عرض كتاب: أوهام الربيع العربي وكوارثه التي لا تحصى

صدر عن مركز المزماة للدراسات والبحوث، كتاب “أوهام الربيع العربي وكوارثه التي لا تحصى”، في طبعته الأولى عام 2015. لمجموعة باحثين:

د. سالم حميد، مقدمة الناشر.

عبد القادر نعناع، “الثورات العربية وضرورات التنمية: دراسة مقارنة في النموذج التنموي الإماراتي”.

د. محمد خالد الشاكر، “الخيارات الآمنة للموقف الإماراتي تجاه الثورات العربية”.

مازن محمود علي، “تداعيات الثورة المصرية واستحالة الأخونة في دول الخليج (الإمارات العربية المتحدة نموذجاً)”.

نسرين سامي، “الأدوار السياسية والدبلوماسية الخليجية تجاه ثورات الربيع العربي”.

عبد القادر نعناع، “الاحتجاجات البحرينية: أبعادها، وآليات التعاطي معها، وانعكاساتها الأمنية”.

جهاد عبد الرحمن أحمد، “الجهود الخليجية ودورها في مواجهة التحديات في اليمن منذ 2011”.

عبد القادر نعناع، “تأثير النظام الدولي في المسار الثوري العربي، والأثر الارتدادي للثورات”.

ونقدم فيما يلي استعراضاً لأبرز ما قدمته هذه الدراسات:

أولاً- عبد القادر نعناع، “الثورات العربية وضرورات التنمية: دراسة مقارنة في النموذج التنموي الإماراتي”:

يستند الباحث إلى اعتبار أنّ الثورة حدثاً تاريخياً استثنائياً لتصحيح مسار تاريخي، وإعادة ضبط سلوك الدولة، وتوجيهها نحو الهدف الأسمى فيها، المواطن. عبر تعزيز حقوقه ومكانته الإنسانية، والرقي بمستواه المعيشي، وصولاً إلى الهدف الأساس من الدولة، وهو تحقيق الأمان والرفاه البشريين. لذا تبدو الثورة استعادة لهذا الدور حين فقدانه، والعمل على تصحيح ما شابه من عصر استبداد عمد إلى الإطاحة بمفهوم الإنسان لصالح تعزيز سلطة الفرد.

فشرعية أيّ نظام سياسي لا تقوم إلا كنتيجةٍ لمنجزاته على مستوى الدولة والأفراد الخاضعين لسلطته، وما عدا ذلك تبقى شرعية مغتصبة مفروضة بمنطِقَيّ القوة والأمر الواقع، غير قادرة على الاستمرارية على المدى البعيد، وهو ما دفع شعوب دول عربية خمس، إلى الإطاحة بأنظمتها السياسية، وفتح مسار بحث عن آليات جديدة تنال شرعية مجتمعية، وتعيد للإنسان حقوقه، وتحقّق له رفاه وأمنه.

وحيث تبدو التنمية وفقاً للباحث من أهمّ أسس نجاح تلك الثورات، تسعى الدراسات العربية المعاصرة لتلمس طريق تنموي يقارب الخصوصيّات الثقافية العربية، وينساق مع التحولات العالمية في آن معاً، ويكون قابلاً للتحقق في أقصر مجال زمني متاح أمامه، في ظلّ استمرارية الحراك المجتمعي العربي الضاغط على كل السلطات الناشئة عقب الثورات من جهة، عدا عن ضغط الأنظمة السابقة للعودة من جهة أخرى، في حال إخفاق السلطات الثورية عن تحقيق الأهداف المجتمعية الرئيسة. وقد قُدِّمت في هذا الإطار دارسات تتناول تجارب أمريكا اللاتينية وتركيا وماليزيا، بل وحتى اليابان وكوريا الجنوبية، في محاولة مقاربة الواقع العربي، وتعديل تلك التجارب أو استنساخها.

إلّا أّنه يجد أنّ الأقرب منها يتمثّل في النموذج الخليجي، وبالأخصّ في النموذج الإماراتي، لناحية الامتداد الثقافي العربي أولاً، ولناحية عالميته ثانياً، ولناحية قصر الفترة الزمنية التي استطاعت فيها دولة الإمارات تحقيق منجزات جعلتها على رأس المؤشرات العالمية في كثير من المجالات.

ويقع هذا البحث في ثلاثة أقسام. يُفتَتح الأول منها بتناول الجدل النظري حول ثنائية التنمية/الديمقراطية والمتمحور حول نماذج آليات بناء الدولة، في تساؤل عن الأولوية المفترضة في هذا الجدل، عبر مقارنة بالنماذج الدولية الأساسية. لتشكل هذه المصفوفة أربعة مخارج تطبيقية، وهي:

  • أولوية التنمية، مع سحب للنتائج نحو الديمقراطية، وتبدو النماذج الآسيوية مثالاً.
  • أولوية الديمقراطية، مع سحب النتائج نحو التنمية، وتبدو النماذج الأوروبية مثالاً.
  • أولوية التنمية، مع إخفاق ديمقراطي، وهنا يبرز مثال الاتحاد السوفييتي.
  • أولوية الديمقراطية، مع إخفاق تنموي، ويبدو ذلك واضحاً في إشكاليات بناء الدولة في تحولات الدمقرطة في العالم الثالث.

وحيث يقع النموذج الإماراتي يقع ضمن الفئة الأولى، فإن هذا الجدل يقود الباحث إلى دراسة أثر شكل النظام السياسي الإماراتي في المواطنة من جهة، وفي المسار التنموي من جهة ثانية.

أما القسم الثاني من هذه الدراسة، فهو تطبيقي، يتناول موقع دولة الإمارات في أبرز المؤشرات العالمية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية، في مقارنة زمانية، وفي مقارنة مع أربعة بيئات جغرافية: الخليجية والعربية والإقليمية والدولية. كما يتناول هذا القسم، أثر تلك المؤشرات في إحداث تحولات سياسية داخل الدولة، تعزز من شرعية النظام من جهة، وتقود إلى الإعلاء من قيمة المنجز التنموي من جهة أخرى، أي إنّها بدورها تمثِّل كذلك مدخلاً ومخرجاً مشتركاً في الدراسة.

فيما يسعى القسم الثالث إلى تناول أهم الإشكاليات والتحديات التي واجهت المسار التنموي الإماراتي، والبحث في الآليات التي تمت معالجتها بها.

ويتم تناول هذه الدراسة عبر منهجين رئيسين، هما:

  • منهج دراسة الحالة، عبر تناول مفاصل النموذج الإماراتي.
  • المنهج المقارن: وذلك من خلال عملية مقارنة كمية مع عدة نماذج مختارة.

ويخلص الباحث إلى أنّ دولة الإمارات العربية المتحدة قد شكّلت أحد أبرز النماذج التنموية في العالم الثالث، محتلّة مستوى متقدماً جداً على المؤشرات الدولية في كثير من المجالات، ومتقدمة على معظم الدول النامية ودول العالم الثالث، محققة معجزة اقتصادية تقارب الإنجاز الكوري الجنوبي الذي يمتد لعقود طويلة، فيما تمتاز التجربة الإماراتية بقصر امتدادها الزمني، وقفزاتها النوعية الكبرى.

وقد اعتمدت الإمارات على منهج “التنمية تابع مستقل، والديمقراطية تابع متغير”، حيث أنّ المنجز التنموي هو من أدار عملية تحديث البلاد سياسياً، وجعلها تنطلق في مسار تحديث سياسي رديف للتحديث التنموي والاقتصادي، بدأت تحصد بعضاً من نتائجه وخاصة في مجالات حقوق الإنسان وحكم القانون وأنماط عدة من الحريات الفردية والصحفية.

ولعلّ هذه الدراسة لم تتّسع لتناول البيئة التشريعية والقانونية التي تشكل عماد بناء الدولة الإماراتية، وخاصة التشريعات الاستثمارية المميزة عالمياً، على أنّها تناولت البيئة السياسية الدستورية لبناء الدولة والمواطنة. كما لم تتّسع هذه الدراسة لتناول دور المنجز التنموي في السلوك السياسي الخارجي، وأثر السياسة الخارجية الإمارتية في العملية التنموية.

وتتسع التجربة الاستثنائية الإماراتية، لتكون دليل عمل للدول العربية، وخاصة تلك الدول التي تشهد مخاض انتقال سياسي ثوري أو تحديثي، ذا خصوصية هوياتية عربية، وإن كان استند إلى العامل النفطي في لحظة انطلاقته، إلّا أنّه استطاع تحجيم دور النفط إلى ما يقل عن 30% من الناتج المحلي الإجمالي، لصالح بناء اقتصاد أكثر متانة وتنويعاً، وقدرة على أن ينعكس مباشرة على المواطن الإماراتي بالدرجة الأولى، ضمن شروط العدالة المجتمعية المنشودة في دولة الرفاهية والحكم الرشيد.

ثانياً- د. محمد خالد الشاكر، “الخيارات الآمنة للموقف الإماراتي تجاه الثورات العربية”:

أسهمت الثورات العربية في خلق جملة من المعطيات الميدانية في المشهد العربي العام، مما وفّر دافعاً موضوعياً قوياً للبحث في مدى قدرة هذه المعطيات لتفعيل العمل العربي المشترك، والبحث أيضاً عن آفاق أرحب لمسارات جديدة، بعد عقود مُنِي خلالها العمل العربي، بانتكاسات جاءت على إثر تفكيك النظام الإقليمي العربي، الذي أصبحت معه فكرة الأمن القومي العربي، مجرد حالة تضامنية لا ترقى إلى مستوى الدفاع عن محدداته الأساسية.

واكتسب الحراك الثوري العربي، منذ اندلاع شرارته في تونس، وليبيا ومصر، بخاصية التعقيد والتشابك والتنافر بين المكونات الاجتماعية، التي انقسمت بين مؤيد ومعارض، وبين من رأى فيه تفلّتاً من قبضة الاستبداد والفساد، وآخر رأى فيه مؤامرة دولية في إطار مشروع جديد من الصراعات الطائفية والمذهبية، مما وضع الثورات العربية أمام صعوبة فهم مآلاتها، وآفاقها، وفهم تحولاتها المستقبلية.

التجاذبات ذاتها، انعكست على طبيعة التعاطي الدولي والإقليمي مع هذه الثورات، كما انعكست على أنماط العلاقات العربية–العربية، لاسيما العلاقة بين دول مجلس التعاون في الخليج العربي، وآليات تعاملها مع  الحراك الذي ظلّ مفتوحاً على الشارع، خصوصاً مع  تجاوزه فكرة الإصلاح ليتعداه إلى حالة من الفعل الثوري، الذي لم يستهدف الإطاحة بالنظام السياسي القائم، ونسف بنيانه وحسب، بل تعداه إلى  صراع مفتوح على جميع الاحتمالات، لاسيما بعد اتساع  رقعته اجتماعياً وجغرافياً، وتعدّد مشاربه، واتجاهاته السياسية، التي تراوحت من  الحراك السلمي–المدني، إلى العقيدة الجهادية التي استحوذت ساحة الثورات العربية، فانتشرت  كانتشار النار في الهشيم، وهي السمة التي اشتركت بها جميع الثورات، الأمر الذي وضع المنطقة أما حقيقة يصعب معها التكهن بتحولاتها إيجابياً أم سلبياً، إلّا أنّ المتفق علية أن المنطقة أصبحت أمام تحولات جذرية، وتغييرات تاريخية مفصلية.

جاء الحراك الثوري العربي ليحدِث هزة عنيفة في أنماط التفاعلات الإقليمية والدولية والعربية والخليجية، حيث تعرّض محور “الممانعة” لهزات شديدة طالت بعض أطرافه، كما فقد محور “الاعتدال” بعض أضلاعه الأساسية، ولم يبق منه إطار شبه متماسك سوى دول مجلس التعاون الخليجي، التي بدأ بعضها يشعر بالخطر، خصوصاً وأن رياح التغيير بدأت تطال بشكل أو بآخر دول الخليج العربي.

وفي هذا الخصوص، لم تشكل الحالة البحرينية القابعة في قلب الخليج العربي، الحالة الخلافية الوحيدة، التي أصبحت أقل وطأة من غيرها من الثورات المندلعة خارج الخليج العربي، بسبب الحسم الخليجي السريع بشأنها، حيث ظهر  الخطر الذي بدأت تتحسّسه دول الخليج العربي، من  مادة التغيير التي تصدرت الثورات العربية، متمثّلة بحركات الإسلام السياسي المتطرف، التي اعتبرتها بعض دول الخليج تهديداً لا يطال مكونها السياسي وحسب؛ بقدر ما يهدد  مكونات التركيبة المجتمعية، في دول تتعدد فيها المكونات المذهبية، كعامل أصبح مادة سياسية مؤدلجة، تتصدر واجهة الحراك الثوري.

وفي داخل مجلس التعاون الخليجي ذاته، ظلت الرؤية الإماراتية، تشكِّل معادلاً موضوعياً للعلاقة بين دول الخليج والدول العربية، لما تتمتع به دولة الإمارات من خصوصية في سياستها الخارجية، التي تنطلق من محددات دستورية، لا ترى في أمنها القومي إلا جزءاً من الأمن القومي العربي والخليجي.

وضعت أحداث الثورات العربية دولة الإمارات العربية المتحدة، أمام إشكالية مآلات التحول القسري والمفاجئ للنظام الرسمي العربي من جهة، كما التحولات التي طرأت على أنماط التفاعلات الدولية والإقليمية والعربية والخليجية، في تعاطيها مع الحدث الثوري ومآلاته، مما أفرز تجليات وتحولات في الموقف الإماراتي، تراوح بين التأييد الإماراتي للتطلعات الجماهيرية، وبين محاولاتها في كبح جماح ما آلت إليه هذه الثورات من عنف وفوضى طال جميع البنى السياسية والاجتماعية والثقافية لدول الثورات العربية.

حاولت دولة الإمارات العربية المتحدة، احتواء الحدث العربي –في مراحله الأولى- بما يُؤمّن تحقيق تطلعات الجماهير في العدالة الاجتماعية، دون أن ينال ذلك من أمنها المندرج تحت الأمن القومي العربي والخليجي، الأمر الذي جعل نمط التعامل مع هذه الثورات يتراوح بين تأييد التغيير السلمي، بما يؤمّن العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، التي ظلّت حكراً على نخب سياسية واقتصادية مستبدة من جهة، ومن جهة ثانية الانكفاء في بعض مراحل التحول العنفي. قبل أن تتحول إلى المواجهة مع تنامي ظاهرة التمدد الإقليمي، وإثارة حمى النزاعات الطائفية والمذهبية، التي أصبحت تشكل تهديداً حاصلاً وفعلياً لعموم المنطقة العربية، التي ظلّ فيها التنوع الطائفي والمذهبي، أشبه باللوحة الفسيفسائية، التي أصبحت تتهدد بتفكيك مكوناتها.

ويخلص الباحث إلى أنه قد أدت التداعيات الهزيلة للثورات العربية، إلى اتخاذ دولة الإمارات العربية المتحدة، موقفاً ثابتاً من مسألة تصدّر الحركات الجهادية واجهة المشهد السياسي للثورات العربية. تعزز ذلك مع تراجع الدور الأمريكي في اتخاذ زمام المبادرة، لمواجهة تداعيات الثورات العربية، مما ساعد في تصاعد وتيرة هذه الحركات، وإفساح المجال للتفاهمات والصفقات الإقليمية، التي وضعت المنطقة العربية أمام نمط من التطييف الإقليمي، الذي لا يهدد الأمن القومي العربي وحسب، بقدر ما أصبح تهديداً حاصلاً وفعلياً لأمن الخليج العربي ومكوناته السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ويرى أن واقع الحال ينبئنا بأنّ الظروف التي تمر بها المنطقة، تصب حالياً نحو تزايد ظاهرة الإسلام السياسي الجهادي، الذي وجد رحماً خصباً له في انتكاسات الثورات العربية، مما أدخل جميع المكونات في حالة التشظي والصراع، الذي لم تسلم منه الحركات الجهادية ذاتها، ولعل ما حدث ويحدث في سورية، من اقتتال دومي بين “جبهة النصرة” و”تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق”، خير دليل على ذلك.

فالمنطقة العربية اليوم مهددة أكثر من أي وقت مضى، باستنزاف كامل طاقاتها ومكوناتها السياسية والاقتصادية والثقافية، فما حدث ويحدث بعد أربع سنوات من اندلاع الثورات العربية، يضع المنطقة أمام موجة طويلة الأمد من الصراع، الذي أصبح يمتلك جميع مقومات البقاء والاستمرار، بسبب التجاذبات الإقليمية والدولية، التي وضعت مسألة دعم هذه الحركات في صلب سياساتها الخارجية.

فيما أصبح الهاجس الذي يراود دولة الإمارات العربية المتحدة، قدرة هذه الحركات الجهادية على تكوين تحالفات سياسية وعسكرية مع دول بعينها، مما أكسبها القدرة على إحداث حالة من التوتر داخل الدول التي تتواجد فيها العديد من الخلايا النائمة؛ التي تتعاطف بشكل أو بآخر مع الفكر الجهادي، وهو ما اعتبرته الإمارات العربية المتحدة، تهديداً لإيديولوجيا القوى الناعمة التي تتأسس عليها الدبلوماسية الإماراتية، التي تقوم على إيلاء الدور للمنظمات الدولية في حل القضايا السياسية العالقة، كما الاعتمادية الدولية والتنمية الاقتصادية، كحاملين أثبتت من خلاله السياسة الإماراتية عبر تاريخها الطويل، قدرتها على الثبات والتوازن والاعتدال في علاقاتها مع الغير، وهو ما وضع  الدولة الإماراتية في مقدمة دول العالم في العديد من المجالات.

إن المتتبع للسياسة الخارجية الإماراتية، يلاحظ مدى تأكيدها على فكرة أساسية مفادها أن العنف والتنمية لا يلتقيان، وهو ما شكل أساساً موضوعياً للموقف الإماراتي في معالجة العديد من القضايا الإقليمية والدولية، الأمر الذي يضع الدبلوماسية الإماراتية من جديد، للدفع نحو تثوير دور المنظمات الدولية، وعلى وجه الخصوص مجلس الأمن الدولي، كأداة تنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة، موكلة بحل الخلاقات بين الدول، وتقويض كل ما يهدد حفظ السلم والأمن الدوليين.

وعليه فقد لقد تعاملت السياسة الإماراتية -تاريخياً- مع قضايا المنطقة، من خلال ثوابتها في الدبلوماسية والتوازن  والاعتدال، كثوابت تكرسها اليوم في تعاملها أيضاً مع مآلات الثورات العربية، وهي بذلك تتعامل مع القوى الإقليمية ومن معها، من منطلق استراتيجي يدرك أن موقع تركيا كمدخل للغرب، كما موقع إيران كمدخل للشرق، جعل البلدين يحتاجان لبعضهما. وهو ما يؤكد الرؤية الإماراتية في الدفاع عن محددات أمنها القومي، ووحدة البيت الخليجي.

وعليه، يبدو الموقف الإماراتي اليوم، أمام استحقاقات جديدة تتعلق بقدرة الدبلوماسية الإماراتية، في إيجاد  وجهة نظر  خليجية موحدة، أو صيغة توافقية على أقل تقدير تجاه حركات الإسلام السياسي المتطرف، بما يؤمن وحدة البيت الخليجي، آخذين بعين الاعتبار أن هذه  الحركات، مازالت تشكل في العديد من دول الخليج العربي،  مكوناً من مكونات التركيبة الاجتماعية والسياسية، كما  تتغلغل بشكل ثقافات تقليدية داخل التركيبة المجتمعية، الأمر الذي يستلزم إيجاد منظومة فكرية جديدة، قادرة على إعادة إدماج هذه المكونات، بدلاً من  استعدائها داخلياً، لاسيما وأن إحدى دول مجلس التعاون (قطر)، مازالت تشكل حالة خلافية، لم تحسم أمورها بعد.

 

ثالثاً- مازن محمود علي، “تداعيات الثورة المصرية واستحالة الأخونة في دول الخليج (الإمارات العربية المتحدة نموذجاً)”:

يرى الباحث أن المعاني الجغرافيّة السياسية للدول تغير بتغير نظمها السياسية، ويعتبر النظام السياسي، هو التوزيع السلطوي للقيم بما فيها القيم المعنوية والمادية، فهو -أي النظام السياسي- من يبرمج وينفذ السياسة العامة للدولة على كافة المستويات التعليمية والصحية والاقتصادية، ومن ضمنها الموقع الجيوبولتيكي والأمن القومي والمجال الحيوي للدولة، كما أنه المسؤول عن بث الشعور الوطني والقومي في المخيال الشعبي عبر التنشئة السياسية بما فيها تعريف العدو والصديق. النظام السياسي بهذا المعنى هو المسؤول بشكل مباشر عن ترسيخ قيمة اجتماعية ما أو تغييرها أو توليد قيم جديدة عبر أدواته التعبوية عبر التنشئة والثقافة السياسية التي يبثها بخطابه الرسمي. وعليه فإن التعريف الذاتي للنظام السياسي لموقع الدولة ودورها ينعكس بالضرورة على الدولة ذاتها بكل ما من شأنه إعادة تدوير الإدارة العامة داخلياً ودولياً.

وينعكس ذلك بشكل مباشر على المحيط الحيوي للدولة الذي تشكل المناخ الجيوسياسي لها، وما تمارسه من دور يتعلق بالتعاون الإقليمي أو التنافس الإقليمي أو قيادة الإقليم أو حتى ارتضاء دور التبعية في الإقليم لدولة أخرى.

ولكن تبقى الحقائق الجغرافية المتعلقة بالموقع وحجم السكان والموصِلات الثقافية والحضارية لهذه الدولة أو تلك، من المحددات الثابتة لأي دولة في صياغة استراتيجيتها وتعريفها لمجالها الحيوي ومصالحها القومية، وبالتالي يصبح النظام السياسي محكوماً بهذه المحددات (حكماً)، ليبقى الفارق بين نظام وآخر في قدرته على استثمار العناصر والمحددات الاستراتيجية للدولة ورفع العوائد المصلحية للدولة عبر صياغة الدور الإقليمي أو العالمي في محيطه الحيوي.

ويتناول الباحث في هذه الدراسة تأصيل المواقع الجيوسياسية للخليج ومصر، ليبني عليها التجربة المصرية مع الإخوان المسلمين، واستغلال الإخوان للحظة التاريخية، ما أنتج حالة اختناق سياسي أثر بالمحصلة في التموضع الإخواني في مصر والخليج، وتعريض وحدة النسيج الاجتماعي للتمزق والاحتراب.

ويستعرض الباحث أبرز المحطات الإخوانية في مصر، ومحاولات الأخونة في الخليج العربي، مبيناً استعصاء بنية الإمارات العربية المتحدة على الأخونة، موضحاً آليات تطور النظام السياسي الإماراتي، والمحددات الخمسة لموقف الإمارات من الإخوان المسلمين، والمتمثلة في:

  • نمط التعايش السلمي الذي تعيشه دولة الإمارات.
  • نموذج الرفاه والخدمات.
  • الأمن الوطني وسلامة النظام العام.
  • رفض المجتمع الإماراتي لمحاولات ضرب الشرعية السياسية المستقرة لنظام الحكم والتي تستند على القبول الشعبي للسياسات الحكومية.
  • وقوف المجتمع ضد أية محاولة لاستبدال المشروعية القائمة على الحكم الاتحادي.

ويخلص الباحث في ختام دراسته إلى أنّ العامل الرئيسي في اصطدام جماعة الإخوان المسلمين مع الأنظمة السياسية في العالم العربي والإسلامي هو برنامجهم السياسي المتطلع إلى الإمساك بالسلطة السياسية كأداة في تطبيق مشروعهم السياسي الإسلامي كما نظر له رواده الأوائل في ظروف وسياقات سياسية معينة، لها مسوغاتها الموضوعية والذاتية في مقابل واقع اجتماعي وسياسي كان سائداً في مصر الملكية بداية القرن الماضي آنذاك، على وقع إرهاصات حركات الإصلاح الديني الذي كان يمكن أن يكون برنامج الإخوان في ذلك الوقت جزءاً منه، لكنه سقط في خضم خصومات ونزاعات سياسية وتباينات أيديولوجية واحتكام لمقولات منفعلة نابعة من الرفض والانكماش على الذات بمقابل المشاريع التقدمية والنهضوية الأُخرى في ذلك الوقت، والتي وصلت إلى ذروتها في الانغلاق مع نصوص سيد قطب وكتابه “معالم على الطريق”.

ويرى أنه مهما كانت حجم الانتقادات والملاحظات التي تسجل على نظم الحكم السياسية في أي دولة من دول العالم فإن ميكانيزم التغيير ودينامياته الأكثر نجاعة تنبع من قلب النظم السياسية ذاتها، مدفوعة بحركة اجتماعية داخلية غير جذرية لا تقوم على قلب الماضي والحاضر بعجره وبجره. فكيف بنا ونحن أمام نظام سياسي يكبر وينمو ويتطور كنظام الإمارات العربية المتحدة الذي أثبت حتى اللحظة أنه قابل للاستجابة لمتطلبات شعبه وفعالية في حمل مهام التنمية والتطور.

رابعاً- نسرين سامي، “الأدوار السياسية والدبلوماسية الخليجية تجاه ثورات الربيع العربي”:

شهد الوطن العربي في أواخر عام 2010 وأوائل عام 2011، عدة حركات احتجاجية سلمية شملت عدد من الدول (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سورية، الأردن، البحرين، العراق، المغرب، ..). داعية إلى البدء في تحقيق مطالب معيشية، كتوفير فرص العمل ومحاربة الغلاء ورفع مستوى المعيشة، ثم ما لبثت أن تطورت بمطالبتها بمحاربة الفساد وضرورة محاسبة الفاسدين، وحين لم تجد لها صدى ارتفعت المطالب بعد ذلك لتطالب بتوسيع الحريات السياسية وإسقاط عدد من الأنظمة العربية.

بعض هذه الاحتجاجات استطاعت حكوماتها استشعار خطورتها مبكراً، فسارعت لاحتوائها والقيام ببعض الإصلاحات ملبية مطالبها على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كإجراء وقائي واستباقي لتلافي انفجارها. فالأردن مثلا ًسارعت إلى تبديل رؤساء الوزارة، دون أي مساس بالنظام الملكي. وكذلك فعلت المغرب وقطر، برفع الرواتب وزيادة الامتيازات للسكان، كما بدأت بمنح سلطات محدودة لمجالس نيابية منتخبة مع السيطرة على أهم أدوات السلطة.

ولابد من التذكير بأن هناك عدد من الدول كانت محصنة أساساً من رياح التغيير العربي، كدول الخليج مثلاً، حيث شكلت استثناء عربياً من الفوضى، وذلك يعود لعدة عوامل أهمها ارتكازها على قاعدة شعبية في حكمها. فالأنظمة الحاكمة في الخليج العربي قامت منذ البدء على إجماع الشعوب الخليجية على أسرة الحكم في إدارة شؤونها الداخلية والخارجية بالتراضي والتزكية. ولا يخفى ما للعادات والتقاليد العربية في منطقة الخليج العربي من دور مهم في تشكيل الوعي السياسي لدى الفرد الخليجي، لتجعله ملتفاً حول قيادته ونظامه لأنهما يحملان نفس العادات والتقاليد.

بالإضافة إلى ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي لتلك الدول إلى المستوى الذي يجعلها من أفضل الاقتصادات أداءً خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين طبقاً لتصنيف البنك الدولي، وحرص الأنظمة الحاكمة في الخليج على دعم ورعاية شرائح الطبقة الوسطى من خلال الاهتمام الزائد من قبل أنظمة الخليج بالتنمية البشرية وجعلها على قمة أولوياتها، لا سيما في مجالي الصحة والتعليم بما يضمن توزيع عادل وتقريب للفوارق في الدخول بين جميع الشرائح.

والأهم من ذلك هو وجود مرونة من قبل الأنظمة الحاكمة في الاستجابة للإصلاحات الاقتصادية والسياسية، فالسعودية مثلاً عملت على خطوة وصفت بالتاريخية، عندما منحت المرأة السعودية أحد أهم حقوقها السياسية، وهو الحق في التصويت والترشح للانتخابات البلدية وعضوية مجلس الشورى. كما قامت بتنفيذ حزمة من البرامج التشغيلية والتطويرية في شتى المجالات الخدمية والاجتماعية، حيث تصدرتها مراسيم ملكية قضت في حينها بتخصيص 130 مليار دولار، بالإضافة إلى حزمة من الإجراءات تشمل مكافحة الفساد، وتوفير آلاف الوظائف، وبناء نصف مليون وحدة سكنية للعاطلين والموظفين والطلاب.

فهذه الشرعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية لدول الخليج العربي أكسبتها شرعية دولية استناداً على أدوارها الإيجابية التي قامت بها في منطقة الشرق الأوسط، لهذه الأسباب ولأسباب أخرى كثيرة لم تستطع رياح الربيع العربي العبث بمنطقة الخليج العربي.

أما البعض الآخر من الدول التي استخفت حكوماتها بمطالب المحتجين الذين سئموا ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية، فاتبعت سياسة الإنكار والرد العنيف تجاه المتظاهرين، ونعتهم بالمجرمين والخارجين على القانون كوسيلة لإنهاء الاحتجاجات وملاحقة المحتجين. مما أدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا أثناء تفرقة الاحتجاجات أو تحت التعذيب.

كانت نتيجة هذه السياسات القمعية غليان الشارع، فلم يؤدِ استخدام الأنظمة لأدوات القمع من رقابة واحتجاز تعسفي وتعذيب وقتل، إلا لزيادة جرأة المتظاهرين وزيادة أعدادهم. وبدلاً من أن تُنزِل بالمتظاهرين الخوف وتحملهم على الإذعان، أظهرت صدق وسلامة قضية المتظاهرين. وتحولت تلك الاحتجاجات والمظاهرات إلى مصاف الثورات، فلم تعد مطالب المتظاهرين مطالب معيشية وإصلاحية بل تحولت إلى مطالب سياسية ذات رؤية واضحة تمثلت بإسقاط الأنظمة الحاكمة، وانعتاق المجتمع من هيمنة الاستبداد السياسي بصورة سلمية، وإقامة نظم سياسية تعزز حاكمية القانون والشراكة الشعبية وتحقق العدالة والمساواة الاجتماعية وتحترم الحريات العامة.

فالعفوية لم تعد ملازمة للثورات العربية، وذلك بمشاركة غالبية ألوان الطيف السياسي في التظاهرات، والتي لعبت دوراً هاماً في نقل الاحتجاجات وتنظيمها والارتقاء بها سياسياً إلى درجة تحويلها إلى ثورة على الأنظمة بأكملها. فتكاملت جهودها مع الجهود الشبابية الثائرة والمثقفين ونشطاء العمل الأهلي التي عانت ولا زالت تعاني من أنظمة لم تفكر بالحد الأدنى من العمل لصالح كرامة المواطن الفردية والجمعية.

وأمام وضوح الرؤية التي تبناها الثوار، وسلمية الحراك الثوري الذي ظهر في شعاراتهم، حققت الثورة العديد من المكاسب المهمة، كان أبرزها إجماعاً شعبياً حقيقياً حولها، وترحيباً وقبولاً دوليين بمطالبهم الشرعية، حيث وجدت الأنظمة المستهدفة نفسها مجبرة على الاستجابة لضغط الشارع والانصياع التام لمطالب الثوار. وبالفعل استطاعت بعض الثورات العربية الإطاحة ببعض الرؤساء العرب كالرئيس التونسي زين العابدين بن علي الذي تنحى عن السلطة وغادر البلاد بسرعة، والرئيس المصري محمد حسني مبارك الذي أعلن تنحيه عن السلطة ورفضه مغادرة البلاد فسجن ليخضع لجملة محاكمات متتالية. فيما قُتل الرئيس الليبي معمر القذافي على أيدي الثوار. وأعلن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح تنحيه عن السلطة التزاماً ببنود المبادرة الخليجية. وماتزال الثورة السورية تناضل من أجل بلوغ الحرية ما يزيد على الثلاث سنوات.

وقبل أن تتناول الباحثة المواقف الخليجية من الثورات العربية، تضع تلك المواقف في إطارها الدولي، عبر قراءة أبرز المواقف الدولية تجاه الثورات العربية، لتبيان ما بين الموقفين من تبيان قد يصل إلى حالة افتراق مصلحي. وهو ما يمكن البناء عليه باعتبار تبلور شخصية سياسية إقليمية خليجية مستقلة عن تحالفاتها، قادرة على فرض مسارات سياسية تتطور باتجاه مسارات عسكرية في البيئة العربية ككل.

وتخلص الباحثة إلى أن ما حكم موقف دول مجلس التعاون الخليجي تجاه ثورات الربيع العربي، هو ضمان أمن واستقرار المنطقة العربية، ومنع انزلاقها إلى حروب بينية أو داخلية، تؤدي في النهاية إلى تفكيكها، وتوسيع عمليات الاحتلال والتدخل الخارجي الدولي والإقليمي فيها، وهو ما ينهي تماماً مفهوم وحالة الأمن القومي العربي.

وكانت الأدوار التي قامت بها دول مجلس التعاون الخليجي حيال الثورات العربية، بمجملها أدواراً سياسية، اتسمت بالنزوع إلى الدبلوماسية الهادئة والتدرج في اتخاذ المواقف، في ظل امتلاكها للمقومات المادية والمعنوية في دعم هذا الدور. وإن كانت في بعض الأحيان قد خرجت عن تلك الدبلوماسية الهادئة لتستخدم وسائل الضغط الاقتصادي والسياسي والعسكري والاجتماعي.

فكانت الثورات العربية كانت بمثابة اختبار حاسم لدول الخليج العربي، قبل أن تكون اختباراً للدول التي حصلت فيها الثورات، وذلك في تعاطيها مع الثورات، ليتجلى موقف دول الخليج العربي شبه موحد، حيث جاء على خلفية تماسك دوله في مواجهة التحديات الخارجية والمحافظة على أمن واستقرار المنطقة.

والأكثر أهمية، هو اتخذاها مساراً مختلفاً عن المسار الذي اتخذه القوى الدولية، حيث استطاعت دول الخليج العربي بلورة موقف خاص بها دون أية تفاهمات دولية، بل إن كثيراً من القوى الغربية سعت إلى التنسيق مع المواقف الخليجية، وخاصة أننا لاحظنا تردد تلك القوى وتباين مواقفها ومصالها إزاء البيئات العربية الثائرة، ولعل أبرز افتراق خليجي-غربي كان في الشأن البحريني، حينما قررت دول مجلس التعاون الخليجي التدخل العسكري الوقائي منفردة، دون الحاجة إلى إسناد سياسي أو عسكري أو لوجستي من الحلفاء الغربيين، وهو ذات الموقف في رفض عملية المساومات مع إيران حول اختراقاتها العسكرية والسياسية والمذهبية لسورية واليمن والبحرين بشكل خاص، وهو ما يعزز الاستقلالية الخليجية عن التحالفات الدولية فيما يخص القضايا العربية.

 

خامساً- عبد القادر نعناع، “الاحتجاجات البحرينية: أبعادها، وآليات التعاطي معها، وانعكاساتها الأمنية”:

شكّلت نهاية العقد الماضي وبداية عام 2011، نقلة كبرى في التاريخ العربي المعاصر، لناحية اندلاع تحركات احتجاجية شعبية واسعة في عدّة دول، تحولت في خمس منها إلى ثورات أطاحت بأنظمة حكم تسلّطت على المجتمعات العربية طيلة عقود ما بعد الاستقلال، ضمن ما عُرف بثورات الربيع العربي، وشكّلت محاولةً لاستعادة الدولة، والسعي إلى إعادة بنائها وفق أطر حداثية تعيد للمواطن العربي كرامته، وتعمل على بناء مستقبل يرقى به إلى مستوى دولة الحكم الرشيد.

ورغم ما لحق بتلك الثورات من انتكاسات وثورات مضادة، وعمليات أدلجة –دينية بالأخص- إلّا أّنها ما تزال تتفاعل مع كافة المعطيات الناشئة عنها وعن محطيها، جعلت مسارات بعض منها تنحرف باتجاه حروب داخلية، تتنوع الأطراف المتنازعة فيها بين داخلية وإقليمية ودولية.

وقد شكّلت دول الخليج العربي استثناءً في هذا الربيع، رغم بعض الحراكات المجتمعية التي شهدتها دول عمان والبحرين والكويت، وإن كانت قد تمّت عمليات تسويات مجتمعية-حكومية في عمان والكويت، إلّا أنّها في البحرين اتخذت طابعاً أكثر راديكالية، أدى إلى إعلاء بعض القيم العنفية في المجتمع البحريني.

وتتساءل هذه الدراسة عن ماهية الأسباب التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات البحرينية، وعن طبيعة تلك التحركات إن كانت ثورية أم احتجاجية أم أنها فعل تحريضي تفتيتي يسعى إلى إسقاط الدولة وإعادة بنائها مذهبياً وفق أجندات خارجية؟

كما تبحث في الأدوار الخارجية لكل من دول مجلس التعاون الخليجي وإيران، بعد تبيان الأدوات التي انتهجتها تلك الاحتجاجات والأدوات المعاكسة لها من قبل السلطات البحرينية.

وذلك ضمن منهج دراسة الحالة الخاصة بمملكة البحرين، ومنهج رديف يستند إلى الحالة المقارنة بين أوضاع البحرين وأوضاع محيطها الخليجي والثوري العربي وإيران، فيما يتعلق بالمؤشرات الاقتصادية والتنموية والاجتماعية والسياسية في كلّ منها.

وتخلص الدراسة إلى أنّ كافة المراجع الحكومية والمعارضة في مملكة البحرين، تقرّ بأنّ أوضاعها الداخلية كسائر دول العالم الثالث، تحتاج إلى مزيد من عمليات التحديث السياسي والاقتصادي للمجتمع والحكومة معاً، وهو ما تشهده المملكة منذ أكثر من عقد من الزمان، في سبيل الوصول إلى ملكية دستورية توافقية مفتوحة على كافة الأطراف السياسية في البلاد. ويظهر ذلك من خلال كم النشاط السياسي المعارض، المأدلج مذهبياً، والمتاح قانونياً فيها.

غير أنّ الفعل الاحتجاجي الناشئ فيها منذ عام 2011، يخرج عن النسق السابقة له، عبر استعارة الأدوات والمعتقدات الثورية الناشئة في الدول العربية الأخرى، وبالاستناد إلى أجندة تمّ إعدادها من قبل الحرس الثوري الإيراني، للإطاحة بالحكومة البحرينية، في سبيل توسيع المشروع الإيراني خليجياً، بعد أن تمت له السيطرة في دول المشرق العربي (العراق، لبنان، سورية)، وبعد أن رسّخ ذاته في اليمن عبر الأداة الحوثية، فكانت التحركات المذهبية في البحرينية، أداة إيرانية لبناء جمهورية إسلاموية تابعة بالمطلق للمرشد الإيراني.

وأدى التفاعل الأمني الخليجي المباشر والسريع مع تلك الاحتجاجات، عبر إرسال قوات درع الجزيرة التابعة لمجلس التعاون الخليجي، إلى حماية منشآت الدولة وكيانها، وصدّ الامتداد الإيراني إلى العمق الخليجي عبر البوابة البحرينية، ما حمل معه ساعتها نذر تصادم بين القوى الإقليمية على ضفتي الخليج العربي. وإن كانت إيران قد جمّدت مشروعها التوسعي باتجاه البحرين، إلا أنها ما تزال تعمل على تطويق دول الخليج العربي من عدة جهات (خليجية وعربية)، تنبؤ باحتمالية إعادة تحريك الجماعات المذهبية التابعة لها في دول خليجية، وهو ديدن سياستها الخارجية منذ عقود.

ما يحتّم على دول المجلس مجتمعة، إعادة صياغة سياسة أمنية استراتيجية، تكون قادرة على التصدّي للنفوذ الإيراني من جهة، وتكون مضادّة له بالاتجاه عبر العمل ضمن بيئات عربية غدت إيرانية، بهدف استعادتها وتشكيل نفوذ مضادّ من جهة أخرى.

 

سادساً- جهاد عبد الرحمن أحمد، “الجهود الخليجية ودورها في مواجهة التحديات في اليمن منذ 2011”:

تقع هذه الدراسة في مقدمة، وثلاثة أقسام، وخاتمة. وتنطلق من منهجية دراسة الحالة، والمنهجية الوصفية والتاريخية والاستشرافية، معتمدين على الاستقراء للواقع ودراسته في ضوء الحقائق القائمة، وعلى تحليل الظاهرة محل الدراسة.

وتنطلق الدراسة من سؤال محوري مفاده: هل استطاعت دول الخليج العربي في تحقيق فعل الاستقرار “السياسي والاقتصادي والاجتماعي” في اليمن منذُ قيام ثورة 11فبراير/شباط 2011، في ظل (المبادرة الخليجية)؟ وما مدى تأثير ذلك الدور؟

وتنطلق الدراسة من الفرضيات الأساسية الآتية:

  • هناك أسباب داخلية ومتغيرات خارجية دفعت إلى قيام ثورة 11 فبراير/شباط 2011، في اليمن.
  • لعبت (المبادرة الخليجية) دوراً في إيجاد حالة من الاستقرار السياسي في اليمن.
  • هناك تحديات داخلية مازالت تواجه اليمن منذُ اندلاع ثورة 11 فبراير/شباط 2011، ولها أبعاد مؤثرة في أمن الخليج العربي.

وتعرض في القسم الأوّل: الخلفية التاريخية المؤدية لقيام ثورة 11 فبراير/شباط 2011، في اليمن. من خلال تناول الحضور التاريخي الدافع لاندلاع تلك الثورة، وخصوصيتها في اليمن، وذلك ضمن إطار زمني يمتد منذُ قيام الوحدة اليمنية في 22 مايو/أيار 1990، وسوء الإدارة السياسية الحاكمة في إيجاد واقع “سياسي واقتصادي واجتماعي” مستقر لبناء الدولة المدنية الحديثة، وحتى عام 2014 والإعلان عن قيام نظام حكم فيدرالي بديل عن نظام الحكم الاتحادي لدولة الوحدة، والذي يمثل نتيجة مخرجات الحوار الوطني في اليمن، والذي تشكل على ضوء (المبادرة الخليجية) وآلياتها التنفيذية للمرحلة الانتقالية في اليمن.

فيما يتناول القسم الثاني: أثر الدور الخليجي في التسوية السلمية، وسيتم الحديث عن (المبادرة الخليجية)، وهل عملت تلك المبادرة على إخراج اليمن من حالة الفوضى والصراع بين النظام السابق والقوى القبلية والحزبية المؤيدة له، مع بعض القوى السياسية والحزبية والقبلية والطائفية المعارضة المؤيدة للثورة الشبابية؟ أم عملت المبادرة على احتواء الثورة اليمنية الشبابية الشعبية من خلال تجميد المسار الثوري، وتحويله نحو المساومات السياسية.

أما القسم الثالث: فتم تخصيص الحديث فيه عن التحديات المستقبلية التي تواجه اليمن منذُ قيام ثورة 11 فبراير/شباط 2011، وأثرها في أمن الخليج العربي، حيث سيتم تسليط الضوء على التحديات الأمنية والاقتصادية والانسانية، في ظلّ تناول الحركة الحوثية، (كمشروع سياسي طائفي) تعمل بهوية “دينية وسياسية” خارجية (إيرانية) مازالت تهدد بنية الاستقرار السياسية والاجتماعية في اليمن وأمن الخليج العربي. وكذا (الحراك الجنوبي المسلح)، و(تنظيم القاعدة)، وأثر تلك التحديات في أمن الخليج العربي. ودور دول الخليج العربي في المساهمة في مواجهة تلك التحديات من خلال المساعدات الاقتصادية والأمنية التي تقدمها لليمن.

وتخلص الدراسة إلى جملة من النتائج والمقترحات، فعلى مستوى النتائج، ترى الدراسة:

  • أدى افتقار النظام السابق الحاكم في اليمن بقيادة الرئيس علي عبد الله صالح وحزبه (حزب المؤتمر الشعبي العام)، إلى خلق بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية غير مستقرة، مما جعل تلك أسباب مباشرة لقيام ثورة 11 فبراير/شباط 2011، وكان لاندلاع الثورة في تونس ومصر عامل محفز في التسلسل الزمني لاندلاع الثورة اليمنية، ليجد فيها، الشباب والمعارضة السياسية ضالتهم المنشودة.
  • فرَّغ نظام علي عبد الله صالح السابق النظام الجمهوري من مضامينه الحضارية والديمقراطية، عندما لجأ إلى تركيز السلطة في يد أقاربه وأنسابه، ومحاولة إعداد نجله لوراثة السلطة. فالحزب الحاكم لم يقدم أي برنامج اجتماعي لليمنيين، بل أوجد نظاماً اجتماعياً متخلفاً يعتمد على علاقات القرابة ونواتها الأساسية هي القبيلة والذي يتحرك بدافع العرف والعادات والتقاليد القديمة.
  • لم تكتمل الثورة اليمنية في تحقيق أهدافها إلى بناء مشروع وطني ديمقراطي متكامل الأسس الفكرية والإجرائية، لبناء دولة مدنية مؤسساتية خاضعة لقانون عادل، في ظلّ استمرارية الصراع على الخلفيات الفكرية والدينية بين للقوى السياسية والاجتماعية في المرحلة الانتقالية. والاستئثار السياسي لتلك القوى السياسية والحزبية بالسلطة.
  • كان لحكم الرابط التاريخي والسياسي والجغرافي بين اليمن ودول الخليج العربي الدافع الحقيقي لوقوف دول الخليج العربي إلى جانب اليمن، أثناء اندلاع ثورة 11 فبراير، ولكون اليمن يعدّ خاصرة الجزيرة العربية، حيث أي اضطراب أو قلق فيه ينتقل إلى دول الخليج العربي أو على الأقل يترك تداعياته الخطيرة عليها.
  • لعبت دول الخليج العربي دوراً محورياً في (المبادرة الخليجية)، وذلك في توجيه بوصلة الصراع السياسي والقبلي في اليمن أثناء الثورة نحو التوافق والسلام، ونبذ العنف لتحقيق السلم الاجتماعي في اليمن.
  • تواجه اليمن العديد من التحديات، أبرزها التحدي (الأمني ولاقتصادي) منذُ اندلاع ثورة 11 فبراير، وترتكز التحديات الأمنية في (تنظيم القاعدة) و(الحركة الحوثية) و(الحراك الجنوبي المسلح)، وتلعب إيران دوراً مباشراً في تقديم الدعم (اللوجستي والمالي والاعلامي) للحركة الحوثية والحراك الجنوبي المسلح. وشكّلت هذه التحديات حالة من عدم الاستقرار الأمني في اليمن في المرحلة الانتقالية، ومثلت كذلك تهديداً للأمن القومي لدول الخليج العربي.
  • تعمل دول الخليج العربي لمواجهات التحديات الأمنية والاقتصادية التي تعيشها اليمن بعد ثورة 11 فبراير، ضمن استراتيجية الدعم الاقتصادي والاستخباراتي، مع إعطاء الأوّلية للدعم الاقتصادي في المرحلة الانتقالية، كمهمة لمواجهات التحديات وإدارة الأزمات.

فيما تقترح الدراسة:

  • من المهم أنّ يكون لدول الخليج العربي روابط اتصال قوية، وتكوين تأثير فعلي على جميع الفصائل اليمنية، ويشمل ذلك الحوثيين الذين يجب إقناعهم بترك إيران. ليس ذلك بالصعوبة التي يبدو بها، لأنّ المملكة العربية السعودية على سبيل المثال، لها علاقات قوية وراسخة مع عدد من الأطراف اليمنية.
  • على دول الخليج العربي تهميش الرئيس السابق علي عبد الله صالح وأفراد عائلته المؤثرين، بالإضافة إلى بعض شيوخ حاشد أسرة آل الأحمر، بإقناعهم بالخروج من اللعبة السياسة في اليمن نهائياً.
  • يجب على اليمنيين اليوم الإدراك بأنّ أي انحراف عن المقاصد الرئيسة (للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية) يوقع المسؤولية على عاتق الموقعين عليها، وليس على أصحاب المبادرة الاشقاء في دول الخليج العربي. لأنّ حاجتهم لها كحاجتهم للقطيعة مع الماضي وكل ترسباته، وبقدر حاجتهم أيضاً للعيش في حاضر جديد، وفي وطن يحتضن الجميع.
  • يجب على حكومة الوفاق الوطنية التي تدير السلطة اليوم في اليمن في المرحلة الانتقالية، أنّ تتحرر من العقل المنفرد النرجسي المنغلق على الذات الأيدلوجية، إلى عقل ناضج وحكيم ومنفتح، يقبل التحول الديمقراطي ويؤسس له لتأسيس حكم مدني رشيد.
  • يجب العمل على استيعاب اليمن ضمن أية ترتيبات سياسية وأمنية وعسكرية في منطقة الخليج العربي، من خلال بنية أمنية خليجية جماعية مع اليمن لا ثنائية فردية، وعلى نحو يجعل من اليمن عنصراً رئيساً في الترتيبات الخليجية الجماعية، وليس فقط مجرد قضية من قضايا الأمن في الخليج العربي. ودول مجلس التعاون الخليجي اليوم في أفضل موقع لتقديم العون لمنع اليمن من التحول، ليس إلى همّ أمني فحسب، بل إلى مصدر تهديد أمني أيضاً لدول الخليج العربي.
  • يجب على دول الخليج العربي عدم جعل الدعم الاقتصادي مشروعاً لحل التحديات التي تواجه اليمن لأنّها لا تكفي وحدها، بل يجب تكثيف الدعم العسكري والاستخباراتي.

 

سابعاً- عبد القادر نعناع، “تأثير النظام الدولي في المسار الثوري العربي، والأثر الارتدادي للثورات”:

تذهب هذه الدراسة إلى أنه لا يمكن مقاربة الحدث التاريخي وفق حتمية استمراريّته أو نهائيّته، فهو حدثٌ مدفوعٌ بالتغيير والتحرك نحو الأمام، اعتماداً على متغيّراتٍ محدَّدةٍ تعمل معاً على تحديد مساره وتحريكه. غير أنّ التغيُّر داخل المسار التاريخي يبقى فعلاً طويل المدى يحتاج إلى عقودٍ أو أكثر لإنتاجه، مؤثّراً ومتأثّراً بكافّة البيئات المرتبطة به.

فقد اعتُبِر من مسلَّمات علم العلاقات الدولية قبل انتهاء الحرب الباردة، أنّ التغييرات الكبرى التي تحصل في النظام الدولي International Order والتي تدفع به إلى شكلٍ جديدٍ، تأتي عقب حروبٍ كبرى بين أقطاب النظام السابق، نتيجة تغيّراتٍ في موازين القوى القائمة بينها، وسعيها من خلال قوتها المكتسبة لتأكيد فعاليتها الدولية، وتوسيع مصالحها على الساحة العالمية. وهو ما شهده النظام الدولي -على سبيل المثال- أثناء التحوّل من التعدّدية القطبية Multipolarity إلى الثنائية القطبية Bipolarity عقب الحرب العالمية الثانية.

غير أنّ ما حصل بين عامي (1989–1991)، يُعتبر سابقةً تاريخيةً في تحوّلات النظام الدولي، إذ لم يكن انهيار حلف وارسو وجدار برلين، ولاحقاً سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكُّكه، نتيجةَ حربٍ مباشرةٍ مع المعسكر الغربي، بقدر ما كان انهياراً داخلياً للمنظومة الاشتراكية. وهو ما تجلّى في فتراتٍ لاحقةٍ، بالتخلي طوعاً عن النظام الاشتراكي في معظم الدول التي كانت تتبناه.

فلم يعد بالإمكان الاستمرار في نظام دولي، قد اختلّت موازين القوى فيه بشكلٍ كبيرٍ لصالح الولايات المتحدة (العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية)، ولم يعد فيه للقوى الأخرى قدرةٌ على منافسة الولايات المتحدة على المصالح في المستوى الدولي، وبالتالي رغبةٌ في تلك المنافسة. حيث إنّ تلك القوى إما أنّها انكفأت على ذاتها في إعادة هيكلةٍ شاملةٍ –الاتحاد السوفييتي/ روسيا– أو أنّها توافقت مع التوجّهات الأمريكية الجديدة.

غير أنّ حالة الحرب تلك، المُغيِّرة لشكل النظام الدولي ومؤسَّساته وبِنيانه، تتأثّر بدورها بجملة عوامل، منها داخليةٌ تتعلق بالتطورات الحاصلة في مجموعة دول. كالثورات الداخلية التي تعيد هيكلة الدولة وتشكيل نظامٍ سياسيٍ أكثر حداثةً من سابقه، بل وقد تعمل على تصدير ثورتها إلى محيطها الإقليمي. وينشأ عن عملية التصدير تلك حروبٌ قد تتطوّر إلى عملية إعادة إنتاج النظام الدولي ذاته.

حيث تدفع الثورات على المدى المتوسط، إلى إعادة تشكيل مقوّمات الدولة والنهوض بها، وإلى إعادة تعريف الدولة في المجال الدولي، من خلال هيكلةٍ جديدةٍ للمصالح تتوافق مع التغيّرات التي تلحق بقوة الدولة بعد ثورتها. فالثورة في الأساس عملية استعادة الدولة من نظامٍ سياسيٍ استبدّ بها وأطاح مقومات استمراريتها، وإعادة خلقها داخلياً وخارجياً.

وحيث يؤثّر شكل النظام الدولي وتوزيع القوى فيه، في مسار التغيير الثوري وقدرته على تصدير نموذجه؛ إلاّ أنّه يترافق بأثرٍ متبادلٍ معاكسٍ للسابق، من خلال تأثيرٍ ثوريٍ في المحيط الإقليمي بدايةً، وفي العلاقات الدولية ونمط القوة فيها، وصولاً إلى شكل النظام الدولي.

إذ أطاحت الثورة الفرنسية من خلال امتدادها الأوروبي عسكرياً، بتوزيع القوى الدولية، وأدّت إلى تغيُّرٍ في شكل النظام متعدّد الأقطاب، بتراجع أدوار هولندا والبرتغال وبروسيا والنمسا، لصالح فرنسا وبريطانيا، إضافة إلى روسيا، ولاحقاً ألمانيا. كما أدّت حرب الاستقلال الأمريكية (ثورة التحرّر من الاستعمار) والحرب الأهلية (ثورة التحرّر من العبودية) إلى إعادة تعريف الدولة الأمريكية وبروزها على الساحة الدولية. كما أدّت الثورة اليابانية (ميجي آشن) ذات الوظيفة ببروز القوة اليابانية آسيوياً، وتحوّلها لقوة احتلالٍ ساهمت في صراعاتٍ دوليةٍ غيّرت شكل النظام الدولي. فيما كانت ثورات أخرى (أوروبا الشرقية) نتيجة لتغيُّر شكل النظام الدولي.

ووفق هذا السياق، تأتي الثورات العربية في مرحلةٍ تشهد سيولةً في شكل النظام أحاديّ القطبية، عمد إلى التأثير في مسارها الثوري داخلياً وإقليمياً، وفق تقاطعات مصالح الدول ذات التأثير الفاعل. وأفسحت المجال لإعادة خلق تدخلاتٍ دوليةٍ تمسّ بالأساس بِنيَة النظام الدولي، وإن كانت في طور أدوات المناورة والمساوة والتوافق فيما بين قوى قانعةٍ تهيمن على النظام الدولي أو تتحالف معها، وقوى لم تعد قانعةً بتوزيع المصالح وشكل القوى داخل هذا النظام.

غير أنّ حركة التاريخ التي تشهدها المنطقة العربية، هي بدورها ذات اتجاهين اثنين متضادّين كمثيلاتها، إذ لابدّ أن تنعكس هذه الثورات على المدَيَيْن المتوسط والبعيد على حجم قوّة القوى الإقليمية والدولية، وعلى حجم مصالحها بالتالي، دافعةً إلى إعادة تشكيل التوازنات الدولية باتجاه نظامٍ دوليٍّ جديد. وإن كانت ما تزال في بدايتها، إلاّ أنّها غالباً ما ستستمرّ على شكل موجات تحولٍ ديمقراطيٍ متتاليةٍ، تتصارع مع موجاتٍ ارتداديةٍ تسعى للعودة إلى الحالة السابقة للفعل الثوري.

من هنا يبرز التساؤلان الرئيسان لهذه الدراسة، وهما:

  • كيف أثرّ شكل النظام الدولي أحاديّ القطبية في مسار الفعل الثوري العربي؟
  • ما هي الانعكاسات المحتملة مستقبلياً للثورات العربية على شكل النظام الدولي؟

وتخلص الدراسة بالتنويه إلى ثلاث حتميّاتٍ رئيسةٍ تحكم الحدث التاريخي. فالأولى هي حتميّة استمرارية التفاعل التاريخي وحركيَّتِه نحو الأمام، فلا نهائيّة في التاريخ البشري، إلا مع زوال العنصر الرئيس والمتحكّم فيه وهو العنصر البشري. وإن كان يبدو في لحظة ما، جمود التاريخ عن هذا الحراك، فإنّما هو تجميعٌ لعناصر التفاعل المحركّة له. كما أنّ التغيير التاريخي لا يمكن أن يُدرَس عبر شهور أو حتّى بضع سنوات، فغالباً ما يتّخِذ شكلاً يمتدّ عبر العقود والقرون.

أما الثانية، فهي حتميّة التأثير الذي تمارسه بِنيَة العلاقات الدولية وطبيعة النظام الدولي في الأنظمة الإقليمية المتفرعة عنه، وسلوك الدول منفردةً، بعيداً عن منطق المؤامرة الذي تستند إليه الأنظمة المستبدّة، بل من خلال منطق المصالح القائمة في العلاقات الدولية. وعليه، لا يمكن الانعزال عن البيئة الإقليمية والدولية المحيطة بالدولة كلياًّ، وإن كان الانعزال عن التدخّل فيها في مراحل معينةٍ مطلوباً لإتمام فعلٍ داخليٍ، وهو ما قد تلجأ إليه الدول الثورية العربية في محاولة إعادة بناء الدولة والمجتمع فيها، وإعادة تموضعها الدولي.

أما الثالثة، فلكلّ فعلٍ فعلٌ مضادٌ له في الاتجاه مساوٍ له في التأثير، وعليه فإنّ الفعل التاريخي الموجَّه من قبل قوى معينة تجاه أخرى، سيجده ارتداده الزماني والمكاني المعاكس. بعد أن يستكمل شروط حراكه الداخلي تجاه محيطه الخارجي. وإن كانت الدول العربية في هذه اللحظة التاريخية قد تبدو في أشدّ ظروفها قسوةً، إلاّ أنّ عملية إكمال الحدث الثوري، عبر موجاتٍ ديمقراطيةٍ متتاليةٍ وموجاتٍ ارتداديةٍ، ستجد أثرها في تشكّل بيئةٍ إقليميةٍ جديدة، تدفع بدورها باتجاه تغير نمط العلاقات وطبيعتها في بِنيَة النظام الدولي.

إعداد: عبد القادر نعناع

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

  1. هاني 17 أبريل, 2019 at 17:01 رد

    الربيع العربي كان سبب خراب ودمار الشعوب والأوطان ، ماهي النتائج التي تركتها الثورات المشؤمة على واقع الشعوب سوى الفقر والخراب .

إضافة تعليق جديد