بدءً من حلب: القوة الأمريكية المسيطرة بعد الحرب الباردة تتلاشى

الأزمة المالية 2008 كشفت عن جوانب الضعف في الرأسمالية الليبرالية التي تتبناها أمريكا بدعم الدول الغربية، خصوصا بعدما تحطمت أحلام أوربا في تحقيق التكامل بسبب صدمة اليورو وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي، تسبب في خيبة آمال الولايات المتحدة في التماسك الغربي وفي تحقيق التجارة الحرة مع الجانب الأوربي بين ضفتي الأطلسي.

نمت الصين بشكل أسرع مما كان يتوقع، مما يفرض التعجيل بإعادة توزيع السلطة في النظام العالمي، هذا التغير صاحبه بزوغ نزعة قومية شعبوية مستبدة في أمريكا وأوربا رغم أنهم صغار الحجم، لكن تأثيرهم الشعبوي كبير جدا، شعارهم  أمريكا وأوربا أولا.

الغرب لا يزال في حالة من الارتباك، رغم أن روسيا ضعيفة من حيث أبعاد السلطة جميعا، باستثناء البعد العسكري النووي، حيث يبحث الغرب عن أنموذج جديد من العلاقات الدولية، وعلى الغرب يجب الاعتراف بأن النظام القديم قد ولى وانتهى، وحان الوقت للانخراط والاشتراك مع الصين في تصميم نظام بديل يحل محل النظام العالمي السابق، بدلا من الحديث الغربي عن تطويع النظام القائم لاستيعاب الصين، يأتي مع استمرار الولايات المتحدة وإصرارها على التدخل في شرق الصين، وهو إصرار لا يتناسب مع الوقائع الجغرافية لنهوض الصين، كذلك تطبق الصين نفس الاستراتيجية في الحضور في الوجود في الفناء الخلفي للولايات المتحدة، وهي تدعم شق قناة نيكاراغوا تنافس قناة بنما، إذا تحولت نياكراغوا محور صراع جديد بين واشنطن وبكين في أميركا الجنوبية، بل تستخدم الصين كوريا ورقة ضد الولايات المتحدة والغرب تثير الرعب أكثر من أي وقت مضى.

رغم أن الصين عازمة على حماية مصالحها وطلباتها في بحر الصين الجنوبي، لكنها تتجنب حدوث أي اشتباك بين قوة راسخة وقوة صاعدة، لكن النظام الجديد لا يمكن أن يشبه النظام القديم، ولكن ما هو النظام الجديد؟ إن لم يكن عاجلا هل ستقبل الولايات المتحدة بعالم متعدد الأقطاب بتوازن جديد؟

هل وصل العالم إلى نقطة مفصلية، وإلى تسوية ما بعد الحرب الباردة؟ وهل تثور القوة ضد قوة القانون، كما النزعة القومية ضد النزعة الأممية التي شكلتها العولمة تحت الرعاية الأمريكية؟

بعد المحرقة في رومانيا عام 1947، عادت الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 في عهد الرئيس كلينتون الذي اعترف لاحقا بأنه مسؤول مدى الحياة بأنه سمح للقتل بأن يحدث، ورغم أن الغرب يروض روسيا التي تستخدمها الصين رأس حربة ضد الغرب، لكنه تدخل لوقف الحرب في البوسنة وكوسوفو في الفترة 1995- 2000، لكن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 عاد بلير بأنانيته وبالتفوق الأخلاقي الغربي ورؤية المسلمين كما لو أنهم ليسوا من بني البشر مدفوعا باعتقادات كاذبة عن أسلحة صدام وتوريط بوش الإبن المدعوم من صقور الولايات المتحدة باحتلال العراق بعد أفغانستان.

حدث هناك تحول مفاجئ بعد الأزمة المالية 2008 حيث بدأ الغرب يركز على مشاكله الخاصة، وأصبحت أزمة اللاجئين أحدث تفعيل للفشل الغربي كان المتضرر الأكبر أوربا مع صعود النزعة الشعبوية التي ترفض مساعدة اللاجئين، أثبتت أن العالم مترابط وأن أثار الأزمات لن تكون مقتصرة فقط على مناطق النزاع.

بناء على هذه المتغيرات، واشنطن تسعى لنهج متعدد الأطراف لحل الأزمة في سوريا، وهناك معركة لي ذراع دبلوماسية بين باريس وموسكو بسبب الملف السوري، مع عودة التواصل المباشر الفرنسي الروسي التقيا الرئيسان الفرنسي والروسي في برلين في إطار عمل رباعي دعت إليه ميركل.

موسكو تحول قاعدتها في طرطوس إلى مقر دائم للأسطول الروسي، بل تنوي روسيا تعزيز قدراتها العسكرية ليس فقط في سوريا بل في الشرق الأوسط برمته، حيث هي فرصتها في قراءتها للمتغيرات الجيوسياسية العالمية، بل بدأت تتجه نحو تعزيز الدفاعات الجوية للنظام السوري والمزيد من القواعد لفرض سوريا المفيدة.

 حيث تمتلك روسيا 25 نقطة برية روسية منتشرة بين حلب وحماه وحمص ودمشق، بعدما استخدمت خمسة قرارات فيتو روسية ضد حماية المدنيين في سوريا التي من شانها أن توقف الحرب في سوريا، الأول كان في 4 أكتوبر 2011 حيث عطل الفيتو الروسي الصيني مشروعا دوليا بشأن فرض عقوبات على نظام الأسد، والثاني كان في 4 فبراير 2012، والثالث في 19 يوليو 2012، والرابع في 22 مايو 2014 بتحويل الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم حرب، والخامس في 8 أكتوبر 2016.

أي أنها شلت التدخل الغربي في سوريا برضى الغرب نفسه إيمانا بتلك المتغيرات، روسيا ترسم نفوذها العالمي من قواعدها العسكرية في شرق المتوسط، وهو ما زاد الحديث عن حرب باردة جديدة ،بل رئيس الاستخبارات البريطانية يعتقد أن الوضع أصبح أخطر.

خصوصا وأن قمة بريكس خطوة على درب تحقيق الطموحات الروسية، ورغم أن روسيا أصبحت خارج أكبر عشرة اقتصادات في العالم، رغم ذلك دول المجموعة تمثل ما يقرب من نصف سكان العالم، وربع الناتج العالمي ب16.6 تريليون دولار، تعتزم الشراكة الاقتصادية وإطلاق منطقة تجارة حرة، وهي تطمح إلى أن تتفوق على السبع العظام بحلول عام 2027، حيث عقدت قمة بريكس في الهند وسط تنافسات وأبعاد إقليمية متغيرة.

الدرع الصاروخية مصدر توتر بين روسيا والولايات المتحدة والصين، وتنوي روسيا العودة بقواعدها إلى كوبا وفيتنام، ما جعل الولايات المتحدة تتخلى عن مسؤوليتها في سوريا بعد فشل المحادثات الثنائية بين كيري ولافروف، وبعد اجتماع أوباما مع لجنة الأمن القومي، اختار العودة مرة أخرى للدبلوماسية، ولكن هذه المرة في اجتماع لوزان الذي يضم أطراف متعددة، مع إرضاء الدول الإقليمية كتركيا والسعودية لوقف ضغوطهما على الإدارة الأمريكية التي تخوض انتخابات مستقبلية وهي غير متفرغة لمشاكل الشرق الأوسط إلى حين مجئ الإدارة الجديدة بينما هي تدير الأزمة فقط من دون تقديم حلول.

وحسب مصدر تركي فإن الأمريكيين طلبوا عدم التصعيد بانتظار الانتخابات، ما جعل الشرق الأوسط بين التكبيل والتواطؤ الأمريكي، لذلك يستثمر النظام السوري عن طريق تحقيق مصالحات وهي استراتيجية النظام للتغيير الديمغرافي ورسم سوريا المفيدة، حيث موسكو تتعهد بتوفير انسحاب آمن لمقاتلي حلب، بعدما فشلت اجتماعات لوزان في وقف النار.

 هناك أفكار تركية حول المدينة السورية تتضمن وقفا للنار ومراقبة الكترونية دولية لطريق الكاستيلو، في المقابل هناك هجوم واسع لدرع الفرات على دابق بغطاء تركي التي انتزعها الجيش السوري الحر من داعش في هزيمة رمزية تمهد لمعركة الباب، من أجل تحقيق هدف تركيا تشكيل المنطقة الآمنة.

في المقابل أميركا يهمها تحرير الموصل من داعش قبل نهاية فترة أوباما، وهي معركة حرب الأجندات المفتوحة والملفات المجهولة، لكن هناك صراع إيراني تركي المدعوم سعوديا وإدارة أميركية ضمانا لتوازن القوى في شمال العراق.

 وفي نفس الوقت حاولت الولايات المتحدة إرضاء الأطراف الإقليمية، فوافقت على تحرير دابق من قبل تركيا لكن أهميتها معنوية أكثر منها استراتيجية مثل مدينة الراعي ومنبج التي هما أكثر استراتيجية، لكن عودة أهمية الاستعانة بالجيش السوري الحر الذي أربك دولة مصر، وجعلها تصوت في مجلس الأمن لصالح القرار الروسي، حيث تعتقد أن مكونات الجيش السوري الحر من جماعة الإخوان المسلمين، بينما هدف تركيا منع احتلال أكراد سوريا تلك المناطق عنوة من أهلها المحليين بعد طرد داعش  منها، والجيش السوري الحر بدعم تركيا أثبت قدرته على محاربة النظام السوري وداعش في آن واحد.

حيث أن ريف حلب الشمالي محرر من قبل الجيش السوري الحر منذ عام 2012 لكن داعش سيطر عليه خدمة لأجندة خفية، مما مكن الأكراد من تحريرها، فأصبحت سوريا منقسمة إلى عمليات، وما تقوم به تركيا في ريف حلب الشمالي ضمن توافق وتنسيق أمريكي حتى لا يسيطر عليه أكراد سوريا.

كما أن الحوثيين أصبحوا محاصرين في المناطق الجبلية في صعدة ولم تعد لهم قدرة على المناورة بعدما أوهمتهم قوات التحالف بقيادة السعودية أنهم يريدون تحرير الجوف ومأرب القريبة من السعودية، لكنهم تفاجؤا بتحرير أكتاف والبقع لمحاصرة الحوثيين في جبال صعدة، حيث الجوف المحاذية للسعودية مناطق مفتوحة ليس لديهم عربات سريعة أو غطاء جوي، فيصبحوا مستهدفين إذا ما فكروا في فك حصارهم والخروج من جبال صعدة، أي أن الخطة أصبحت محكمة ضمن مسارات مدروسة، واستهداف صعدة يعني أن تحرير صنعاء بات وشيكا.

هذه العمليات المدروسة ضمن مسارات محددة هي بدعم أمريكي بعدما اتجه الحوثيون إلى ضرب البوارج الأمريكية المتواجدة في البحر، عندما أدركوا أن أمريكا وافقت على مواصلة عمليات التحالف ضدهم، وطالبتهم بوقف فوري لإطلاق النار، لكن الحوثيون لن ينصاعوا ولن يتنازلوا عن مكتسباتهم التي حققوها، حيث يريدون الحصول على المكاسب السياسية والعسكرية التي حصولا عليها ولا يمكن التنازل عنها إلا بهزيمة عسكرية بعدما فشلت كافة الجهود الدولية والإقليمية.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق