مراجعات في أمن الخليج (2)

إيران واللاعبون الجدد

تبرز الأهمية الجيوستراتيجية لأمن الطاقة لكل دول العالم من خلال التموضع الجغرافي الطبيعي لهذا المورد خصوصاً عندما يكون الحديث عن أهم مصادره وهو النفط وقرينه الغاز الطبيعي، حيث تنفرد مناطق بعينها دون غيرها بامتياز وجود النفط بغزارة وبكميات اقتصادية ذات كفاءة إنتاجية عالية، تضعها تحت العدسة الجيوستراتيجية لدول العالم، وتحديداً التي يرتفع فيها الاستهلاك اليومي للطاقة.

ومنذ اكتشاف النفط وتزايد الحاجة العالمية إليه، أصبح بحد ذاته هدفاً للقوى الدولية المتنافسة وجرت التقسيمات السياسية للحدود على أساس تقاسم النفوذ والأدوار بعد صراع بين القوى الاستعمارية، ويعتبر تمركز النفط في منطقة دون أخرى الأساس الذي تم تقسيم المناطق النفطية وفقاً له أي بمعنى آخر وفقاً حددت الخريطة الجيوسياسية للعالم، وبرزت بالتالي أسماء الدول التي تم اكتشاف النفط ضمن أراضيها، وذلك على الرغم من حقيقة أن الدراسة الجغرافية المحضة هي الأساس في هذا المجال، وبفعل ذلك التوجه الجيوسياسي، احتلت الأرض “الوطنية” أهمية فائقة، وبرزت في مناطق عديدة من العالم صراعات على مناطق حدودية يعتقد بأنها غنية بالنفط (1). بل إن بعض حدود الدول قد رُسمت في فترة زمنية معينة وفقاً للمناطق النفطية التي تم التعرف عليها، أي أن الحدود السياسية التي تشكل محوراً هاماً من محاور الجغرافية السياسية التي تحددت وفق استراتيجيات بنتها دول مهيمنة في لحظةٍ من لحظات التاريخ.

وعليه يتضح تماماً الارتباط القائم بين الاستراتيجيا والجغرافية السياسية لدول العالم، لتكون الجيوستراتيجيا بالتعريف: هي علم الإدارة الاستراتيجية للمصالح الجيوسياسية (2)، هذه المصالح الجيوسياسية التي نفهمها في أدبياتنا العربية بالجيوبولتيك. على اعتبار أن الجغرافيا السياسية تدرس الوحدة السياسية كما هي، بينما الجيوبولتيك تتناول الوحدة السياسية في نظرة مستقبلية كما يجب أن تكون محتوية بذلك مفهوم المجال الحيوي للوحدة السياسية (3). والذي يتحدد وفق اعتبارات الاستراتيجية للدولة -أي المجال الحيوي- وأهدافها.

وطالما أن كل مفهوم من المفاهيم السابقة ينطوي على محددات إجرائية ترسم الخطوط الأساسية في أرض الواقع كممارسات تنعكس في اتجاهين متفاعلين هما الأهداف الاستراتيجية للدول الفاعلة والمكتسبات المتوقعة أو المحققة فعلاً. لذا توجب أن نقف عندها وعلى العناصر المكونة لمعادلاتها ورصد المتغيرات والثوابت فيها. وبتعميم مقبول نسبياً يمكن القول بأن الاستراتيجية (4)، تتبلور وفق تراتبية معينة تشكل عناصرها الملهمة في بناء صورة مستقبلية مطلوبة وهي: (الحاجة- الأزمة- الإرادة- القدرة- الهدف- الأدوات- الزمن). التي تشكل مؤشرات يمكن رصدها في علم الجيوستراتيجيا.

 

نتائج جيواستراتيجية

 

1- انسحاب أمريكي وتقدم إيراني:

يتبدل المشهد الاستراتيجي الدولي على نحو عميق ربما كانت ملامحه تأخذ بالتبلور شيئاً فشيئاً مع تصاعد الدور الروسي المنتعش تحديداً بعد حرب اوسيتيا الجنوبية التي شنتها روسيا على جورجيا إثر الأزمة التي اندلعت صيف عام 2008، وتزامنها مع الأزمة المالية الإقتصادية العالمية، التي شكلت عبئاً ثقيلاً على الإدارة الجديدة بقيادة الرئيس باراك أوباما، كما اختلف الشرق الأوسط عمَّا كان عليه مع بداية الإدارة في عام 2001، فعلى عكس ما كان متوقعًا زادت الأمور سوءًا في أكثر من بلد عربي.

لقد ادت الكثير من التغيرات في المنطقة إلى إخلال ميزان القوى لصالح إيران؛ مما زاد من النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط في صورته الكلية، بجانب السعي الإيراني لتخصيب اليورانيوم ضاربة بعرض الحائط قرارات مجلس الأمن، وغير مهتمة بالتهديدات الأمريكية بشن ضربات إجهاضية ضد المنشآت النووية الإيرانية، التي راجت في فترة الرئيس الامريكي السابق جوج بوش الابن.

كما تراجع الدور الأمريكي في عديد من الاتفاقيات والمصالحات العربية، فقد غابت واشنطن عن اتفاق الدوحة الذي وضع حدًّا للانقسام اللبناني – اللبناني، وعن المفاوضات الإسرائيلية – السورية، وإن كانت كل تلك الاتفاقيات تحمل في طياتها وجودًا أمريكيًّا إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت غائبة عن الصورة الكلية لتلك الاتفاقيات.

كل هذا وغيره يؤشر إلى تراجع السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وهو الامر الذي يفرض على الدول العربية ودول الخليج على وجه الخصوص مراجعة كل ما يتعلق بقواها الذاتية وتمكين نفسها من مواجهة التراجع الامريكي الذي صب حتى الآن لصالح إيران في كل من العراق وسوريا ولبنان وإلى درجة ما في فلسطين. وفي إطار سعي مراكز الأبحاث الأمريكية لصياغة استراتيجية جديدة للولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، أطلقت مؤسسة بروكينجز، مشروعًا بحثيًّا ضم ما يقرب من خمسة عشر باحثًا من المركزين، للبحث عن استراتيجية جديدة للتعامل مع قضايا منطقة الشرق، لاسيما التأزم الأمريكي في العراق، والصراع العربي – الإسرائيلي، ومنع الانتشار النووي والأزمة النووية الإيرانية، والإصلاح السياسي والاقتصادي، والحرب على الإرهاب.وقد خرجت توصياتهم وأبحاثهم في كتاب جديد حمل عنوان “استعادة التوازن: استراتيجية شرق أوسطية للرئيس المقبل، عن مؤسسة بروكينجز.

كانت خلاصة هذا المشروع والكتاب محور مقال متميز لرئيسي المركزين، ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية، ومارتين إنديك مدير مركز سابان، بمجلة الشئون الخارجية التابعة لمجلس العلاقات الخارجية، ستصدر في عددها القادم لشهري يناير-فبراير القادمين تحت عنوان ” بعيدًا عن العراق: استراتيجية أمريكية جديدة في الشرق الأوسط.

وفي مقالتهما يحاول هاس وإنديك الرد على كثيرٍ من التساؤلات بشأن أهمية منطقة الشرق الأوسط للولايات المتحدة من قبيل أن المنطقة ليست بالأهمية لكي توليها الإدارات القادمة من دماء وثروة الولايات المتحدة، ولذا على إدارة أوباما تركيز سياساتها على منطقة أخرى. فحسبما يرى الكاتبان فإن منطقة الشرق الأوسط هي التي تفرض نفسها على أجندة الرئيس الأمريكي؛ فما يحدث في منطقة الشرق الأوسط لا يقتصر على المنطقة بل تكون له تبعاته دوليًّا. فالحرب على الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل وأمن الطاقة والتعامل مع التحديات الدولية المعاصرة سيتطلب التعامل مع تحديات منطقة الشرق الأوسط ككل، ولهذا أكلاف كبيرة لم تعد الولايات المتحدة ترغب في دفعها.

2- عودة اللاعب الروسي:

لم تكن الأزمة السورية مقدمة الولوج الروسي إلى قلب معادلات الشرق الأوسط بل سبقتها مقدمات لاسترجاع الدور الروسي الذي تراجع بشكل كبير بفعل انهيار المنظومة الشرقية، لتعود هذه المرة مستفيدة من تراجع الدور الأمريكي ورغبة بإحياء الدور الذي لعبته روسيا فترة الحرب الباردة وإن بسياق مختلف بالإضافة إلى انتعاش اقتصادي يعود إلى ارتفاع العوائد المالية من تصدير النفط مستفيدة من الريع المرتفع له بمقابل الأزمة المالية الإقتصادية العالمية، ومدفوعة هذه المرة بشعور قومي روسي يريد رد الاعتبار لأمجاد الروس بحامل أيديولوجي جديد. فعلى سبيل المثال لو رصدنا رد الفعل الروسي على المخطط التركي-الإسرائيلي-الأمريكي لعسكرة سواحل شرقي المتوسط، فقد تبدى من خلال إعادة تأهيل ميناء طرطوس العسكري الذي كان معداً لأمور الصيانة في عام 2006.

وقد ذكرت “كومرشانت” أن “مصادر وزارة الدفاع الروسية تشير إلى أن قاعدة البحرية في طرطوس ستمكن روسيا من تدعيم مواقفها في الشرق الأوسط وضمان أمنها وتنوي روسيا نشر نظام دفاع جوي حول القاعدة لتوفير غطاء جوي للقاعدة نفسها، وأجزاء حساسة من الأراضي السورية” (2 حزيران/يونيو 2006)، وتقع طرطوس استراتيجياً على بعد 30 كلم من الحدود اللبنانية، بالإضافة إلى هذا، توصلت موسكو ودمشق إلى عقد اتفاقية لتحديث دفاعات سورية الجوية، ومن أجل برنامج لدعم قواتها البرية، وتحديث مقاتلاتها من طراز ميج – 29، وغواصاته (5) ، ولهذه التطورات متضمنات بعيدة المدى في حالات تصاعد النزاع، وعليه يصبح من المبرر لسوريا في حالة رصدها لتلك الاستراتيجية التي تهدد أمن المنطقة في أن تبني استراتيجية دفاع مع تلك القوى العالمية وعلى رأسها روسيا، والقوى الإقليمية المتضررة بشكل مباشر منها وعلى رأسها إيران ، اللذان يدافعان بشكل مستميت عن حليفهما بشار الأسد بعد انتفاضة الشعب السوري على نظامه.


نحو استرتيجية جديدة لأمن الخليج:

إن القراءة البانورامية للاستراتيجيا وكيفية إدارتها من علم الجيوستراتيجيا – بالضرورة وبالحالة الطبيعية يجب أن تشمل القراءة للتحولات العالمية والإقليمية ومدى تأثيرها على الوحدة السياسية من جهة، والأمن الإقليمي من جهة ثانية. وكيف يمكن لها أن تواكب أو تتكيف أو تتفاعل أو تتحدى تلك التحولات مراعيةً بذلك أهم منطق يحكم العلاقات بين الدول ألا وهو منطق المصلحة الوطنية والقومية. فلا وزن أبداً لمنطق الصداقة ومفرداتها في عصر كوني يتحدث لغة المصالح.

لم تعد ملامح الإستراتيجية العربية التي كانت قد تجلت في التاريخ المعاصر في استخدام سلاح النفط عندما تمكن العرب (6) عام (1973) من خلال خفض الإنتاج وفرض حظر بترولي على الدول الصديقة لإسرائيل لإدراج قضاياهم في مقدمة جدول أعمال الولايات المتحدة. إذ نجحوا آنذاك في خلخلة التحالف الأوروبي الياباني الأمريكي ودفعوا بفرنسا واليابان باتخاذ مواقف مستقلة من أجل حماية وارداتهم من البترول. مجبراً الولايات المتحدة على القيام بدور أكبر للوساطة بين العرب وإسرائيل للتوصل إلى تسوية بعد حرب أكتوبر. ومن ناحية أخرى لم يتسبب سلاح البترول في إحداث أي تغيير في الاستراتيجية الأساسية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. فلم تتحول فجأة من تحالفها مع إسرائيل إلى تأييد القضية العربية. لقد كان البترول سلاحاً له تأثيره المحدود آنذاك والذي تنخفض درجة تاثير بشكل أكبر اليوم مع اتجاه الولايات المتحدة إلى اعتماد استراتيجية جدية في تحقيق أمن الطاقة.

لماذا لم يكن سلاح البترول أكثر فاعلية ؟ ينطوي جزء من الإجابة على هذا السؤال على تبادل علاقات الاعتماد المتبادل. فقد كان للسعودية التي أصبحت الدولة الأساسية في سوق البترول، استثمارات كبيرة في الولايات المتحدة. فإذا حاولت السعودية تدمير الاقتصاد الأمريكي بشكل زائد، فسوف تلحق بمصالحها الاقتصادية خسائر كبيرة أيضاً. علاوةً على ذلك، كانت السعودية تعتمد على الولايات المتحدة في النواحي الأمنية. وعلى المدى البعيد أصبحت الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة القادرة على الحفاظ على توازن مستقر للقوى في منطقة الخليج وهذا ما يجب مراجعته بشكل جذري والبدء جدياً ببناء القدرات الذاتية لتحقيق أمن الخليج.

ولأن المصالح تحتل مقدمة المسرح وهي مهددة بشكل مباشر هذه المرة ، فإن الصيغة الاستراتيجية الدفاعية الجديدة يجب أن تأخذ بالحسبان تلك التحولات. لاسيما مع رغبة إدارة أوباما التحاور المباشر مع القيادات الإيرانية. إذ ترى الكثير من الدوائر البحثية الأمريكية أن باقي الخيارات الأخرى أظهرت عدم فاعليتها في التعامل مع إيران، فقد فشلت سياسات الاحتواء والعقوبات في إثناء إيران عن مساعيها لامتلاك تكنولوجيا نووية غير سلمية. كما أن الضربات العسكرية الإجهاضية فاعلة في إثناء إيران عن برنامجها النووي لبضع سنوات فقط، مع إمكانية تعرض القوات الإسرائيلية والأمريكية في العراق وأفغانستان إلى ضربات انتقامية إيرانية. كما أنه ليس هناك خيار واقعي لإسقاط النظام الإيراني من خلال عمل عسكري أو تدعيم قوى المعارضة الداخلية.

 

مازن محمود علي

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

 

المراجع:

(1) بحث بعنوان “النفط والجيوستراتيجية المعاصرة”, علوم البيئة والطاقة:

SCIENCE.ARABHS.COM

(2) زبيغنييف بريجنسكي: “رقعة الشطرنج العظمى”, ترجمة: سليم أبرهام, منشورات دار علاء الدين, ط2, دمشق,2003, ص8.

(3) د. أكرم الأحمر: “محاضرات في الجغرافيا السياسية”, كلية العلوم السياسية, جامعة دمشق, 2006.

(4) لقد ارتبط مفهوم الاستراتيجية بتلك الخطط الهادفة في ظل العلوم العسكرية حيث بقي هذا المفهوم عسكرياً إلى أن بدأ يأخذ استخدامات المعاني السياسية يربط بين هذه الأهداف العامة للدولة والخطط الكفيلة بتحقيقها متحددة في إطارها الزمني المدروس ـ الباحث.

(5) مايكل شودوفيسكي، “الحرب على لبنان.. والمعركة من أجل النفط”, مأخوذ من موقع الأبحاث “GLOBAL”

WWW.TALEEA.COM

(6) جوزف س. ناي, الابن: “المنازعات الدولية ـ مقدمة للنظرية والتاريخ” , ترجمة: د. أمين الجمل, د. مجدي كامل, الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية, ط1, القاهرة, 1997, ص251.

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق