موسكو بين السعودية وإيران

على مدى ستين عاما قبل الثورة البلشفية التي أطاحت بالإمبراطورية عام 1917 تلقت روسيا ضربات أغلقت في وجهها الطريق إلى القسطنطينية، وفقدت السيطرة على الشعوب السلافية في البلقان على يد الإنجليز ثم ألمانيا وبمساندة النمسا، وفي عام 1905 هزمتها اليابان وأوقفت كل توسع لها في اتجاه منشوريا وكوريا.

الثورة البلشفية بقيادة لينين الذي أعلن عن تأسيس أول دولة اشتراكية التي ضمت لها 15 جمهورية سميت باسم الاتحاد السوفيتي يضم على ما يزيد عن مائة أمة وقومية، برز دور الاتحاد السوفيتي عام 1943 عندما تمكن من مواجهة الجيش الألماني في ستالينجراد استسلم الجيش الألماني السادس أمام القوات السوفيتية، بل نجحت القوات السوفيتية في وقف هجوم ألماني على كورسك، لكن القوات الأمريكية كانت تتابع الانتصارات السوفيتية ودخلت الأراضي الألمانية في سبتمبر 1944 بعد شهور من عبور القوات السوفيتية من الحدود الشرقية.

زار الملك فيصل بن عبد العزيز موسكو عام 1932 بعد عدة زيارات قام بها إلى أوربا وكانت الزيارة اقتصادية أكثر منها سياسية، حيث كان هذا العام عام كساد في الولايات المتحدة أثر على العالم، بينما كان يتمتع الاتحاد السوفيتي برخاء لم يتأثر بهذا الكساد كثيرا، ولم تكن عوائد النفط حينها بدأت تتدفق على خزانة الدولة، خصوصا وأن الدعم الإنجليزي كان محدودا.

 لم يقدر ستالين مكانة السعودية حق التقدير بل اعتبرها بلاد صحراوية لا تعني له شيئا خصوصا وأنه كان أوربيا التوجه في السياسة الخارجية، ولم يعي ستالين أن الملك عبد العزيز كان يهدف على الاستقلالية رغم الضغوط التي تمارس عليه من المال الإنجليزي، رغم ذلك لم يوافق ستالين على منح الملك فيصل قرضا خصوصا وأن الملك فيصل لم يكن متحمسا للحصول على السلاح حتى لا يثير ضغائن لندن.

رغم ذلك ساهمت موسكو بإقامة أول محطة للهاتف الآلي في الطائف عام 1934 وتم تدريب سعوديين على أيدي سوفيتيين، لكن تجمدت العلاقة بين البلدين عام 1938 بسبب إعدام موسكو كريم حكيم الممثل السوفيتي في السعودية بعد اتهامه بأنه تخلى عن ثورة 1917 وأصبح جاسوسا للملك عبد العزيز ورفض الملك عبد العزيز استقبال مبعوثا آخر وهي خطوة يستخدمها ستالين لترهيب دبلوماسيه خصوصا وأن مرحلة شبح النازية العالمية بدأت بعدما ضمت ألمانيا النمسا وتتطلع لضم تشيكوسلوفاكيا وكان ستالين مشغولا بمتابعة الأوضاع في أوربا ولم يكن معروف أن المملكة العربية السعودية تمتلك احتياطيات ضخمة من البترول في أراضيها تقدر بربع احتياطيات العالم خصوصا وأن بريطانيا قدمت تقريرا عن أن المملكة العربية السعودية لا يوجد فيها نفط بعدما نقبت عن النفط في الحجاز عام 1928.

لكن أوفدت المملكة العربية السعودية جون فلبي المستشار الخاص للملك عبد العزيز في عام 1943 بعد الانتصارات التي حققها الاتحاد السوفيتي مع النازية، وقابل مخائيل رئيس مركز الاستشراق في القاهرة الذي أسس عام 1917 فيما أقيمت سفارة للاتحاد السوفيتي مؤخرا في القاهرة، وحاول أن يقنع رئيس المركز بأن يقنع السفارة في القاهرة بعودة العلاقات بين السعودية وموسكو التي لم تقطع بل توقفت، لكن السفارة طلبت من فلبي أن يتجه نحو القنوات الدبلوماسية خصوصا وأن الملك عبد العزيز التزم الحياد حتى عام 1945 ولم يريد إثارة الإنجليز المهيمنين على الجزيرة العربية في ذلك الوقت.

لكن اغتنمت أمريكا في الفرصة التي التقى فيها روزفلت مع الملك عبد العزيز في 14 فبراير 1945 من على السفينة في قناة السويس بعد عودته من اجتماع يالطا حيث أدرك روزفلت أهمية المملكة العربية السعودية وهو يتمتع بنظرة واسعة عن أهمية هذه المنطقة، حيث كان يعلم أنها تمتلك ربع احتياطيات النفط، بل أخبر روزفلت الملك عبد العزيز بأنه رجل أعمال قبل أن يكون رئيسا لأمريكا على عكس ستالين الذي يجعل الأيديولوجية هي الأولوية لديه على غرار إيران في الوقت الحاضر.

نجح روزفلت في تمرير قانون يمنح السعودية مساعدات في إطار التأجير والإعارة ولم يقيم روزفلت سفارة في السعودية فقط بل وسع من البعثات ولم تسعى أمريكا لترسيخ الرأسمال الأمريكي بل لترسيخ الدولة الأمريكية في السعودية، لذلك قال روزفلت للملك عبد العزيز روسيا تقرر مسألة الحرب بينما أمريكا تقرر مسألة السلام.

الآن ترامب يقول فلنجعل أمريكا عظيمة مجددا، قال لأجهزته الاستخبارية إني أعلم ما لا تعلمون، حيث يشعل صدامات متعددة الجبهات مع حلفائه قبل خصومه، حيث ويكيليكس يبرئ روسيا من القرصنة ويتهم أوباما بمحاولة تقويض شرعية ترامب، ويخشى بعض السياسيين الأميركيين من أن يقدم ترامب على اتخاذ إجراء عسكري ضد كوريا الشمالية وهو ما يهدد الاستقرار العالمي وينذر بمواجهة نووية، وهناك خشية من أن يقدم ترامب على حرب تجارية بعد فرض قيود على الواردات ومن الواضح رئيس الأركان القادم يعتقد أن التجارة العالمية لعبة تخسر فيها أمريكا، وعندما يتعلق الأمر بالتجارة فأمريكا ليست قوة عظمى بل الصين وأوربا قد يؤدي إلى ركود عالمي حيث أن الاقتصاد العالمي يتمحور حول سلاسل القيمة العابرة للحدود ستتقلص.

البعض يعتقد أن ترامب سيفاجئ العالم بفرض مزيد من العقوبات على روسيا إلى العقوبات التي أعلن عنها الرئيس أوباما، والبريكست بدأ بفكرة وانتهى بانفصال أطاح برئيس وزراء وهز أسس الاتحاد الأوربي، لذلك هناك مطالبات لترامب بالانضمام إلى أوربا لمقاومة التدخل الروسي، أي أن هناك توجه دولي جديد يقوم على تعددية في جبهات الصراع التي يمتلكها كل طرف بغية ضمان أوراق كثيرة عند التفاوض واقتسام النفوذ.

عام 2017 عربي جديد ولكن بمناعة أقل ومتربصون كثر، يبقى أفضل خيار لمواجهة المتربصين خارجيا القائم على إصلاحات هيكلية كبري تؤطرها رؤية وطنية شاملة في مستوى تطلعات المواطنين.

وهو الدور الذي تقوم به نيابة عن العرب أو لملئ الفراغ العربي حينما انهارت أسعار النفط لم تتدخل السعودية كعادتها في قيادة خفض الإنتاج بل تركت السوق ينهار نتيجة الصراع على تمسك الدول الكبرى المنتجة للنفط حينها أدرك بوتين أن عليه أن يعيد دراسة المستقبل من خلال أخطاء ستالين الذي لم يعير أهمية للملكة العربية السعودية التي اختطفتها أمريكا نتيجة وعيها الجيواستراتيجي خصوصا وأن التحالف السعودي الأمريكي أصابه وعكة نتيجة الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي مكنت إيران من التوغل في المنطقة العربية ولم تعد تثق السعودية في مخططات الولايات المتحدة رغم أنها لا تستطيع أن تستغني عنها لكنها تبحث عن خيارات أخرى لتغطية هذا العجز.

 وكيف نجحت أوبك بقيادة السعودية مرة أخرى لدورها المعتاد في السوق بقيادة السعودية بعد التنسيق مع روسيا، حيث اقتنعت روسيا بنصيحة السعودية بأن نمو مستدام لأسعار النفط مرهون بإجراءات إضافية من المنتجين بعد تقليص مليون وثمانمائة ألف برميل يوميا.

هذا التفاهم بين السعودية وروسيا أوجد ثقة بين الطرفين وظهرت هناك فرص تعاون جديدة لتطوير العلاقات بين الطرفين في العديد من الملفات، وبشكل خاص الملف السوري حيث ترغب روسيا في الحصول على سوريا المفيدة روسيا ولن تقبل بأن تصبح سوريا المفيدة إيرانيا، وهو ما جعل ترامب يشيد بذكاء بوتين مما أثار حفيظة الحزبين الديمقراطي والجمهوري.

تريد إيران من الآستانة استسلام لا هدنة بينما يريد بوتين التوصل إلى حل سياسي لكن إيران تريد مواصلة الحرب حتى الاستسلام أي أن الاتفاق بين روسيا وتركيا فرض على إيران بسبب أن وقف إطلاق النار يربك مشروع إيران بربط سوريا بالعراق لذلك يحاول نظام الأسد امتصاص غضب إيران باستئناف العمليات العسكرية قرب دمشق، وسيكون نظام الأسد ضحية الأطماع والألاعيب الإيرانية، وهو يتحمل نتائج استعانته بإيران التي تمكنت من تثبيت نفوذها في سوريا.

 وبدأ هناك تضارب أجندات بين روسيا وإيران من جهة وبين إيران وتركيا من جهة أخرى، ما جعل مستشار خامنئي يعلن أن حزب الله لن يخرج من سوريا، وبدأت تركيا تتهم دولا ومجموعات بمحاولة عرقلة وقف إطلاق النار في سوريا، وهو ما نجد أن هناك إرهاب في إيران وتركيا ولأول مرة هناك تفجيران يستهدفان أنابيب ثاني أكبر حقول النفط الإيرانية ينقل 500 ألف برميل يوميا تبناه النضال العربي لتحرير الأحواز، بينما في تركيا لإضعاف دورها وإشغالها حتى تتخفف من مطالبها من جهة الأكراد التابعين للولايات المتحدة والسماح لإيران بالحصول على نفوذ أسوة بروسيا أي تقسيم سوريا ولكن هل تقبل السعودية وتركيا بذلك؟

لذلك بدأت إيران بتخريب المبادرة الروسية – التركية لتكرار التجربة الأفغانية إذا لم تنضم الولايات المتحدة إلى تلك الاتفاقية التي ترفض المساس بالأكراد فإن الاتفاقية ستصبح بيد إيران تتلاعب بها، ومنذ سقوط حلب روج حزب الله والمليشيات الأخرى التي تقاتل إلى جانب النظام بان الوجهة المقبلة هي إدلب لكنهم تفاجئوا بالاتفاق بين روسيا وتركيا وفرض هذا الاتفاق على إيران وحزب الله رغم أن روسيا ضمت تركيا وإيران كضامنين للاتفاق، لكن إيران لن تستسلم لمثل هذا الاتفاق الذي يحرمها من التغيير الديموغرافي الذي تمارسه منذ فترة طويلة لتحقيق النفوذ الذي رسمته.

 هذا الاتفاق يحرمها من مخططها لذلك هي ترفض إشراك السعودية في مفاوضات الآستانة، بينما اعتبر الروس مشاركة السعودية مفصلية، وهي تهدف فقط القضاء على المعارضة المسلحة المدعومة من دول الخليج وتركيا والقضاء على الثورة بشكل كامل وتام، وفوجئت إيران بأن المعارضة التي تم ترحيلها بضمانة روسية إلى إدلب من أجل القضاء عليها في إدلب باقية بحكم اتفاق وقف إطلاق النار الشامل في سوريا مما أربكها واختلطت  لديها الأوراق وحتى الأولويات وهي قلقة من خسارة أمريكا وقد تخسر حتى روسيا.

مفاوضات الآستانة يحظى بمشاركة محدودة للأمم المتحدة، حتى لا يحظى بشرعية دولية وتشكيك من قبل الأطراف الدولية خصوصا ألمانيا وفرنسا، ولكن هل ينجح الدور الروسي رغم أنه حصل على موافقة من مجلس الأمن؟، وهل تنجح روسيا في الضغط على إيران من أجل إقامة شراكة مع السعودية من جهة ومع تركيا كممر لتصدير غازها إلى أوربا وتحقق ممرا إلى قواعدها في البحر المتوسط وعلى الأراضي السورية؟، وهل الضغوط الإيرانية على روسيا تنجح في مقاسمة روسيا لها في سوريا كما قاسمت إيران أمريكا النفوذ في العراق؟ وكيف يكون الدورين السعودي والتركي حيال هذا الواقع؟

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق