النفط ولعبة عض الأصابع الدولية

يتجاوز النفط الأدوار الاقتصادية التي يحملها باعتباره المصدر الرئيس للطاقة العالمية منذ قرابة قرن من الزمان، إلى أدوار سياسية أكثر تشابكاً سواء لناحية اعتباره أحد مدخلات سلوك القوى الدولية والقوى المنتجة له، أو مؤشراً على أوضاع سياسية عالمية وإقليمية طالما كان للنفط دور فيها منذ تصدره ساحة الطاقة الدولية.

ورغم أنه سلعة يتحدد سعرها بشكل أولي وفق قاعدة العرض والطلب في السوق العالمية، ووفق المخزونات الرئيسة عالمياً، إلا أن هذه القواعد البسيطة غير كافية في حالة النفط لتحديد سعره، إذ غالبا ما كان المعروض أكثر من المطلوب دون انخفاضات كبرى في الأسعار، والعكس كذلك صحيح.

وقد لعب النفط أدواراً سياسية بارزة طيلة القرن الفائت، بدءاً من التنافس الاستعماري على مواقعه وطرق مواصلاته، وفي معارك التحرير الوطني الاقتصادي عبر عمليات التأميم الاشتراكي. إلا أن الأدوار السياسية الكبرى للنفط بدأت تبرز منذ عام 1973 مع وقف السعودية التدفقات النفطية للدول الداعمة لإسرائيل، ما شكل أزمة طاقة دولية، أخذت تفاعلاتها السياسية والاقتصادية إلى يومنا هذا.

فيما ساهمت الأسعار المتدنية جداً في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، بتعميق الأزمة الاقتصادية لكل من الاتحاد السوفييتي الداخل في نفق الانهيار، وإعاقة إعادة بناء الدولة في العراق تحديداً عقب حرب الخليج الأولى، والتي كانت النفط لحظتها أحد مسببات الحرب الثانية 1990-1991.

وترافق التراجع السعري للنفط عام 2008 بالأزمة المالية العالمية، والتي زادت من إشكاليات البنى الرأسمالية الغربية، والتي انعكست على غالبية دول العالم، وكانت أحد الأسباب غير المباشرة في تعميق إشكاليات الأنظمة العربية اقتصادياً، ودفع المجتمعات العربية إلى حدود الثورات.

وإن كانت الدول المنتجة هي المتحكمة بحجم الإنتاج النفطي بشكل مبدأي، إلا أن الأسعار تبقى رهناً بالشركات العالمية الكبرى وسياسات القوى العظمى (وهنا هي الولايات المتحدة منفردة منذ عام 1990)، فيما يبقى تأثير دول الإنتاج محدوداً بتقييد الكميات أو رفعها.

وتشهد نهاية هذا العام موجة جديدة من الأبعاد الاقتصادية-السياسية لانخفاض سعر النفط، ما بين 60-65 دولاراً للبرميل الواحد، خصوصاً بعد اكتشاف ما عرف بالنفط الصخري في الولايات المتحدة وبدء ضخه في الاستهلاك الأمريكي، إضافة إلى عودة جزئية للنفط الإيراني إلى الأسواق العالمية وبصورة شرعية إثر التقارب الأمريكي-الإيراني الأخير، عدا عن ضخ روسيا كميات تعادل أو تزيد الكميات السعودية (المنتج النفطي وصاحب المخزون الاستراتيجي الأكبر)، مقابل انتكاسات في الإنتاج العراقي والليبي، والسوري المحدود أصلاً.

وتتجلى أبعاد هذا الانخفاض سريعاً على عدة مستويات، إذ رغم أن الأسعار الزهيدة نسبياً تعني رسوم تشغيل للمنشآت الصناعية العالمية أقل، إلا أن ذلك يؤدي إلى انخفاض عوائد الإنتاج، وبالتالي الربحية المرجوة، ما يدفع النظام الرأسمالي إلى أزمة مالية جديدة.

لكن الأزمات الكبرى المترافقة للانخفاض الجديد، تتجه هذه المرة صوب إيران وروسيا معاً، حيث تنتظر إيران عوائد نفطية يتجاوز فيها سعر البرميل الواحد 148 دولار، حتى تستطيع تحقيق وعود روحاني الاقتصادية، وبالتالي انتشال البلاد من أزمتها الاقتصادية المزمنة، أو على الأقل إحداث شروخ داخل تلك الأزمة بما يمكن النظام الإيراني من السيطرة عليها، ومحاول توجيهها.

إلا أن الأسعار الحالية، تعني في المقابل مردودات بالكاد تغطي القدرة الحياتية للحكومة الإيرانية، ولن تستطيع الدخول في لعبة رفع الإنتاج، وإن فعلت فإنها ستدفع بالأسعار إلى مزيد من الانهيار، وهو ما يعني مزيداً من الخسائر في الحسابات الإيرانية.

كذلك تأمل روسيا تحقيق أعلى عائد مالي ممكن من أسعار النفط، في ظل العقوبات التي تتسع عليها غربياً، وخاصة في ظل مشروع بوتين بإحياء القوة السوفييتية، والذي يتطلب مزيداً من الأموال في القطاعات الصناعية العسكرية والمجتمعية، وخاصة أن المخزون الروسي غير قادر على المنافسة على المدى البعيد، لذا فإن كل انخفاض يكون بمثابة خسارة غير قابلة للتعويض، وهو ما انعكس مباشرة على سعر الروبل الروسي ليساوي الدولار الواحد 60 روبل.

وإن كانت روسيا تملك مصادر أخرى للدخل، واحتياطات مالية استراتيجية، تؤهلها للصمود في مواجهة الانخفاض السعري للنفط، إلا أن ذلك يعني إعاقة مشروع بوتين، في المقابل فإن إيران دولة شبه رعوية، يستند اقتصادها بدرجة كبرى على النفط، ولا تملك مخزونات استراتيجية حقيقية، وتعاني من ثقل مديونية العقوبات الدولية، وتتكلف مليارات الدولارات في حروبها العدوانية خلف الحدود (العراق، سورية، اليمن)، وتكاليف إبقاء ميليشياتها في حالة جهوزية تامة في لبنان والعراق، عدا عن تكاليف مشاريعها التوسعية والداعمة للجماعات المذهبية الموالية لها على امتداد العالم العربي.

في المقابل، فإن دول الخليج العربي هي الأخرى ستمنى بخسائر جراء انخفاض الأسعار النفطية، لكن قدرتها على مواجهة ذلك تبقى أعلى بكثير من إيران وروسيا، وخاصة أنها من كبريات الدول المنتجة عالمياً، بمعنى أنها بشكل أو بآخر أحد المتحكمين بأسعار النفط عالمياً. ويسندها في ذلك صناديق سيادية عالمية، إذ تعتبر دولة الإمارات صاحبة أكبر صندوق سيادي عالمي وبحجم 813 مليار دولار وبنسبة 15% من الثروات العالمية، في حين يبلغ الصندوق السيادي السعودي 532 مليار دولار، والكويتي 296 مليار دولار، حسب المعهد الدولي لصناديق الثروة السيادية لعام 2013.

وحيث أعدت السعودية موازنتها لعام 2015، باحتساب سعر برميل النفط في حدود 65 دولار، فذلك يعني أن السعودية تدفع إلى تثبيت الأسعار المتدنية الحالية، ومنع تجاوزها لسقف 75 دولار للبرميل الواحد، معرضة موازنتها للضغط، وبعجز قد يبلغ 32 مليار دولار، بعد أن كانت موازنة عام 2014 الأكبر في تاريخها، وذلك بإعادة توظيف النفط كأداة سياسية في مواجهة إيران.

وهو ما يؤدي إلى تعميق الأزمات الإيرانية الداخلية وإعاقة التزاماتها العسكرية الخارجية، في تكرار لمشهد اللعبة الأمريكية تجاه الاتحاد السوفييتي بعد انفتاحه النسبي في عهد جورباتشوف، ما أحدث بالنتيجة انهياراً للاتحاد السوفيتي دون أية مواجهات عسكرية.

وخاصة أن أزمات الداخل الإيراني شبيهة بنظرتها السوفييتية في عقد الثمانينيات، إن لناحية الأزمات الاقتصادية المعمقة، أو لناحية الإشكاليات الهوياتية التصادمية، أو لناحية إشكالية شرعية النظام ذاته، والتي تآكلت كثيراً في السنوات الأخيرة. وعليه فإن إخفاق حكومة روحاني في انتشال المجتمع الإيراني من حالة الفقر المتسع والمترافق بحروب خارجية يمكن وصفها تحت بند (التمدد الاستراتيجي الزائد) والمنهك، مع توسع التضييق على الحريات العامة في ظل موجة ثورات تجتاح الشرق الأوسط، يدفع بالنتيجة إلى خلق ظروف قد تكون مشابهة لنهاية ثمانينيات القرن الماضي، ولناحية خروج المجتمع الإيراني عن صمته، وإعادة تكرار مشهد عام 2009 بزخم أكثر قوة.

وإن كان سعر النفط هو المحدد لمتغيرات إقليمية واسعة عام 2015، بل وربما دولية، فإنه في لعبة عض الأصابع تبدو إيران أول الخاسرين.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق