صناعة الحروب: ما بعد التسليح الإيراني للبيشمركة

تعتبر مسألة الأقليات في المشرق العربي، من أبرز الإشكاليات الدائمة والقائمة منذ ما عُرِف بالمسألة الشرقية في القرن التاسع عشر، حيث عمدت القوى الكبرى في النظام الدولي آنذاك، إلى اختراق البيئات العربية عبر المدخل الأقلوي، وإحداث شروخ تصدع انفصالي عرقي-ديني يمكن الاشتغال عليها طويلاً، كأداة تقاسم مصالح ونفوذ في المنطقة العربية من جهة، وإعاقة نهوض قوى مضادة لها في المنطقة من جهة ثانية.

حيث اشتغلت تلك القوى، على تغذية النزعات الانفصالية للمجموعات المعرفة أقلوياً، وإعادة توسيع قائمتها بين الحين والآخر لتشمل مجموعات أكثر تشظياً، ومدّها بكافة مستلزمات البقاء ضمن دائرة الصراع غير المتناهي، دون أن تعمل على تقسيم أقوامي ينهي حالة الاقتتال الدائم. فالغرض الأساس من المسألة الشرقية (الصراع الأكثري-الأقلوي) هو إشغال المنطقة بحروب دائمة.

وقد انخرطت إيران في هذا الصراع، منذ نشوء الإشكالية العربية-الفارسية، وعمدت إلى لعب أدوار تهديمية كثيرة كلما سنحت لها الفرص في ذلك، حيث تعيش إيران حالة من مازوخية التاريخ، المتمثلة بجلد الذات الدائم نتيجة سقوط الإمبراطورية الفارسية، حيث تمثّل ذلك بتوظيف ديني من خلال اختلاق مسار إسلاموي خاص بهذه العملية. حتى انعكست سادية على المجتمعات العربية المحيطة بها، ضمن إعادة توجيه مفرزات التاريخ بشكل انتقامي يتغذى على المدخل الديني.

ومما اشتغلت عليه إيران، الدفع بالأقليات غير العربية والأقليات غير المسلمة وغير السُنية، عبر إسنادها عسكرياً ولوجستياً، بل واختلاقها أحياناً، لتكون مشروعاً مضاداً لأي توجه نهضوي عربي، تحوّل لاحقاً إلى مشروع مناصرة كافة الأقليات العرقية والدينية في البيئة العربية، متناقضاً مع الحال داخل إيران.

أولاً- البعد التاريخي للدعم الإيراني للأكراد:

عمد الفرس كما سواهم من القوى الإقليمية في المنطقة، إلى توظيف العنصر الكردي في المؤسسات العسكرية، لمواجهة الأطراف المنافسة، وخاصة أنّ الأكراد طالما شكلوا حاجزاً بشرياً بين الامبراطوريات المتصارعة، دون أن يكون للأكراد حينها وعي سياسي مكتمل بضرورة تشكيل كيان مستقل بذاتهم، حيث استطاعوا السيطرة على عرش فارس في الفترة (1760-1779) تحت حكم كريم خان زند، إلّا أّن ذلك أبقاهم على حالة الميليشيا المأجورة والمتنقلة حسب المتغيرات الجيوسياسية، والتابعة لعدة مراكز من القوى.

حيث دعمت كل من تركيا وإيران، ولاحقاً العراق وسورية، التمردات الكردية المسلحة لدى خصومها، في سبيل إنهاكها، ما أدى في النتيجة إلى حالة أشبه بصراع كردي-كردي على طرفي الحدود بين تلك القوى. ورغم حالة السيولة في طبيعة الاندفاع التحالفي مع القوى الخارجية (منها لاحقاً الولايات المتحدة وإسرائيل (1) والاتحاد السوفييتي)، إلا أن الأكراد ظلوا على حالة التوظيف الخارجي لهم في مواجهة القوى المحلية.

ومع أن إيران اختلفت في نظرتها إلى الأكراد عن باقي دول المنطقة، لناحية تشديدها على ما بين الشعبين الفارسي والكردي من “قرابة” عرقية وتجانس، إلّا أنّ طهران غالباً ما عمدت إلى قمع التمردات الكردية المسلحة (1920، 1926، 1930، 1932)، باعتبارها “أعمالاً قبلية” يدفعها الطموح الشخصي لرؤساء القبائل.

وطيلة فترة العصيان الكردي المسلح في العراق (1961-1975)، استفاد أكراد العراق من توريدات العتاد العسكري من إيران، ومن اللجوء إلى أراضيها، وهو لجوء كثيراً ما كان حيوياً إبان انكفاءات البيشمركة أمام اندفاع الجيش العراقي. وكان موقف طهران يقوم على تسهيل ملاحقة هذا النزاع في العراق، وهو نزاع كان الطرفان يتورطان فيه ويستنفذان قواهما، مع احتراس طهران من ألّا تتمكن عدوى القومية الكردية من تنمية آثارها إلى داخل إيران نفسها. فيما كان الحزب الديمقراطي الكردي PDK يحرص دائماً على تطمين طهران بأنّه لا يسعى إلى التحالف مع مثيله الحزب الديمقراطي الكردي الإيراني، إلاّ فيما يتعلق بحسن سير عملياته الخاصة في الأراضي العراقية. حيث سلم المتمردين الأكراد الهاربين من إيران لطهران عام 1965 (2).

كما استفاد الأكراد على التوالي من دعم الاتحاد السوفييتي، ومن عهد الملكية العراقية ونظام الأخوين عارف، ومن الولايات المتحدة وإسرائيل، دون أن يكون أبداً لهذا العون هدف في تأمين انتصارهم، ولكن ليطيل نزاعاً كان يُضعِف بغداد. إذ كان من الصعب جداً على أجزاء الحركة القومية الكردية المختلفة، المحتواة على هذا النحو في دول المنطقة، والمحكوم عليها بدرجة معينة من العزلة، إعداد استراتيجية إجمالية متسمة بشيء من التلاحم وذات طابع دائم. وللدفاع عن مصالحهم الخاصة على الصعيد المحلي، كان يلزمهم على الأقل، القيام بلعبة أولئك الذين فيما وراء الحدود (3).

فيما تخلى شاه إيران عن دعم التمرد الكردي كلياً ونهائياً عام 1975، بعد توقيع اتفاقية الجزائر مع العراق، فانكفأت الحركية الكردية على ذاتها، ومُنِيت بجملة خسائر عسكرية كبيرة، لم تستطع حينها الاستمرار في حالة المواجهة، خاصة مع صعوبات الحصول على السلاح من خلف الحدود. وكان عليها أن تنتظر تغير النظام في طهران، بانقلاب خميني عام 1979، وافتتاحه عهداً جديداً من الحروب الإقليمية الطويلة، حيث عاود نظام الملالي حينها دعمه للميليشيات الكردية في العراق، بشكل واسع، مسنوداً بدعم من النظام السوري حينها لهم، في سبيل إنهاك بغداد مرة أخرى. بل تذهب بعض الآراء إلى أنّ ما يعرف بمجزرة حلبجة الكيماوية قد تمت من قبل إيران بالتنسيق مع قيادات كردية، في سبيل تصفيات كردية داخلية أولاً، ولإفقاد العراق كل دعم دولي، من خلال إلصاقها بالحكومة العراقية، وتحريض الرأي العام العالمي عليه لاحقاً.

ورغم كل هذا الدفع الإيراني لدعم الأكراد، إلا أنّهم كانوا حريصين على ألّا يشكّل الإمداد العسكري لهم مجالاً يتيح لهم انتصاراً كاملاً يؤهلهم لإعلان دولنة إقليمهم. أو يسمح بتمدّد حراك مسلح إلى أكراد إيران، يتيح إنشاء مناطق مستقلة ذاتياً عن المركز طهران.

ثانياً- التسليح زمن الفوضى:

تتنوع الدوافع التي تسوقها إيران في الدعم المسلح للمجموعات الأقلوية في العالم العربي، وقد أوجدت بيئة مناسبة لتلك الإمدادات التسليحية منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، والعمل على عسكرتها في غير دولة (سورية، لبنان، العراق، اليمن، البحرين)، وخاصة بعد استحداث تنظيم داعش الإرهابي في العراق وسورية، وما ترتب عليه من مجازر في عدة مناطق، كان جزء منها تجاه فئات كردية عراقية.

وتقاطع ذلك مع تنامي نزعات الهويات الانفصالية في عدة دول عربية، كنتيجة للفوضى الهوياتية والسياسية الحاصلة عقب الثورات، وعجز الحكومات الانتقالية عن معالجة الإشكالية البنيوية المزمنة في هياكل الدولة منذ نشأتها، ومن أبرزها إشكالية الأكثرية/الأقلية، والهوية الوطنية. دافعة باتجاه إعلاء مطالبها الانفصالية بقوة الأمر الواقع والسلاح أحياناً، وأكثر ما يتمظهر ذلك في الدفع الكردي في شمال العراق.

حيث أعلنت رئاسة إقليم كردستان العراق أنّ إيران زودت أربيل بأسلحة لمواجهة تنظيم داعش، وقال بارزاني في مؤتمر صحافي مشترك مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف نشرته وكالة “باسنيوز” الكردية للأنباء إنّ إيران زودت القوات الكردية العراقية بالسلاح والذخيرة. وأضاف أنّ الأكراد طلبوا أسلحة وأنّ طهران كانت أول دولة زودتهم بها. وأكدّ أنّ المساعدات العسكرية إلى الإقليم ساعدت قوات البيشمركة في أن تلحق أضراراً فادحة بالتنظيم المتطرف. وأضاف أنّ بارزاني طلب من ألمانيا شحنات أسلحة بشكل عاجل (4).

فيما قررت الحكومة الألمانية، إرسال أول دفعة من السلاح إلى أكراد العراق تتألف من 30 صاروخاً مضاداً للدروع وآلاف الرشاشات لمساعدتهم في المواجهة مع تنظيم الدولة الإسلامية. وقالت وزيرة الدفاع أورسولا فون در ليان خلال مؤتمر صحافي عقدته في برلين مع وزير الخارجية فرانك فالتر شتاينماير “إنّ الوضع في العراق خطير للغاية ومن واجب المجتمع الدولي دعم الذين يتعرضون للاضطهاد”. من جهته، قال شتاينماير “لا يمكننا أن نقف متفرجين” أمام التطورات في العراق. ونقلت “فرانس برس” عن وزيرة الدفاع إنّ الدفعات الأولى من الأسلحة ستكون قادرة على تسليح نحو أربعة آلاف مقاتل بحلول نهاية سبتمبر/أيلول. وإضافة إلى الصواريخ والرشاشات فإن ألمانيا تعتزم أيضا تسليم الأكراد مسدسات وقنابل يدوية وخيماً وخوذاً وسترات واقية من الرصاص، حسب ما جاء في لائحة نشرتها الحكومة الألمانية. وسبق أن وافقت دول عدة على القيام بالمثل كالولايات المتحدة وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا (5).

ويأتي هذا الدعم التسليحي الإيراني بالتوافق مع التوجه الدولي لإنشاء تحالف لمواجهة تنظيم داعش، حيث كانت إيران في قائمة الدول التي سلحت قوات البيشمركة، بالتنسيق مع القوى الغربية الكبرى، بما يحفظ مصالح جميع الأطراف في العراق.

إذ ذكر مصدر مسؤول في وزارة البيشمركة في حكومة إقليم كردستان أن القوات الأميركية باشرت تدريب وتمرين قوات بيشمركة كردستان. وقال الأمين العام بالوزارة جبار ياور في تصريح صحافي إن القوات الأميركية بدأت تدريب قوات بيشمركة كردستان وفق خططها لتدريب القوات العراقية، مبيناً أنّ “التدريبات شاملة ومتنوعة، منها الأساسية والخاصة”. وأوضح المسؤول في وزارة بيشمركة كردستان أنّ “هذه الخطوة تنفذ بموافقة ومشاركة الحكومة العراق الفيدرالية، وقد وصلت إلى مرحلة يتم فيها تدريب الأفواج العسكرية، الواحد تلو الآخر” (6).

فيما اتفق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الجمعة (15 آب/ أغسطس 2014) على دعم مسعى الدول الأعضاء في الاتحاد لتسليح المقاتلين الأكراد في العراق، بحسب ما صرح به وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير.

وتعتبر إيران الممر الأساس للأسلحة المتوسطة المتجهة إلى إقليم كردستان العراق، ودون أي تنسيق مع حكومة بغداد، خاصة وأنّ نظام المالكي السابق، كان أحد الحلفاء الرئيسين لطهران، إذ تم تجاوزه لصالح تعزيز الانقسامات الداخلية العرقية والدينية، بما يبقي العراق في حالة إنهاك مجتمعي من جهة، وتحويله إلى فئات متضادة عسكرياً ومصلحياً من جهة أخرى.

لكن الملاحظ أنّ غالبية عملية التسليح الإيراني والدولي، لا تتعدى أسلحة خفيفة ومتوسطة، كالبنادق والذخيرة ومضادات الطيران وصواريخ صغيرة، ما يعطي انطباعاً بعودة النهج الدولي في التعاطي مع الأكراد باعتبارهم أداة تنفيذية لمشاريع خارجية، دون السماح لهم بتشكيل قوة حقيقية قادرة على منافسة القوى الأخرى.

ثالثاً- ما بعد المواجهة:

إن المنعكسات المستقبلية لإمداد قوات البيشمركة بالسلاح، لا تقتصر على حال المواجهة القائمة مع تنظيم داعش، والذي تتحضر له كثير من القوى الدولية والإقليمية للانقضاض عليه، فمهمة القضاء على هذا التنظيم لا يمكن أن توكل بالمطلق إلى الطرف الكردي منفرداً، وعليه فإنّ كمّ السلاح المتدفق يحوي بأبعاد تتخطى الحدود المشرقية القائمة، إلى حالة فرض أمر واقع أولاً وتوسيعه لاحقاً (7).

حيث طالب رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، بحماية “إخوتهم الكرد” في سورية، مؤكداً في الوقت نفسه أهمية بقاء قوات البيشمركة على أهبة الاستعداد. وطالب “قوات البيشمركة بأن يقوموا بحماية أخوتهم في غربي كردستان (كردستان سورية)، كما يقومون الآن بحماية شعب إقليم كردستان”. وتشهد المناطق الكردية في سورية معارك عنيفة بين قوات الحماية الشعبية، ومسلحي داعش. وأكد ضرورة “دعم ومساندة قوات البيشمركة بكل جهد وقوة”، موضحاً أنّ “مهمة البيشمركة مقدسة، لأنها تصنع التاريخ وتبني المستقبل لشعبها” (8).

وهذا ما يؤكد تطلع الأكراد إلى لعب دور عسكري في خلق كيانات مقتطعة من الدول العربية، من خلال إلحاق كركوك وأجزاء من محافظة الموصل بها أولاً، ثم التحول إلى البؤرة الأكثر هشاشة “سورية”، باقتطاع ما يسمى “كردستان الغربية”، بقوة السلاح. مسنوداً بإيديولوجية تم الاشغال عليها طيلة العقود الماضية، أتاحت لهم إضفاء طابع القدسية على حروبهم المقبلة. ويبدو أنّ الأكراد باتوا في مواجهة احتمالين اثنين:

–      مزيد من التسليح الإيراني والدولي، وتعزيز حالة الانفصالية والتقسيم لدول المنطقة، من خلال خلق كيان كردي خاضع للتوافقات الإقليمية-الدولية، ذو وظيفة تدخلية وتفتيتية على غرار الكيان الإسرائيلي، وهو ما قد يتصادم مع أطراف إقليمية أخرى، منها دول الخليج العربي وتركيا.

–      اعتماد ذات النهج السابق، في اعتبار الأكراد مجرد أداة تنفيذية بيد القوى الكبرى، وبالتالي اقتصار حالة التسليح على كم ونوع محدود، مترافق مع تعزيز حالة الحكم الذاتي غير الانفصالي في الإطار الفدرالي.

وقد يدفع الخيار الثاني في حال كان المرجح، إلى تصعيد المواجهات الداخلية من جديد، بين الأكراد والحكومات العربية، على غرار عقود الستينيات والسبعينيات، طالما أنّ قوات البيشمركة تمتلك سلاحاً (خفيفاً ومتوسطاً) قادراً على إحداث سلسلة تمردات عسكرية، تمعن في إنهاك الدول العربية ذات الشأن، وتؤجل استحقاق الاستقرار والسلم المنتظر في المنطقة.

وخاصّة أنّ القوى الكردية السياسية والعسكرية، قد أحدثت تقاربات وتصالحات فيما بينها، وعملت على رسم خريطة طريق نحو دولنة إقليمها، بالاستناد إلى الدعم الإيراني والدولي، وفرضت هيمنتها على عدة مناطق خارج إقليمها، بل واندفعت في خلق اقتصاد مستقل تماماً من خلال التصدير المنفرد للنفط. ولم يعد بإمكانها التراجع عما تعتبره من هذه المكتسبات، لصالح توافقات إقليمية-دولية كما كان يجري.

في كلتا الحالتين، فإن السلاح الكردي لن يبقى محصوراً في إطار حدود كردستان العراق، بل سيتجاوزه قريباً إلى الداخل العراقي والسوري، ويبقى الداخل الإيراني والتركي في حال انتظار لجملة توافقات بينها وبين القوى الكردية، وللمتغيرات الدولية.

رابعاً- مواقف دول الجوار العراقي:

فيما تدخل سورية دوّامة الفوضى المستدامة، وتتعمق إشكالية الانفصالية الكردية في العراق، فإن الأطراف الإقليمية المعنية مباشرة بهذه القضية تبقى إيران وتركيا، ومنذ قرابة قرنين. وفيما تسعى إيران إلى توظيف الدفع الانفصالي الكردي لصالحها عبر تشكيلها سنداً لوجستياً للميلشيات الكردية في مواجهة الدول العربية، على أن يبقى نشاطها العسكري بعيداً عن حدود كردستان إيران، فإن تركيا بدروها عمدت خلال السنوات الماضية على استقطاب الأكراد داخلها وإعادة تعريف دورهم السياسي والثقافي، فيما استمرت حملاتها العسكرية على أكراد العراق، باعتبارهم ملجأ للإرهاب الذي تعتمده هذه الميليشيات نهجاً لها.

وكان المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا حسين جيليك قد أدلى بتصريحات لصحيفة فايننشال تايمز فُسِّرت على أنها إشارة إلى أنّ أنقرة ستقبل بدولة كردية مستقلة إذا تفكك العراق، ونقل عن جيليك قوله “إذا تم تقسيم العراق وهذا أمر حتمي… للأسف الوضع في العراق ليس جيدا ويبدو أنه سيقسم”، لكن مسؤولًا تركيا آخر بمكتب رئيس الوزراء بدّد الفكرة على ما يبدو وقال لرويترز إنّ “وحدة العراق مهمة لتركيا”، وفيما مضى أبدت تركيا فتوراً تجاه الجهود من أجل مزيد من الحكم الذاتي لكردستان العراق خوفاً من إثارة المشاعر الانفصالية بين أكراد تركيا الذين خاضوا صراعاً ضد الحكومة على مدى عشرات السنين قُتِل خلاله ما يقدر بنحو 40 ألف شخص، وأدت محادثات السلام إلى وقف إطلاق النار في هذا الصراع العام الماضي، وفي العام الحالي أتاحت تركيا لأكراد العراق ضخّ النفط عن طريق خط أنابيب إلى ميناء تركي لتصديره للمرة الأولى وسط اعتراضات بغداد، واشترت إسرائيل أول شحنات النفط الكردي في الأسابيع القليلة الماضية (9).

فيما عبر رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو عن تأييده لقيام دولة كردية وهو موقف يتعارض مع رغبة الولايات المتحدة الحفاظ على وحدة العراق، واستغل الأكراد الاضطرابات الأخيرة في العراق لتوسعة منطقتهم شبه المستقلة في شمال البلاد لتشمل كركوك التي يعتبرونها عاصمتهم وتجلس على احتياطيات هائلة من النفط، ويقول مسؤولون أكراد إنّ تقدم تنظيم الدولة الإسلامية غيّر العراق؛ بما يتطلب إعادة التفاوض على الاتفاق المعمول به منذ سقوط صدام حسين عام 2003 وينص على أن يحصلوا على الحكم الذاتي على أن يظّل الإقليم داخل العراق مقابل نسبة ثابتة من مجمل عائدات النفط (10).

جملة التصريحات التركية توحي بأنّ تركيا تنساق مع الموقف الدولي من القضية الكردية، مقابل مساومات مصلحية، تضمن لها أمنها واستثماراتها وتدفق النفط العراقي من خلال أراضيها من جهة، وتضمن كمون الحركة الكردية وتعزيز الفعل الإدماجي لها داخل تركيا، في حال الدفع نحو دولنة الإقليم الكردي، بما يتناقض مع الأسس الاستراتيجية التي بنيت عليها السياسة التركية طيلة القرن الماضي.

وهو ما يتطلب من الجانب الكردي بدوره ضمان الأمن التركي، وملاحقة العناصر التي ترى فيها أنقرة عاملاً إرهابياً، والانسلاخ عن الامتداد القومي الكردي داخل تركيا، كما كان يحصل في الأزمنة الماضية، من خلال مساومات مصلحية متبادلة، وهو ما يثير تساؤلات عن حجم التوافق الكردي-الكردي حول ذلك، وعن احتمالية الصدام الداخلي المسلح.

خاتمة

إنّ تعرض الجماعات الكردية إلى إرهاب تنظيم داعش، لا ينفي عنها أحقيتها في الدفاع عن ذاتها وعن مكتسباتها الجيوسياسية، غير أنها ليست المنفردة أمام هذا الإرهاب المتسع، بل تكاد تكون أقل ضرراً من سواها في الداخل السوري والعراقي، ما يستوجب وضع عملية تسليح الأطراف الكردية ضمن سياسية عربية-إقليمية-دولية، تراعي الأهداف التالية:

–      سياسة وقائية تطهيرية للمنطقة من ميليشيات داعش، تحمي كافة المجموعات السكانية، دون تفضيل انتقائي-مصلحي لإحداها على أخرى.

–      سياسية دفاعية تجاه الأخطار المتسعة، تقوم على تعريف المخاطر ومسبباتها، ورسم استراتيجيات متكاملة للقضاء عليها.

–      سياسة تعاونية تحفظ لكافة الأطراف حقوقها المشروعة، دون أن تحدث تعدياً على أطراف إقليمية على حساب أخرى.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق