في أبعاد العنف الديني عند ابن بيه

تعيش المنطقة العربية والإسلامية حالة تصعيد عنفيٍّ غير مسبوق، تتمحور حول الهُوِيّات الدينية كانحرافٍ للمسار الثوري، نتيجة الضغط الدولي والإقليمي، الذي أتاح لقوى الاستبداد في هذه المنطقة أن تدفع المسارات الثورية نحو مساراتٍ عنفيةً ذات صبغةٍ دينيةٍ تُأخِّر استحقاق الانتقال الديمقراطي أو حتى السلمي للسلطة.

وإن كان النظام الإيراني كان قد افتتح فصلاً جديداً في الصراع الديني في المنطقة العربية، عبر إسناد نظام الأسد بميليشياتٍ ذات صبغةٍ دينيةٍ صرفة، وكان حريصاً على هذه الصورة لدى الطرف الآخر لجرّه إلى لعبةٍ يجيد الإمساك بخيوطها –ولو مرحلياً-، وهو ما استطاع فعله عبر استدعاء عديدٍ من الأطراف إلى الحرب الدينية التي تتسع أكثر فأكثر، ولم تعد مجرد حربٍ سنية-شيعة، بل انتشرت على مستويين سني-سني في سورية والعراق، ويدخل الغرب في أتونها بما يُحضِّره لحربٍ تبدو ملامحها دينية هي الأخرى مسيحية-إسلامية، كمرحلةٍ ثانيةٍ من حروب بوش الابن التي استعار لها مسمى “الحروب الصليبية”.

في هذه المقالة، نحاول الإضاءة على بعض ما جاء في فكر العلامة الإسلامي عبد الله بن بيه حول تأطيرات هذا العنف الديني في الفكر الإسلامي وما يقابله.

أولاً- في خطورة التعميم:

يحذّر ابن بيه من إطلاق أحكامٍ عامّةٍ وشاملةٍ على ديانةٍ أو قومٍ نتيجة سلوكٍ أبداه بعض من الأفراد المنتسبين لهم، سواء أكان المستهدف في هذا المقام الإسلام أو المسيحية.

حيث يستنكر زعم قوم بأنّ الإسلام سيفٌ مسلولٌ ورمحٌ مشرع، ويرى أنّ من يراجع أسباب النزول وتاريخ تطور النزاع بين الإسلام وخصومه، يمكن أن يفهم أنّه لا تعارض بين الآيات الحاثّة على القتال كقوله تعالى “وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين”، والتي وردت في سياق حرب قائمةٍ بالفعل، والآيات التي تحدد هدف القتال بأنّه دفاعي؛ إذ إنّه لا يجوز اقتطاع الآيات عن سياقها الكلي كما يحاول المستشرقون وتلاميذهم أن يفعلوه. وبهذا المنطق يمكن اعتبار المسيحية دين حرب، إذا حكمنا عليها من خلال الفقرة 24 الواردة في إنجيل متى الإصحاح العاشر، مما نسبه إلى سيدنا عيسى عليه السلام “لا تظنوا أنّي جئت لألقى سلاماً على الأرض، ما جئت لألقى سلاماً بل سيفاً” (1).

إذ يرد ذات النهج التعميمي على أصحابه من خلال مقارنة ذلك بالنصوص التالية من العهد القديم لنرى كيف كان هذا الدين الحنيف رحمة للعالمين. ففي التوراة مثلاً تُقسّم الشعوب إلى قسمين: فبخصوص الفئة الأولى يطلب يهوه من شعبه أن يعرضوا عليهم شروطاً للسلام (سفر التثنية: إصحاح 10:20) فإذا قبلوا واستسلموا فعليهم أن يكونوا عبيداً لإسرائيل بالسخرة (التثنية: 20 ـ 11). أما إذا لم يستسلموا لكم سلمياً وحاربوكم وبعد ذلك انتصرتم عليهم فاقتلوا كل رجالهم بحدّ السيف (التثنية:13 ـ 20). أما “النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها” يأخذها المنتصر غنيمة (التثنية 20 ـ 14). إلّا أنّ هذا الاستعمال المصنّف والمدرّج لا ينطبق على الشعوب غير العبرانية المقيمة داخل أرض الميعاد، فهؤلاء تحلّ عليهم اللعنة، وهو مصطلح غالباً ما يترجم “بالحرمان أو الدمار المقدّس أو لعنة الدمار”. وفي سياق لاهوت سفر التثنية فإنّ إحلال اللعنة على جماعة إنّما هو صنو للإبادة الكاملة لحياتهم الشخصية والاجتماعية والروحية، كما يقول الباحث الألماني توماس شفلن (2).

ثانياً- الحرب في الإسلام:

الحرب في الإسلام، كما يراها ابن بيه، إنّما هي حرب دفاعية وليست لإجبار الناس على الدين. كما يرى ابن تيمية في رسالة القتال حيث يقرر أنّ: “حروب النبي صلى الله عليه وسلم التي خاضها ضد المشركين (27 غزوة)، كان المشركون فيها هم المعتدين أو المتسببين بأسباب مباشرة أو غير مباشرة، وهذا يؤكد أنّ الأصل مع الكفار السلم لا الحرب، ولو كان الأصل معهم الحرب لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبدؤهم بذلك والمتواتر من سيرته أنّه لم يبدأ أحداً بالقتال”. وهذه الحرب تخضع لكل معايير الفضيلة -ردّ على العدوان-:

  • لا إفراط فيه في استعمال القوة.
  • إسعاف للضعفاء.
  • إفساح المجال للحرية الدينية.
  • ولها ضوابطها الشديدة في الحفاظ على المدنيين والضعاف والعمال الفلاحين والأجراء ورجال الدين والنساء.
  • المحافظة على الأشجار المثمرة وعلى الحيوانات والمنع من حرق الغابات وإيذاء غير المقاتلين.
  • احترام المعاهدات احتراماً شديداً حتى ولو كانت في بعض الأحيان تبدو مجحفة.

فهي إذاً كما يقر ابن بيه، حرب نظيفة، فيها قيادة واحدة، وليست لعبة دموية يقوم فيها الجيش بقتل من يشاء وينهب ما يشاء ويهجم ويُغِير على من يشاء. إنّها حرب ضرورة، وهي بلغة العصر حرب يؤيدها القانون الدولي والمعاهدات الدولية وميثاق الأمم المتحدة وبخاصة المادة 51 (3).

فيما يبقى الجهاد مفهوماً أوسع من مفهوم الحرب عند ابن بيه. فالجهاد هو مصدر من جاهد جهاداً ومجاهدة، ومعناه استفراغ الوسع، أي بذل أقصى الجهد للوصول إلى غاية في الغالب محمودة. وهو في الإسلام كما يقول الراغب في مفرداته على ثلاثة أضرب حسب عبارته: مجاهدة العدو الظاهر، مجاهدة الشيطان، مجاهدة النفس. وينوه ابن بيه إلى أنّ مفهوم الجهاد في الإسلام ليس مرادفاً دائما للقتال، فالجهاد مفهوم واسع، فهو دفاع عن الحق ودعوة إليه باللسان وهذا هو المعنى الأول لقوله تعالى “وجاهدهم به جهاداً كبيراً” في سورة الفرقان، أي أقم عليهم الحجة وقدم لهم البرهان تلو البرهان (4).

ويؤكد العلامة ابن بيه، أنّ الإسلام أقام العلاقة مع المخالف في الدين، على المودة والبر، ما لم يعتد علينا “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين”. يقول ابن العربي المالكي: أي تعطوهم قسطاً من المال. ويلاحظ في ضوء ذلك ثلاث نقاط بالغة الأهمية (5):

أولاً: إنّه عند ظهور الإسلام، لم تكن العلاقات بين دول العالم قائمة على قانون القوة الذي يفترض العداء الدائم للآخر إذا لم يستسلم أو يتماهى مع القوى، ديانةً وثقافةً وأعرافاً وتقاليداً. وأمام هذا الوضع كانت تعاليم الدين الإسلامي تدعو إلى السلام “وإن جنحوا للسلم فأجنح لها”. وإقامة المعاهدات مع الخصوم “إلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين”.

ثانياً: إنّ سنة الله عز وجل جرت في رسله وأنبيائه بتكليف بعضهم بما لا يُكلّف به البعض، فمنهم من كُلِّف بالدعوة إلى عبادة الله والوعظ والإرشاد، وهذه كانت طبيعة دعوة عيسى عليه السلام، وكانت طريقة نبينا عليه الصلاة والسلام طيلة 13 سنة من أول دعوته، فكان الأمر إلى أصحابه بالصبر والصفح، فقُتِل بعضهم تحت التعذيب بمكة، وهاجروا إلى الحبشة ثم إلى المدينة. ومن الرسل من كُلِّف بالإضافة إلى الدعوة بإقامة دولة الحق، ونزلت عليه شريعةٌ مفصلةٌ، وأُمِر بتطبيقها في حياة الناس، وهذه كانت سيرة موسى عليه السلام، وكانت طبيعة رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام بعد هجرته إلى المدينة وإقامة دولة الإسلام، مما اقتضى الجهاد لردّ العدوان، ومعالجة المعتدى، مع ما يترتب على ذلك من آليات الغاية منها سياسة البشرية بالعدل.

ثالثاً: إنّ جوهر الرسالة لا يُحاكم على ضوء سلوك الأتباع وتصرفاتهم، فسلوك حكام المسلمين تجاه الخصوم على مرّ التاريخ كان فيه الصواب والخطأ، ونحن لا نبرئ تاريخنا، إلا أنّ صوابه كان أكثر من خطئه، وعدله كان أكثر من جوره. وبخاصّةٍ إذا قورن بسلوك جيراننا المسيحيين في حروبهم على الإسلام، سواءً تلك الإبادة في الأندلس، والحروب الصليبية التي دامت قرنين، والحروب الاستعمارية التي امتدت ثلاثة قرون، مما أجهض كلّ نهضةٍ للعالم الإسلامي، أو كما يقول الأبوان جوزف كوك ولويس غارديه عن الحروب الصليبية إنها حطمت انطلاق المسلمين الحضاري.

ثالثاً- التطرف والإرهاب:

يحدّد ابن بيه الموقف الشرعي من طائفة تزرع الموت والدمار في ديار المؤمنين: فإذا كانت تزعم الإسلام والجهاد فقد ضلّت سبيله وسلكت سبيل “الحرابة والبغي والإفساد في الأرض”. وهي جرائم ثلاث تتجاذب سلوك هذه الفئة وتتداخل في وصف جرمها شرعاً. وتتصف بثلاثة أخلاق يدينها الشرع وينكرها الشارع هي: التنطّع والغلو والتشدد. فقد نهى الإسلام عن التشدد في حديث أنس “لا تشدّدوا على أنفسكم فيشدّد الله عليكم”. ونهى الإسلام عن الغلو في الدين وهو المُعبَّر عنه بالتطرف، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عنه عليه الصلاة والسلام “إياكم والغلو في الدين فإنّما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين”. ونهى عن التنطّع وهو كالغلو التجاوز للحدود في الأقوال والأفعال ففي حديث ابن مسعود “هلك المتنطّعون قالها ثلاثا”. وهذه الألفاظ الثلاثة تعني الابتعاد عن الاعتدال في الأفكار والأقوال وكل ذلك يخالف منهج الوسطية ويؤدي إلى التعصب والفتنة، وهي مصطلحات يقابلها التطرف والأصولية fundemantalism(6).

وعليه يبني الشيخ بجعل الإرهاب حرابةً وبخاصةٍ على مذهب مالك، الذي لا يشترط أن تكون الحرابة مغالبةً لأخذ مال، فقطع الطريق وتعطيل قدرة الناس على الخروج إلى معايشهم هو حرابة. لكن لا يمكن إغفال النية السياسية لبعض قضايا الإرهاب فيكون بذلك جريمة بغيٍ وبخاصّةٍ عند مالك، الذي لا يشترط لجريمة البغي أن يكون الباغي جماعة بل الواحد يكون باغياً إذا اعتمد طريق العنف في مواجهة ولي الأمر (السلطة الشرعية). ويحدد عناصر الحرابة الأساسية بأنها (7):

  • إخافة الطرق.
  • ترويع الآمنيين.
  • الاعتداء عليهم في ظروف غير عادية في بيوتهم أو في الشوارع الضيقة أو المهجورة.
  • الاغتصاب.
  • سقي المسكر وتقديم المخدر سواء قطع طريقاً أو لم يقطعها.
  • كل ما يثير الفتن ويؤدي إلى المحن يمكن اعتباره جريمة فساد في الأرض توقع عليها أشد العقوبات باجتهاد ولي أمر المسلمين.

كما يذهب إلى أنّ من يستبيح دماء الناس وأموالهم ويكفر العموم، ولو لم يقم بأيّ عمل مخل بالأمن، يعتبر مجرماً جريمة فساد في الأرض. كذلك فإنّ الجاسوس الذي يتجسس لفائدة العدو ولو كان مسلماً تعتبر جريمته فساداً في الأرض فيُحكم بقتله.

فالردة أمر شخصي يحكم به قاض عالم مستكمل الشروط على شخص معين بإقراره أو بينة وليست فتوى تصدر ضد جماعة أو طائفة.

ويصر ابن بيه في غير موضع، على ألا يترك مفهوم الإرهاب منفلتاً كما هو قائم، بما يبرر كثيراً من الجرائم التي تقوم به الحكومات تجاه مجتمعات بعينها، بل يدعو إلى ضبط هذا المفهوم، وهو في الحالة الإسلامية مضبوط بما سبق.

ويرى العلامة ابن بيه أنّ على المشروع الإسلامي أن يقدم رؤية لثقافة التسامح الإسلامية طبقاً للمعايير والمرجعية الإسلامية الكفيلة بتجفيف الينابيع الفكرية للإرهاب وتصحيح المفاهيم المغلوطة في المنظومة المعرفية والتربوية، وبخاصّةٍ فيما يتعلق بمفهوم الجهاد؛ حتى يطمئن العالم الغربي بأنّ الإرهاب ليس مرادفاً للجهاد، فالإرهاب يختلف عن الجهاد شكلاً ومضموناً. فالإسلام يدعو إلى السلام والتعايش وذلك مؤصّلٌ من القرآن، والعالم الإسلامي مستعدٌّ لغرس ثقافة السلام. والجهاد في الإسلام هو حربٌ دفاعيةٌ يعلنها الإمام، أي أنّها حربٌ بين دولٍ لردّ عدوانٍ، كما هو نصّ القرآن الكريم “أذن للذين يقاتلون بأنّهم ظُلِموا”، فلا يمكن لفردٍ ولا لجماعةٍ أن تعلن حرباً أو تقوم بعملياتٍ هجوميةٍ على أيّ بلدٍ تحت أيّة ذريعةٍ، وعلى العلماء والفقهاء أن يسهموا في تعريف الجهاد، لتنضبط الفتاوى في هذا المجال. ولهذا فإنّ نشر قيم التسامح والتواصل بين الحضارات والثقافات كما أكدّ عليه بيان الرياض أمرٌ ضروريٌّ ويجب أن يكون متبادلاً وليس من جانب واحد (8).

ختاماً، فإن الفعل العنفي الذي تسوقه الجماعات المتطرفة دينياً –سنياً وشيعياً- في غير بلد عربي، مترافقاً بحالة تكفيرٍ واسعة، غير فردية، بل تغدو أكثر فأكثر حالةً جماعية، يبقى المستهدف فيها مجموع مواطنين آمنين مسلمين وغيرهم، من الأعمال الجرمية التي أوضحتها النصوص الدينية. وما انتشار حالة التأييد لها إلا نتيجةً لجهلٍ أو تنطّعٍ في الفتوى والممارسة من قبل القائمين عليها، وجهلٍ بأصول الدين من قبل أنصارها، وتظلّ ذاتَ أهدافٍ سياسيةٍ لا دينية، ترمي إلى ترسيخ مصالح دول وجماعات عبر التوظيف العنفي للنصوص الدينية.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

هوامش:

(1) عبد الله بن بيه، “هل الإسلام سيف مسلول ورمح مشرع؟”: http://www.binbayyah.net/portal/artciles/260

(2) عبد الله بن بيه، “وماذا عن ميراث العنف لدى الآخرين؟”: http://www.binbayyah.net/portal/artciles/241

(3) عبد الله بن بيه، “هل الإسلام سيف مسلول ورمح مشرع؟”: http://www.binbayyah.net/portal/artciles/260

(4) عبد الله بن بيه، “أوهام حول الإسلام”: http://www.binbayyah.net/portal/artciles/261

(5) عبد الله بن بيه، “وماذا عن ميراث العنف لدى الآخرين؟”: http://www.binbayyah.net/portal/artciles/241

(6) عبد الله بن بيه، “رأي شرعي حول الأعمال الإجرامية المجنونة التي تقوم بها فئة منحرفة مارقة”: http://www.binbayyah.net/portal/artciles/282

(7) عبد الله بن بيه، “ورقة حول الإرهاب”: http://www.binbayyah.net/portal/research/171

(8) عبد الله بن بيه، “خطة العلامة ابن بيه لمكافحة الإرهاب”: http://www.binbayyah.net/portal/research/177

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق