عاصفة الحزم فرضت واقعاً جيوسياسياً إقليمياً جديداً

منذ غزو أمريكا للعراق أصبحت المنطقة رهينة لإحياء الصراع السني الشيعي التاريخي بالتعاون مع إيران التي تطمح لمد نفوذها منذ انهيار الإمبراطورية الفارسية، وأتاح لها المحتل الفرصة وأطلقوا يديها، في حين حاولت إيران إخفاء هذا النفوذ تحت اسم الطائفية، بينما هي في الحقيقة تستهدف أمن العرب جميعا سنة وشيعة على السواء من أجل فقط استعادة إمبراطوريتها على أنقاض العراق.

الغريب أن قائد القوات الأمريكية إبان الغزو قال بأنهم لن يسمحوا بعودة السنة لحكم العراق مرة أخرى، لكن اكتشفت أمريكا أن إيران لديها طموحات تهدد مصالحها في الشرق الأوسط، وتهدد أمن إسرائيل، وفي اجتماع مغلق شن الرئيس السابق جورج بوش أعنف هجوم علني له ضد خليفته حيال سياساته الخارجية، قائلا إن الرئيس أوباما يتصرف بسذاجة إزاء إيران والاتفاق النووي المزمع بالإضافة إلى خسارته الحرب مع داعش.

تداعيات عاصفة الحزم تدفع المجتمع الدولي لإعادة صياغة سياساته تجاه طهران، فتزايدت الاتهامات لإيران بتصدير التطرف والفوضى في منطقة الشرق الأوسط، إذ إن عدداً من السياسيين والدبلوماسيين الغربيين والإيرانيين المعارضين يربطون بين المفاجأة التي حققتها عاصفة الحزم، وتنبه القوى الدولية للخطر الإيراني، وتمدده في المنطقة، مع مساعيه لامتلاك السلاح النووي.

بعد نحو شهر على انطلاقها وتحقيقها متغيرات جذرية على الأرض في اليمن، أصبح من المعتاد أن تجد مصطلح عاصفة الحزم كمعبر عن القدرة على مواجهة الطموحات الإيرانية في كثير من الأدبيات السياسية الدولية.

هناك تساؤلات داخل أورقة البيت الأبيض، كيف نجح التحالف العربي بقيادة الرياض في حشد الحلفاء المتفقين على هدف واحد والمستجيبين لنداء شرعي واحد خال من أي غايات طائفية أو مذهبية، بينما تحالف أوباما راهن على أطراف ذات أهداف متباعدة لحل مشكلة العراق دون أي اعتبار لخطورة التعاون مع طرف إقليمي يؤجج للطائفية في المنطقة، لماذا فشلت واشنطن وانتصرت الرياض؟

 السعودية وحتى البعض الذين يدركون أن دفع الإعلان عن التوصل إلى اتفاق مبدئي بين الولايات المتحدة وإيران لن تنضم إلى النظام الدولي كطرف فاعل مسؤول، لأن الحكومة الإيرانية الحالية لا تزال تحمل بصمات وآثار تاريخ طويل من الطموحات الفارسية، ولا تزال إيران قوة ثورية جيوبولتيكية تتطلع إلى الهيمنة، بعد مزج بين النهج القومي الذي يستعيد أمجاد فارس، وفكر عصري يقوم على إنشاء دولة إسلامية عسكرية، وعندما أدركت أن النهج العسكري لم يعد كافيا، اتجهت إلى تصدير الثورة إلى الدول الإسلامية القريبة من خلال عقد تحالفات طائفية وسياسية بوصف إيران حامية الطائفة الشيعية في دول مثل البحرين واليمن ولبنان والعراق، فأنشأت مليشيات شيعية مسلحة لتعزيز وضعها الإقليمي.

والتاريخ يعلمنا كيف أن التعايش مع قوى مهيمنة قبل الحرب العالمية الأولى دفعت العالم نحو حربين عالميتين الأولى عام 1914 والثانية عام 1939، في أعقاب هذا الخراب وهذه الفوضى تم إرساء النظام العالمي بقيادة أمريكا.

 لكن حينما تتحدى إيران قواعد وأسس النظام العالمي وبث الفوضى نتيجة التراخي الأمريكي بقيادة أوباما، فرض على السعودية قيادة عاصفة الحزم لتحييد القوة الثورية لإيران، بعدما حيدت الإمبراطورية العثمانية طموحات توسع الدولة الصفوية في القرن السادس عشر، ولكنهم لجأوا إلى تشكيل إيران قوة شيعية بارزة بسطت نفوذها على أفغانستان وفي مياه الخليج والعراق وجنوب القوقاز، وتوقف نفوذها في القرن الثامن عشر عندما خارت قواها بعد حروب منهكة ضد العثمانيين والروس إلى أن دعمت أمريكا الشاة لتعزيز قوة إيران في بداية السبعينات لتقف كقوة أمام تقدم الكتلة الشيوعية نحو الخليج العربي.

لذلك وقفت إيران عن طريق المليشيات الشيعية في العراق أمام مصالحة عراقية حقيقية، ووقفت أمام تشكيل الحرس الوطني الذي يسمح بتسلح العرب السنة وغيرهم تحت إشراف الدولة، مما جعل الولايات المتحدة تفرض مشروع الكونغرس لتسليح أطراف عراقية بمعزل عن الحكومة، جعل الحكومة العراقية تغضب من مثل هكذا قرار ينتهك السيادة الوطنية.

أصبح العبادي يمشي على حبل تشد طهران وواشنطن طرفيه، وتارة يتحرش بالمطرقة الإيرانية، وتارة يغازل السندان الأميركي، مما يفرض على العبادي مطالبة عودة البرلمان العراقي لمناقشة الحرس الوطني مرة أخرى، ووافق العبادي مكرها على تسليح عشائر الأنبار لمواجهة داعش ضد رغبة زعامات الحشد الشيعي، بجانب تعيين اللواء زياد طارق العلواني قائدا للحشد الشعبي.

نجحت الولايات المتحدة من خلال مشروع الكونغرس من الضغط على الحكومة العراقية من أجل مواصلة المصالحة العراقية، رغم أن غضب الحكومة العراقية زوبعة في فنجان، لأن العراقيين لا يزالون منقسمين على أنفسهم، وليس من مصلحة لا الولايات المتحدة ولا إيران ولا تركيا في تقسيم العراق، بينما هو صراع على النفوذ، ولولا خطر داعش لسكتت الولايات المتحدة على المالكي، وحتى أبناء المحافظات ليسوا صريحين مع أنفسهم، فلا يمكن أن يكونوا مع النفوذين الإيراني والأمريكي، ولا يمكن مقاتلة النفوذين.

لعبة شد الحبل ما بين التمدد الإيراني والصدام مع الولايات المتحدة، خصوصا وأن الولايات المتحدة لا تريد صراعا مع إيران في العراق، بل تريد تهدئة حتى توقع الاتفاق النووي مع إيران.

لكن أمريكا ترى أن محاربة داعش لا يمكن أن يأتي من الحشد الشيعي، بل من السنة، أي أنها تريد عقداً سياسياً بين الشيعة والسنة لما بعد داعش حتى لا يعود داعش مرة أخرى إلى العراق، وهي نفس التجربة للعرب السنة بعد انتهاك المالكي للسنة العرب بعد تسريح الصحوات الذين شكلتهم أمريكا لمحاربة القاعدة في العراق، واتهامهم المالكي بالإرهاب يمكن أن يعيد العراق للمربع الأول.

لأن قضية تحرير تكريت وما قام به الحشد الشعبي من أجل زعامات سياسية طائفية حتى يجير دحر داعش للشيعة، وليس للوطن العراق، خصوصا وأن الجيش العراقي لا يزال هشاً، ويستعير بعض قطع الأسلحة الثقيلة من المليشيات الشيعية.

 انقسام العراقيين على أنفسهم يجعلهم فريسة سهلة وحطباً لإيران وللصراع الإقليمي، خصوصا في ظل غياب وفاق إقليمي، بل يمكن أن يستعيد العراق الوفاق الإقليمي، بسبب أن تركيا لا تمانع في دعم العراقيين بالتعاون مع الأمريكيين في تحرير الموصل شرط أن توافق الولايات المتحدة على إقامة مناطق آمنة في سوريا.

والمليشيا الصدرية الوحيدة ولادة عراقية، والصدر الوحيد الذي طالب بسحب الثقة من المالكي، ويريد قطع الطريق على بقية المليشيات الشيعية التي تتبع إيران والتي ترتكب جرائم على الهوية في العراق التي سماها بالمليشيات الوقحة، يمكن أن يكون الصدر نواة لتوافق عراقي، ولكن يجب أن تساهم السعودية في بناء الجيش العراقي كما ساهمت في بناء الجيش اللبناني.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق