضي “بمنع تصوير ونشر مشاهد الذبح التي يقوم بها جنود الدولة الإسلامية أثناء الغزوات أو خارجها”. وجاء في هذا التعميم أيضاً أن “نشر مثل هذه المشاهد يحتاج إلى إذن خاص من اللجنة، وأنه ستتم محاسبة أي مخالف”.

أن أوآمر الإعتقالات وإتخاذ الإجراءآت وصدور التقريرات جميعها تدل على أن قيادة “داعش” تمر الآن في مرحلة مراجعة سريعة تهدف من خلالها إلى الحد من ظاهرة التكفير والغلو في العنف، خصوصاً وأن ردود أفعالها بدأت تصيب أركان التنظيم في الحواضن الشعبية لها. وبما أن الإدارة الأمريكية تواصل ضرباتها الجوية لمواقع “داعش”، لذا فإن كسب ودّ أهالي المناطق التي يسيطر عليها التنظيم توجب إتباع سياسة اللين والمرونة لا الشدة والقسوة. بمعنى أن المرحلة الحالية تستدعي في الأقل تحييد الشارع بأن لا يكون ضد تنظيم “داعش”، سيما وأن الغارات الأمريكية ستتصاعد وتتوسع في ملاحقة التنظيم من العراق إلى سوريا. (قبل إعلان الأستراتيجية الجديدة التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في 10-9-2014).

ومن أجل هذه الأسباب، فقد سارع التنظيم الداعشي بإستدعاء أحد كبار أمرائه الشرعيين وهو الشيخ البحريني تركي البنعلي من سوريا إلى العراق لمناقشة شيوخ التشريع في بقية الفصائل الجهادية الأخرى. وجراء هذا التحرك فقد أعلن “أنصار الإسلام” مبايعتهم للخلافة وإنضمامهم إلى الدولة الإسلامية في 29-8-2014. ورغم أن المنضمين كانوا حوالي 50 فرداً بينهم عضو “مجلس شورى”، إلا أن قسماً كبيراً من “أنصار الإسلام” رفضوا هذه البيعة والإندماج، لكن التحركات الحوارية أثمرت بشيء لصالح التنظيم.

وعلى الجانب الاخر المتعلق بالغارات الأمريكية على مواقع “داعش” والتي بدأتها في 8-8-2014، فقد وصلت عدد قصفاتها إلى 120 ضربة جوية حسبما أعلنته القيادة المركزية الأمريكية في مدينة تامبا بفلوريدا بتاريخ 31-8-2014. ومنها ما أعلنته القيادة يوم الأثنين الموافق 1-9-2014، أن الطائرات المقاتلة الأمريكية التي أنطلقت من ظهر حاملة الطائرات “جورج بوش” من البحرين وبدون طيار الموجهة عبر الأقمار الصناعية منطلقة من قاعدة عبد الله السالم الكويتية، نفذت يوم أمس الأحد غارتين الأول على مدرعة هانفي أمريكية الصنع قرب سد صدام بالموصل، والثاني قرب آمرلي مستهدفة سيارة بيك­آب دفع رفاعي.

وإذا كانت صحيفة “واشنطن بوست” قد سلطت الضوء على الإنتقادات العديدة التي يواجهها الرئيس الأمريكي باراك أوباما بشأن سياسته تجاه تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. فإن أستراتيجية 36 شهراً التي أعدها أوباما ضد داعش ما زالت في بواكيرها الأولى، فإن ما أثارته الصحيفة يمكن الرد عليه وفق ما صرح به الجنرال ديفيد ريتشاردز الرئيس السابق لهيئة الأركان البريطانية في 29-8-2014، حيث يرى أن ظهور مسلحي “الدولة الإسلامية” في العراق وسوريا جاء نتيجة لسياسة لندن وواشنطن. ونقلت صحيفة “اندبندنت” اللندنية عن ريتشاردز قوله: أن بريطانيا والولايات المتحدة لم تقدما دعماً كافياً للمعارضة المعتدلة التي تحارب النظام في سوريا، ما أدى إلى تنامي قوى المتشددين.

أن أستمرار القصف الجوي الأمريكي، والتكلفة التي تصل إلى 7.5 مليون دولاراً يومياً، والإتجاه بتشكيل تحالف دولي يساعد أمريكا في أستراتيجتها الجديدة بمحاربة داعش، إذ أن الغارات بالطائرات لا تحسم معركة دون دخول المشاة للإمساك بالأرض، وهذا ما لا تفكر فيه الولايات المتحدة ولا أية دولة حليفة لها، وإن إمساك قوات البيشمركة الكردية والميليشيات الطائفية لبعض المناطق بعد الضربات الأمريكية لا تمنع من عودة عناصر “داعش” لقتالهم ثانية وثالثة طالما مقارهم الرئيسة في منأى عن الغارات والهجمات البرية. وبما أن الإدارة الأمريكية تضرب إرهاب “داعش” وتغض النظر عن إرهاب الميليشيات الطائفية، بل والإرهاب الحكومي الطائفي عبر القصف الجوي بالبراميل المتفجرة وصواريخ الراجمات وقنابل المدافع الثقيلة التي جعلت بعض الأحياء في الفلوجة والحويجة والكرمة وغيرها من المُدن عبارة عن أطلال لا تقل صورها بشاعةً عن صور الخراب والدمار الذي أحدثه العدو الصهيوني بمناطق غزة في الحرب الأخيرة، فإن ما تعد إليه أمريكا ضد داعش سيكون مثل القاعدة، لا يمكن القضاء عليها نهائياً دون علاج المسببات التي أوجدتها.

أما الحل السياسي الذي يقصده أوباما، فإنه يخص الذين يشتركون بالعملية السياسية التي أثبتت فشلها وسقمها عبر دوراتها في الإنتحابات التشريعية التي لم يجني منها شعب العراق غير المزيد من التقهقر والتأخر في كافة المجالات والميادين الخدمية والتعليمية والصحية الخ. وأن عقد الآمال على تصحيح أخطاء الماضي، مجرد تبرير أشول يتهرب من مواجهة الواقع بجرأة وعزيمة صادقة. فالعملية السياسية هي نتاج المحتل الأمريكي الذي قسم فيها أدوار المشتركين بحسب طوائفهم الدينية وأعراقهم القومية دون منح الأولوية إلى الهوية الوطنية، ثم سمح للنظام الإيراني بالسيطرة الكاملة على المشهد السياسي العراقي، وإيران لها مشروعها الصفوي الطائفي في المنطقة العربية، وهي ضالعة في الإرهاب الطائفي الجاري بالعراق وبعض الدول العربية. وبالتالي فإن هكذا وضعية حالكة لا يمكن أن يتمخض عنها حلاً سياسياً صحيحاً يفضي إلى مواجهة “داعش” والقضاء عليها.

وبما أن تنظيم “القاعدة” الذي بسط نفوذه في السنوات الأولى من الإحتلال الأمريكي، وخصوصاً ما بين (2004-2007)، ثم تم إخراجه من المعادلة الميدانية على أيدي أبناء العراق، سواء في فصائل المقاومة أو مجالس “الصحوات” التي جمعت أربعة شرائح: منهم مَنْ قاتل بصدق لإخراج القاعدة من مناطقهم، ومنهم مَنْ أراد الحصول على المال والإعمال، ومنهم مَنْ طلب الجاه لمشيخته أو لشخصه، ومنهم مَنْ سعى للمناصب والمكتسبات الحكومية. لكن المحصلة كانت ناجحة في هدفها، وفاشلة في نتائجها، فمن جهة أستطاعت القوات الأمريكية من تحويل بعض الصحوات إلى عملاء لها في ضرب المقاومة المسلحة، ومن ناحية أخرى بعد إنتهاء دورهم من الجانب الأمريكي، عمد نوري المالكي في سياسته الطائفية على تذويب وتميع الصحوات كي لا تشكل خطراً على حُكمه، إذ حسب تصوره ومفهومه أن الصحوات كانت فصائل مقاومة سُّنية.

ومن هنا فإن النهج الأصوب والأدق في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام لا يتعلق في حشد دولي بقيادة أمريكية، ولا القوات والميليشيات الطائفية، ولا الخلاف الداخلي بين قيادات داعش، بل بالتعامل مع القوى الوطنية الحقيقية الممسكة بالأرض في تلك المحافظات الثائرة والتي يوجد فيها عناصر تنظيم “داعش”، وأن تجاهل أو تغييب هذه القوى بشقيها المسلحة والمدنية عن الحل السياسي الجذري لن يكون هناك حلاً حقيقياً يستقر فيه وضع العراق. وإن مطالب هذه القوى واضحة وصريحة ومنها: تشكيل حكومة مؤقته يديرها المستقلون الذين لديهم الكفاءآت والإختصاصات، العمل على كتابة الدستور بأيدي فقهاء القانون من العراقيين ويتم الأستفتاء عليه من كافة مكونات وأطياف الشعب العراقي بشكل تام، إنتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف منظمات دولية من الأمم المتحدة، والإتحاد الأوروبي والجامعة العربية وغيرها، إلغاء قوانين جائرة تستخدمها السلطة لأهدافها الطائفية ومنها: الماة 4 إرهاب، المخبر السري، المسائلة والعدالة وغيرها التي لم يتطريق إليها رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي الذي ينتمي لحزب الدعوة الذي يقوده سلفه نوري المالكي، بل تطرق في أول إجتماع وزاري له إلى كيفية تشريع قانون “الحرس الوطني” الذي يتكون من الميليشيات الطائفية، كونه الجيش الرديف للقوات الحكومية التي تتشكل من بنية طائفية أصلاً.فهل لواشنطن وطهران النية في الضغط على مريديها لتحقيق تلك المطالب التي تخدم الوطن والمواطن؟ أم أن نيل المطالب لا تأتي بالتمني، وأن ثمن الحرية يبقى دوماً أحمراً.

د. عماد الدين الجبوري

نقلا عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق