مرحلة ما بعد الإسلام السياسي

في عام 1517 أي قبل 500 سنة علق مارتن لوثر 95 أطروحة لاهوتية ثورية تحريرية على باب كنيسة ويتنبير، فقسم المسيحيين إلى قسمين، قسم مع الإصلاح الديني ونصف ضده، حيث يرى المؤرخون أن الإصلاح الديني الذي حصل في القرن السادس عشر تزامن معه عصر النهضة الأوربية، ولهذا السبب تحتفل ألمانيا بمارتن وعلى رأسهم ميركل، وكانت المعركة فكرية قبل أن تكون سياسية ولن تحسم سياسيا قبل أن تحسم فكريا، هل أيضا المسلمون هم بحاجة إلى إصلاح ديني وما هو نوع هذا الإصلاح؟.

قدم الباحث الفرنسي أوليفيه روا قراءة عميقة مهمة حول إعادة التفكير في الإسلام السياسي خصوصا بعد ما يسمى بالربيع العربي، ودرس الاتجاهات والتحولات التي تسير من خلالها الحركات الإسلامية، ووجد أن هناك انقسام بين الباحثين والسياسيين وان هناك اتجاه سياقي الذي يرى في أيديولوجيا الإسلاميين انعكاسا للسياقات السياسية والتاريخية التي يوضعون فيها، والاتجاه الثاني الجوهراني الذي يرى أن أيديولوجيا الإسلاميين ثابتة وهم مهما تباينوا فيتفقون في النهاية على هدف واحد.

يتبنى أوليفيه روا نظرية الإدماج التي تؤدي إلى الاعتدال، قد تتوافق نظرته مع نظرة الكاتب الأمريكي ناثان بروان في كتابه المشاركة لا المغالبة، والذي يرى في أيديولوجيات الإسلاميين هي أقرب إلى ردود أفعال منها إلى أفعال، فهم في أغلب الأوقات في حالة دفاع عن النفس ومحاولة حفاظ على الحركة.

أيضا هناك مؤتمر عقد في عمان تناول آفاق الإسلام السياسي وتحولات الإسلاميين بعد الربيع العربي، توصل عدد من الباحثين بأن هناك اتجاه صاعد لدى حركات الإسلام السياسي يهتم بالفصل بين الدعوي والسياسي، وهو فصل مهم في تطور الحياة السياسية لتدخل مرحلة ما بعد الإسلام السياسي كما حدث مع حزب العدالة التركي الذي ترك الجانب الدعوي والإسلامي إلى المجتمع المدني، وتتفرغ الأحزاب السياسية للعبة السياسية بصورة محترفة.

 هناك اتجاه لتعويم الإخوان المسلمين والابتعاد عن الجماعة الأم في مصر مثل حزب الإصلاح اليمني الذي أعلن طلاقه من جماعة الإخوان المسلمين، وكل الدول تواجه الحركات أيا كان توجهها، فمثلا وزراء خارجية تركيا وأذربيجان وإيران اتفقوا على مواجهة الحركات الانفصالية، لكن إيران تدعم المليشيات في الدول العربية، وتقبل تركيا أن تكون داعما لجماعة الإخوان المسلمين بحجة مظلوميتهم، وأرسلت جيشا إلى قطر بعد مقاطعة الدول الأربع لقطر، لكن في الوقت الحاضر هناك مغازلات بين أردوغان ومصر بعد رفضه التقارب الذي قاده الملك سلمان بعد توليه الحكم، خصوصا بعد العمليات الإرهابية التي ضربت في سيناء، حيث صرح أردوغان بأنه يتم طرد الإرهابيين من الرقة إلى سيناء، والآن شكري وزير خارجية مصر اعترف بأن الإساءة وتدخل أنقرة في شؤون القاهرة ليسا بالوتيرة السابقة التي اتهمت مصر الاستخبارات التركية بمحاولة إسقاط مؤسسات الدولة وأمرت بحبس 29 متهما بالتخابر مع تركيا، وصرح بأن مسؤولين أتراك أبلغوا مصر الرغبة في التقارب ستصب في عدم استمرار تعنت قطر في تلبية مطالب الدول الأربع في تفكيك جماعة الإخوان، حتى باكستان صرح وزير الداخلية رفضه تسجيل جماعة مسلحة حزبا سياسيا.

استفادت جماعة الإخوان المسلمين من الغطاء السياسي في الدول الغربية، لكن بعد مقاطعة الدول الأربع لقطر والتوجه نحو القضاء على الإرهاب عقد مركز الأبحاث البريطاني مؤتمرا في واشنطن الذي توصل إلى أن العنف الذي تنفذه تنظيمات مثل داعش والقاعدة أدى إلى تغييب النظر إلى القضية الأساسية، وهي القدرة المستمرة لأيديولوجيا الإسلام السياسي في حشد مجموعات صغيرة، لكنها مخلصة، تضم نشطاء قد ينخرطون في أنشطة سياسية متنوعة، من التحريض إلى ممارسة العنف الثوري إلى الإطاحة بالدول خصوصا بعدما أصبح الغرب مهدد بالعمليات الإرهابية ولم تقتصر فقط على الدول العربية.

أي أن دول الغرب تعاملت مع الإسلام السياسي في بريطانيا بشكل خاص كما ذكر رئيس اللجنة التي كلفتها الحكومة البريطانية بإعداد تقرير عن أنشطة الإخوان المسلمين السير جون جنكينز قائلا أن هناك خلط بين الإسلام والإسلام السياسي، ويكمن تعصب طائفي في صميم ادعاءات الإسلام السياسي ومصدر المشكلة في بريطانيا ليست في الجاليات المسلمة بل هناك عمدة مسلم وهناك اندماجا لكن المشكلة في المجتمعات شديدة الانغلاق في أحياء محددة فشلت بطرق ما في الاندماج.

 بدأت بريطانيا تدرج حسم ولواء الثورة التابعتين للإخوان في مصر وجماعات بحرينية على قائمة الإرهاب هما سرايا الأشتر وسريا المختار، رغم أن جماعة الإخوان المسلمين الأم ترفض الانخراط في العنف، ولم تنسب الجماعتين نفسها لجماعة الإخوان المسلمين، بل يرفعون رايات داعش، ولم تعلن أي جماعة مسؤوليتها عن الهجوم الذي حدث داخل مسجد بقرية الروضة في منطقة بئر العبد بعد تفجير عبوة ناسفة في 24 نوفمبر 2017 وقتلوا 305 شخصا وأصابوا 128 آخرين في أسوأ هجوم يشنه متشددون في مصر خلال تاريخها المعاصر.

تنظيم الإخوان صناعة بريطانية باعتراف جون كولمان وكيل المخابرات البريطانية السابق بهدف إبقاء الشرق الأوسط تحت السيطرة، وولد بعد ظهور العلاقة السرية بين التنظيم والاستخبارات البريطانية منذ أن أسس حسن البنا التنظيم في مصر عام 1928 بتمويل 500 جنيه، حيث كانت تهدف إلى ان يواجه التنظيم تيار القوميين العرب البعيد عن النزعات العقائدية، للحفاظ على انقسامات الشرق الأوسط، ولمنع قيام أي كيان عربي متماسك وأن يصبح دولة داخل الدولة وهو ما يفسر وجود استثمارات للتنظيم بعشرات المليارات في بريطانيا.

الدول الأربع التي قاطعت قطر أضافت منظمتين إسلاميتين مع إحدى عشرة شخصية إلى قائمة الإرهاب، وأتت خطوة تصنيف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي أسسته جماعة الإخوان المسلمين واحتضنته قطر عام 2004 دخلوا في حرب فكرية تجرد مفتي الإسلام غير المسيس من قيمتهم وتسفه فتاواهم الذين أفتوا بتحريم العمليات الجهادية منذ التسعينات من القرن الماضي، لكن الاتحاد العالمي برر العمليات الاستشهادية وسعت لتأصيلها فقهيا.

 أرادت بذلك هدم مؤسسات شرعية كبرى مثل هيئة كبار العلماء في السعودية، ومؤسسة الأزهر في مصر والتشكيك فيهما، وهو ما جعل الشباب يتهمهم بعلماء السلطان ويرفضون مظلتهم ومرجعيتهم والتوجه نحو التنظيمات الجهادية مثل القاعدة وداعش المسيسة من قبل إيران التي تركتها تحتل العراق بل وتركتهم يستولون على الأسلحة، ونفس السيناريو تكرر في سوريا إذ تخلى النظام عن الرقة ودير الزور لداعش، وهي أيضا خدمت أمريكا في التحجج بمحاربة داعش للتموضع في سوريا والعراق، لكي لا تترك العراق لإيران وسوريا لروسيا.

 كذلك نشأ شقيقه المجلس الإسلامي العالمي الذي جاءت ولاتهما إعلان صريح ضد الإسلام غير المسيس، فيما عمل التنظيمان على نشاطات متعددة من الخطاب السياسي الجهادي التحريضي، ومؤسسات دينية موازية تعطي الشرعية لخطابها وأعمالها وتلغي أو تقلل من الإسلام غير المسيس، ووجدت غطاء سياسيا من الغرب بسبب نشأتهما المتزامنة مع القاعدة.

 كانت الغرب يقارن القاعدة بالإخوان المسلمين الديمقراطيين، لكن بعد فوز الإخوان بحكم مصر كان من مساعيها كتابة دستور جديد بالتوافق مع بقية القوى السياسية، ولأنها فازت اعتقدت أن من حقها إملاء رؤيتها على الدستور المقترح، وكانت رؤيتها لكتابة دستور الدولة أنه سيكتب على حساب الأقليات خصوصا سيكون على حساب الأقباط الذي حث الرسول صلى الله عليه وسلم بأن للمسلمين لهم رحما، وكان كذلك على حساب المرأة ومبدأ فصل السلطات وأرادت الهيمنة على القضاء وهو ما أثبت أن جماعة الإخوان غير ديمقراطية.

تاريخيا مشروع الإرهاب يتدثر بالإسلام والكل يحاربه وهو يرفض المحلية ويعتبر نفسه عابرا للحدود، ومثلما تفرعت القاعدة في أنحاء الشرق الأوسط وأوربا، كذلك ظهرت فروع للاتحاد العالمي وولادة المجلس الأوربي للإفتاء عام 1997 وكذلك في الخليج والعراق ولبنان وشمال أفريقيا بحجة نشر الدين الإسلامي ووجدت المقر والتمويل من دولة قطر سهلت عليهم الانتشار إعلاميا وفكريا.

جماعة الإخوان المسلمين حاولت تنصيب أردوغان خليفة لهم من أجل الحصول على دعم دولة كبيرة، لكن عندما تمكنت الجماعة من النجاح في انتخابات حكم مصر نصحهم أردوغان بحل جماعتهم وتأسيس حزب يمارس الديمقراطية، لكن الجماعة لم تنصاع لنصيحة أردوغان، وللإنصاف حتى حسن البنا مؤسس الجماعة عندما ارتكب النظام المسلح الخاص بالجماعة والذي أنشأه بنفسه تبرأ من الاغتيالات التي ارتكبها ووصف مرتكبي حادث مقتل النقراشي باشا رئيس الحكومة المصرية في ديسمبر 1948 بأنهم ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين.

الدول الأربع التي قاطعت قطر ترفض ظاهرة الكيانات الموازية للدولة وعدم التعامل مع جماعة بوصفها أكثر إسلاما من غيرها بمعني تريد هذه الدول التوصل لصيغة تفكيكية لجماعات الإسلام السياسي مقابل إبقاء على الدولة الوطنية ودولة المؤسسات التي لا تؤمن بتفوق المسلم على المسيحي والسني على الشيعي وتفوق الإخواني على السلفي الذي هو بمثابة منهج طائفي تعصبي يرفضه الإسلام، وهو ما يتطلب براءة من أنقرة حتى تشعر قطر بأن الدولة التي تحميها تخلت عنها وتعود لمحيطها الخليجي والعربي.

الدول الأربع ترحب بتركيا كنموذج في المنطقة ليس برفقة إسلام سياسي معتدل أو متشدد بعدما ثبت أن كليهما واحد وأنه ضد بناء الدولة الوطنية وهو يكرس للنعرة والمذهبية في الصعود والانتشار، والمطلوب من تركيا نموذجا للاستقرار السياسي والدولة الديمقراطية الحديثة.

لا يمكن أن تقبل السعودية كدولة محورية ومركزية أن تترك رئيس دولة إقليمية كبيرة مثل تركيا إلى ارتهان الدولة المصرية وهي دولة محورية وتوظيفها في مشاريعه لتبتلعها دوامة الصراعات الإقليمية والمذهبية وتنخرط في دعم نفوذه.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق