قراءة في تداعيات الانقلاب العسكري في تركيا: محلياً وإقليمياً ودولياً

بدت الطريقة التي أديرت بها محاولة الانقلاب التركية الفاشلة للكثيرين بأنها تقليدية بل وصفها البعض بأنها كانت بدائية، لكن قد لا يتنبه كثيرون بأن هدف الانقلاب قد يكون فقط التخلص من رجب طيب أردوغان، قد يكون بدعم استخبارات عالمية وخصوصا الولايات المتحدة، وهي الوحيدة التي لديها مصلحة في التخلص من أردوغان، رغم نفي الولايات المتحدة أن يكون لها يد فيما حصل داخل تركيا بعد تصريحات داخل دهاليز السياسة التركية تتهم الاستخبارات الأمريكية.

يلاحظ من الموقف الدولي بأنه كان يخفي حيادا رسميا تجاه المصير الذي يمكن أن يلقاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المثير للجدل، التي وضعت سياسات أردوغان في مواجهة مع جهات دولية وإقليمية، وبرود في علاقة تركيا بالولايات المتحدة التي تحدت ولاءات أردوغان، وراهنت على أكراد سوريا لمواجهة داعش، ما جعل أردوغان يعيد علاقاته مع إسرائيل وروسيا، مما أغضب الولايات المتحدة، بل نسف كل مخططاتها، وإن كانت العلاقة مع إسرائيل مطلب أمريكي.

يكشف الغموض في المواقف الدولية في الساعات الأولى انزعاجا من أسلوبه وطموحاته في لعب ورقة الإرهاب مثلما تلعب بها الولايات المتحدة وإيران، مما أثار الكثير من اللغط، لذلك كثير من الفضائيات الغربية الناطقة بالعربية سمّت ما يجري ليل الجمعة السبت 16 يوليو 2016 بالانتفاضة، وحتى فضائيات عربية خصوصا في دولة مصر نتيجة الحالة العدائية بين البلدين بسبب استضافة تركيا جماعة الإخوان المسلمين بعد خروجهم من قطر.

لم يفهم كثير من المحللين رغم أن أردوغان أكثر شخصية سياسية إثارة للانقسام في تاريخ الجمهورية الحديثة، ويعتبر معارضوه قائدا يزداد تسلطا ويسكت أي انتقادات، ويواجه حزب العدالة والتنمية اتهامات بالسعي لفرض قيم إسلامية على المجتمع، وتزعج الغرب بأنه يرسي ديمقراطية مسلمة، وهي مسألة من شأنها أن تثير توترا مع الجيش الذي طالما اعتبر حامي العلمانية، لكن يعترف الجميع بأن أردوغان أحدث تحولا كبيرا في تركيا، حيث يسعى أردوغان إلى أن تصبح تركيا بين أكبر عشرة اقتصادات في العالم في الذكرى المئوية لتأسيسها في 2023، بعدما أطلق سلسلة من مشاريع البنى التحتية الطموحة ومنها شبكة سكك للقطارات العالية السرعة ونفق تحت مضيق البسفور.

لذلك الكل يجمع على أن عملية الانقلاب بتركيا غريبة في زمن الحداثة التقنية، والمحاولة أشبه بما حدث في شيلي في عام 1973 وبتركيا عام 1980، وهي محاولة تنتمي للقرن العشرين وانهزمت أمام تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين وقوة الشعب التي استخدم الرئيس أردوغان فيس تايم لبث رسالة حية على الهواء على محطة سي إن إن ترك، وقال في رسالته دعونا نحتشد كأمة في الميادين، قال أعتقد أننا سنتخلص من هذا الاحتلال الذي وقع في فترة وجيزة، وقال أنا أدعو شعبنا الآن للنزول للميادين وسنعطيهم الرد الضروري، وكذلك فعل سلفه الرئيس عبد الله غول، وتحدث رئيس الوزراء السابق للجزيرة من هاتفه ووصف محاولة الاستيلاء على السلطة بالفاشلة، كما ساهم زعماء أحزاب المعارضة الثلاثة بإدانة الانقلاب، واستخدم رجال الدين المؤيدون لأردوغان ولأول مرة مكبرات الصوت في المساجد لحث الأتراك على النزول للشوارع تحت راية الجهاد.

وسبق أن سيطرت محاولة انقلابية فاشلة في روسيا ضد جورباتشوف، ونجح مدبرو الانقلاب في الاستيلاء على السلطة ثلاثة أيام وحصلوا على اعتراف مخجل من الرئيس الفرنسي ميتران، قبل أن يحشد الزعيم الروسي بوريس يلتسين الجماهير ضد الانقلاب ويقف على ظهر الدبابة في موسكو ليخطب بالناس.

الفرصة ذهبية وتاريخية يمكن استغلالها من قبل أردوغان في تطهير المؤسسات خصوصا الجيش والشرطة والقضاء من العناصر الموالية للحكومة الموازية التابعة لغولن الموجود في الولايات المتحدة، ليبدأ سريعا بتصفية حساباته مع الخصوم الذين لم يتمكن منهم في السابق بسبب الأزمات المتكررة التي تعيش تركيا تحت حكمه، حيث تمكن من اعتقال أكثر ستة آلاف من الانقلابيين، بعدما اعتبر أن القضاء لم يسهل مهمته في تفكيك منظمة الخدمة لخصمه فتح الله غولن إلى عزل أكثر من ثلاثة آلاف قاضي.

ساعات قليلة حملت عناوين كثيرة تجسدت في التناغم في المواقف التركية خصوصا في المواقف التي كانت تختلف مع أردوغان، وهي فرصة لأردوغان أن يبدأ عهد توافق، واعتماد سياسة أكثر توافقية، ويمكن أن يستخدم أردوغان نتائج الانقلاب في تحقيق طموحاته في إقامة نظام رئاسي على غرار النظام الرئاسي في الولايات المتحدة بأكثر صلاحيات، قد تمارس تجاهه ضغوطا من داخل حزبه التخلي عن الشعارات، كما أن الانقلاب فرصة نادرة لأردوغان من أجل الاستمرار في تطبيع الأوضاع مع المحيط الإقليمي.

ارتفعت نبرة أردوغان تجاه الولايات المتحدة بتسليم غريمه فتح الله غولن أو ترحيله، وإلا ستعتبر الولايات المتحدة دولة معادية وغير صديقة، من جهته أعلن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري السبت من لوكسمبورغ أن بلاده ستساعد أنقرة في التحقيق في محاولة الانقلاب، داعيا السلطات التركية إلى تقديم أدلة صالحة ومتينة تثبت تورط فتح الله غولن، رافضا التصريحات والتلميحات التي اتهمت الولايات المتحدة بالضلوع في المحاولة الانقلابية، وأن هذه التصريحات والتلميحات تضر بالعلاقات الثنائية بين البلدين.

في المقابل فرضت تركيا طوقا أمنيا على قاعدة انجرليك الجوية في محافظة أضنة الجنوبية، حيث تتمركز طائرات أمريكية ولدول أخرى من التحالف الدولي لمحاربة الجهاديين في سوريا، وترفض الدخول والخروج من القاعدة وقطعت الكهرباء عن القاعدة، وهو ما يجعل تركيا تتجه إلى ترتيبات إقليمية بعدما كانت عاجزة عن تنفيذها.

نظرة الغرب ستتغير إلى أردوغان بعدما كان ينظر إليه أنه يضرب بعرض الحائط الأسس الديمقراطية، بينما اليوم هو يدافع عن الديمقراطية، وكيف تصرف بشجاعة بعدما كان محاصرا ودعا الشعب إلى مواجهة الانقلاب وحوّل نقطة الضعف إلى نقطة قوة، التي تمكنه من توحيد الشعب التركي.

التداعيات التي وصلت إليها الأوضاع في تركيا جعلت دولا متعددة تحبس أنفاسها، وطرحت سؤالا مهما حول أسباب فشل تدخل فئة انقلابية من الجيش التركي، فيما نجح تدخل الجيش في مصر مرتين، إحداهما في ثورة 25 يناير 2011، والثانية في 30 يونيو 2013.

لكن هذه المقارنة خاطئة، وهو سؤال في الأغلب مطروح من قبل جماعة الإخوان المسلمين ومناصريهم، لكن من يقرأ المشهدين يجد أن هناك فرقا جوهريا بين الموقفين، بل كان تدخل المؤسسة العسكرية المصرية أكثر حنكة، وإنقاذاً للبلد من أن ينجر إلى الحرب الأهلية، كما يدور في العراق وسوريا وليبيا.

بل حافظ الجيش على ديمومة الدولة، وبحمايته تمكن حزب العدالة والتنمية الوصول إلى الحكم بزعامة الإخوان المسلمين، لكنهم أسقطوا أنفسهم ولم يستمعوا إلى نصيحة أردوغان الاعتراف بالعلمانية وهي لا تتعارض مع مفاهيم الدين الإسلامي كمخرج لهم في صهر بقية الكيانات داخل الدولة حتى يتمكنوا من الاستمرار في الحكم.

خرج الشعب المصري للمطالبة بإنهاء حكم الإخوان، وتدخل الجيش بعدما رفض حزب العدالة والتنمية الاستجابة لمطالب الشعب، مثلما رضخ الجيش للشعب ضد حكم حسني مبارك الذي ينتمي للجيش، ومهمة الجيش المصري الحفاظ على تماسك الدولة حتى لو اتهم بأنه قام بانقلاب على رئيس مدني، لا سيما أن المقدمات التي اتخذها الجيش بدعم سعودي خليجي بشكل مباشر أو غير مباشر عززت تحركاته التالية، وفوتت الفرصة على من اتهموه بالانقلاب، مما مهد الطريق على الحصول على دعم عربي ودولي في منح شرعية مطلوبة للمضي قدما في ترتيبات عزل الرئيسين حسني مبارك ومحمد مرسي.

ومن يلاحظ الفرق بين الرئيسين محمد مرسي وأردوغان في طلب خروج الشعب ضد الانقلاب في تركيا، وضد الجيش في مصر، خرج الشعب في تركيا، بينما رفض الشعب في مصر الخروج، بل فشلت كل المحاولات في تحريك الشارع لنصرة جماعة الإخوان.

وهذا فرق لم ينتبه له عسكريو تركيا الذين قاموا بالانقلاب، وعدم قدرتهم على فهم عقيدة الجيش المصري، حيث أن ولاءاته وطنية بالأساس، والدليل وقوفه خلف مشهدين نادرين للحشود المصرية التي خرجت ولديها مطالب بعدما فقد كل من الرئيسين محمد حسني مبارك ومحمد مرسي شرعيتهما المستمدة من الشعب.

بينما كل الظروف كانت ضد الانقلابيين الأتراك من الجيش التركي، حتى أن البعض اعتبرها مسرحية، بل بدا أنه محكوم عليه بالفشل، وهو أمر أشاع بأنه من الممكن أن يكون انقلابا كاذبا، واعتبره البعض أن ما جرى هو انقلاب الإسلاميين على الإسلاميين وليس انقلابا من داخل المؤسسة العسكرية، بعدما اتهمت تركيا حركة (حزمة) التي أنشأها غولن بأنها تقف وراء محاولة الانقلاب، وهو الأمر الذي أكده أردوغان، لكن الحركة نفت بدورها أي اتهامات بتورطها في محاولة الاستيلاء على السلطة.

وليس مستبعدا أن تشهد المرحلة المقبلة بتوجيه رسائل سلبية للمجموعات الإخوانية على أراضيها في سياق رغبتها في الانفتاح على مصر

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق