تنحية المالكي: تغيير في النظام أم الأشخاص؟

كثيرة هي التساؤلات المطروحة عن مآلات الأوضاع الأمنية والسياقات السياسية في العراق عقب تنحية المالكي إجباراً، فيما يشبه عملية انقلاب عليه من حلفائه، وتكليف العبادي بتشكيل حكومة جديدة. فيما كان المالكي ذاته نتاج عملية تقاطع مصالح بين إيران والولايات المتحدة في الشرق الأوسط، كان أبرز مخرجاتها تسليم المالكي رئاسة الحكومة لدورتين متتاليتين، وتنحية المرشح الأقرب إلى الولايات المتحدة “إياد علاوي” الموصوف بالعلمانية، والمتفق عليه من قبل سنة العراق ودول الجوار العربية.

يأتي العبادي كذلك عبر ذات النهج التوافقي الإيراني-الأمريكي، عبر إقصاء المالكي الذي شهد العراق فترتي حكمه أبشع أنواع الانتهاكات الحكومية تجاه حقوق الإنسان، والتي يرقى بعضها إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية، دون أن تتحرك الولايات المتحدة لإزاحته إلا بعد جملة من المتغيرات الداخلية والإقليمية، أجبرتها على استبداله بعد أن استُنزفت قدراته على معالجة الاضطرابات الدائمة.

وينتمي رئيس الوزراء العراقي المكلف –العبادي- إلى ذات المنظومة العقائدية والسياسية التي ينتمي إليها المالكي، من خلال حزب الدعوة أولاً، ومباركة رجالات الدين الشيعة له في العراق وإيران –السيستاني وخامنئي- ثانياً، وصلاته الوطيدة بحزب الله والحرس الثوري الإيراني من جهة ثالثة، يسنده في ذلك ارتباطه العائلي بجنوب لبنان الشيعي.

وقد شهدت عملية التحضير لتكليف العبادي جملة من المتغيرات السابقة لها، دفعت بها الولايات المتحدة وإيران معاً، في سبيل استعادة القدرة الضبطية على الأوضاع المتدهورة، وخاصة منذ أن اندلعت الاحتجاجات السنية في العراق على الانتهاكات الطائفية التي تتعرض لها، وتحوّلها إلى عملية كفاح ثوري مسلح في مواجهة قوات المالكي، قبل أن تتم دعشنتها إيرانياً وأميركياً –تغلغل داعش فيها-.

أدى تنظيم داعش دوراً كبيراً في المتغيرات العراقية اليوم، من خلال إجهاض الحراك الشعبي عبر وسمه بالإرهاب من خلال جرائم واسعة أقامها في المناطق التي سيطر عليها، أُلحقت بالفكر السني والتحركات الشعبية، ومن ثم باندفاعه باتجاه إقليم كردستان، مع فشل قوات المالكي في مواجهته “المفترضة”، ما دفع بالأكراد إلى إعلاء القيمة الانفصالية نحو دولنة إقليمهم.

ورغم سياسات أوباما المتضاربة في منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، وتغاضيه عن استخدام الأسد للسلاح الكيماوي صيف 2013، وإصراره على سياسة النأي بالولايات المتحدة، ما فتح المجال أمام طغاة المنطقة بالتمدد أكثر فأكثر، إلا أنّ حضور داعش في العراق بجرائمها الكبرى، وتسليط الإعلام العالمي الضوء على المجازر المرتبكة بحق الطائفة الأيزيدية في العراق على يد مقاتلي داعش، رغم محدودية تلك المجازر –عشرات القتلى- مقارنة بما تمّ ويتمّ في سورية منذ أكثر من ثلاثة أعوام –ربع مليون قتيل-، أدى هذا الحضور الإرهابي إلى اندفاع الطائرات والقوات الأمريكية للعودة إلى العراق، على خلاف ما تمسك به أوباما طيلة الأعوام السابقة.

ويمكن إعادة صياغة تلك المتغيرات، بأنّ الولايات المتحدة تسعى إلى إنقاذ إيران في العراق، كما فعلت وأنقذتها في عدة ملفات سابقة، ليس آخرها الرفع الجزئي للعقوبات الدولية المفروضة عليها، ما سمح للنظام الملالي بالتقاط أنفاسه بعد أن كان على شفا الانهيار الاقتصادي والاضطراب المجتمعي.

ويمكن الاستدلال على ذلك، بأنّ ذات التنظيم الإرهابي –داعش- موجود داخل الأراضي السورية منذ أكثر من عام، وتزداد حدة مجازره باتجاه المدنيين، فيما تجاوزت جرائم الأسد نظيره المالكي بعدة أضعاف، وإن كان العراق مهدداً بالانفصالية الكردية؛ فإن سورية تشهد انفصالية الأمر الواقع عبر رسم حدود مذهبية من جهة، وتوسيع مناطق نفوذ داعش من جهة أخرى. لكن المصلحة الإيرانية تقضي باستمرار النزيف القائم في سورية على ما هو عليه، عكس ما يتم في العراق اليوم، كما أنها مصلحة إسرائيلية كذلك، ما جعل الولايات المتحدة تتخذ خيارين متناقضين تجاه ذات القضية باختلال الجغرافية الضابطة لها.

وليس من المستغرب تخلي طهران عن المالكي، رغم ارتباطاته العميقة بقيادات الحرس الثوري، التي أمنت له الوصول والاستمرار في حكم العراق طيلة الأعوام الماضية، فهو في النهاية أداة يتم من خلالها تنفيذ الأجندات الإيرانية. ذات الحلف يربط الأسد مع الحرس الثوري الإيراني، لكن ما يزال الوقت مبكراً على الاستعاضة عنه من جهة، وغياب البديل في الحالة السورية من جهة أخرى، مع بقاء الاحتمالية قائمة.

ومن الملاحظ أن عملية استبدال المالكي، تمت من داخل انتمائه السياسي والعقائدي، بعد انشقاق كثير من داعميه عنه، وتحولهم إلى تأييد العبادي في اللحظات الأخيرة طمعاً بمكاسب سياسية، أو نتيجة حالة أوامرية مفروضة من قبل طهران، بغية تغيير واجهة النظام لا أكثر.

ربما تحمل حكومة العبادي شيئاً من التهدئة في الداخل العراقي خلال الأشهر القليلة الأولى، لكنها تبقى أمام تحديات كبيرة، أبرزها استمرار داعش في العمل داخل العراق إلى أن يطلب منها العودة إلى سورية، وثانيها تعزيز الحالة الانفصالية الكردية بعد السيطرة على عدة مواقع، ليس من المتوقع العودة عنها، وخاصة مدينة كركوك النفطية. عدا عن الأزمات البنيوية في الدولة العراقية التي خلفها الاحتلال وكرسها نظام المالكي، والتي لا يمكن معالجتها في فترات زمنية قصيرة.

أما على المستوى الإقليمي، فلا يتوقع حدوث تغيير كبير في السياسة الخارجية العراقية، إذ إنها تبقى مرهونة بالتوجيهات العامة من طهران، بل في أفضل أحوالها، ربما تقدم حالة من التهدئة النسبية المؤقتة للسياسات التحريضية التي انتهجها المالكي في الفترات الأخيرة. فلا يتوقع أن نشهد مثلاً عملية إيقاف المد البشري الميليشياوي لنظام الأسد من العراق وإيران، ولن تتخلى القيادات الحاكمة في بغداد عن الانسياق خلف طهران مقابل تعزيز الهوية العربية والعلاقات مع دول الخليج العربي.

يبقى العراق محكوماً بالتوافق بين الولايات المتحدة وإيران، ما يسلبه استقلالية قراره وسيادته السياسية، ويمنع عنه العودة إلى المسارات العربية، ليظل مرتكزاً رئيساً في المشروع الفارسي في المنطقة العربية، وسيظل مصدراً لكثير من الأزمات الإقليمية المقبلة.

 

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق