صراع بين موسكو وأنقرة على المنطقة الآمنة

انزعجت تركيا والمملكة العربية السعودية من أن الدافع الحقيقي لروسيا لم يكن يتعلق بهزيمة داعش بقدر ما هو لإعادة إنشاء القوة الروسية الذي تربطه في إبقاء الأسد ما يجعلها تستهدف المعارضة السورية المعتدلة المدعومة من السعودية وتركيا، ما يعني أن روسيا تستهدف الدولتين.

السعودية وتركيا تريان أن بقاء الأسد في الحكم سيمنح في نهاية المطاف السلطة للجهاديين، لأن كراهية الأسد الذي قتل أكثر من ثلاثمائة ألف سوري، وتهجير أكثر من نصف المجتمع السوري، هي أكبر دافع لتجنيد المقاتلين لديهم.

أصبح مصير الأسد الخط الفاصل بين روسيا والسعودية وتركيا المدعومة من الغرب، رغم أن الولايات المتحدة تحولت تدريجيا نحو الموقف الروسي بالتخلي عن إصرارها على الرحيل الفوري للأسد.

موسكو تأمل بتعزيز مكانة روسيا، وموقعها الاستراتيجي ضمن أية تسوية سورية، لكن المنافسة الاستراتيجية بين روسيا والغرب في منطقة الشرق الأوسط لم يتم التغلب عليها من خلال التوصل إلى مصالح مشتركة في المجال الاستراتيجي، ما جعل بوتين يزور طهران لتثبيت تحالفه الذي أغضب الولايات المتحدة والسعودية وتركيا.

على الرغم من المشهد السياسي الذي تحاول موسكو فرضه بالقوة كثابت في التحولات الجديدة على الخريطة الجوستراتيجية لما تعتقده روسيا بداية ملامح عالم ما بعد الهيمنة الأمريكية، خصوصا وأن بوتين يسابق الزمن في فرض أمر واقع لمكانة روسيا في السياسة الدولية، مستغلا تراجع الهيمنة الأمريكية بفعل سياسة الانكفاء الأمريكية لأوباما المتعمدة لرسم استراتيجيات جديدة لأولويات أمريكا للحفاظ على قوة أمريكا، رغم أن الاقتصاد الأمريكي انخفض من 22 في المائة عام 2000 إلى 18 في المائة في عام 2014، لكن أمريكا تمتلك من بين أكبر خمس وعشرين شركة عالمية تسع عشرة شركة وحدها، وبالتالي فإن الهيمنة الأمريكية في هذا المجال ساحقة، كما أن الولايات المتحدة تستنزف فائض القوة لدى موسكو والتعرف على مكامن قوتها وضعفها.

لذلك تركيا بالتنسيق مع السعودية عازمة على توسيع المنطقة الآمنة، لكن موسكو تتوعدها بالفشل، ما جعل تركيا تقدم على ضرب الطائرة الروسية في هذه المنطقة التي تنوي تركيا إقامتها التي ترى موسكو أن إقامة تلك المنطقة تتعارض مع استراتيجيتها التي أتت من أجلها في سوريا، ما يعني أن تركيا بدتت أحلام بوتين بالقضاء على الثورة السورية.

رغم اتفاق الدولتين على احتواء التصعيد بينهما، إلا أن خطاب أردوغان يحتوي على مضامين بين التهدوية والتصعيدية، لكن الروس واصلوا التصعيد في تصريحاتهم الحادة واتهاماتهم التي تحمل نفس الاتهامات التي يكيلها النظامان السوري والإيراني لتركيا.

ترفض تركيا تقديم اعتذار بل تطلب اعتذار من روسيا، لكن يبدو أن تركيا بالتنسيق مع حلفائها وجهت ضربة موجعة لم تتوقعها موسكو، وإن كانت موسكو ردت على الأرض بمزيد من الضربات الانتقامية، وهي تدل على بداية حرب المنطقة الآمنة نيابة عن النظامين السوري والإيراني.

تريد موسكو من تركيا تطبيق بديل المنطقة الآمنة بإغلاق الحدود التركية، وهي تريد تكريس تواجدها في سوريا كأمر واقع، لكنها لا ترضى في نفس الوقت لتركيا بتكريس الأمر الواقع في حرمان النظام السوري في الطريق إلى حلب والساحل السوري والمنطقة الشمالية التي تسيطر عليه الآن روسيا، باعتبارها دولة في مجلس الأمن تمارس وصاية السيادة العالمية بينما تركيا لا تمتلك تلك الصفة.

لذلك تعتقد تركيا بممارسة روسيا الضربات الجوية داخل المنطقة الآمنة بأنها دولة معتدية، ورغم أن تركيا حاولت تخفيف الاحتقان، وقالت أنها لا تعلم أنها طائرة روسية، لكن أردوغان أكد في خطابه أن تركيا ستمارس حقها الطبيعي في ضرب أي طائرة تخترق حدودها.

كانت هناك تطورات عسكرية نشرت روسيا على إثر هذا التوتر صواريخ إس 400 و12 طائرة لحماية المقاتلات وضرب المعارضة في اللاذقية بدلا من داعش، ما جعل المنطقة تعج بالمقاتلات الأمريكية وحاملات الطائرات الفرنسية وحتى ألمانيا سترسل 4-6 طائرات ترنيدو بعدما كانت تكتفي بدعم أكراد شمال العراق ضد داعش.

قررت تركيا التدخل في فرض منطقة آمنة بعد التدخل الروسي لحماية النظام السوري من السقوط، رغم أن الفارق العسكري كبير بين تركيا وروسيا، لكن تدرك روسيا أن تركيا هي عضو في الناتو الذي يفوقها بمراحل في القوة، رغم ذلك كل الدول لا تريد تصعيدا عسكريا.

تقوم السعودية الآن بدور فعال في توحيد الفصائل العسكرية على الأرض خصوصا بعد التدخل الروسي الذي ساهم في توحيد مواقف تلك الفصائل المدعومة من السعودية وتركيا لمقاتلة النظام السوري وحزب الله.

أدركت روسيا وإيران أن بدء العملية السياسية التي أقرت في فيينا 1و2و3 بموجب جنيف 1 التي انطلقت في 30 أكتوبر 2015 سيتداعى الأسد وسيسقط لا محالة، بينما روسيا لا تريد أن تضحي به الآن بسبب أن روسيا لديها مصالح تريد أن تتحقق قبل أن يسقط الأسد وهي تطلب أثمانا باهظة التكاليف، ولن تتخلى روسيا عن الأسد إلا إذا سقط من الداخل الذي تحميه إيران، لذلك تخشى إيران والنظام السوري بداية العملية السياسية التي أقرتها اجتماعات فيينا.

خصوصا بعد تمكنت المعارضة السورية التي وصلتهم إمدادات وفيرة من صواريخ تاو الأميركية من التقدم وسيطروا على الطريق السريع الواصل بين الشمال والجنوب ونجحوا في درء هجوم في سهل الغاب ذي الأهمية الاستراتيجية.

حتى زيارة هولاند إلى موسكو واجتماعه ببوتين بعد أن اجتمع مع أوباما وميركل كانت نتائج تلك الزيارة فاترة، لأنه طالب بوتين بتحقيق مطالب السعودية وتركيا التي حمله إياها أوباما، وفي نفس الوقت لم يحصل بوتين على تحقيق فكرة تشكيل ائتلاف واسع يضم كل من يحارب الجهاديين التي تقدم بها هولاند بعد 13 نوفمبر 2015.

وتريد روسيا من خلال هذا الائتلاف الموسع تثبيت حليفها الأسد كجزء من هذا التحالف لفك عزلته، وأن يكون جزءا من المعادلة السياسية والعسكرية، وعلى ما يبدو لا التدخل العسكري الأجنبي المتصاعد، ولا المسار السياسي المتسارع قادر على إنهاء الصراع المستمر منذ أربع سنوات ونصف حتى الآن.

د.عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق