المشروع الإيراني في المشرق العربي (1)

تشهد المنطقة العربية ثلاث قوة إقليمية رئيسة تتنازع على مد النفوذ عليها، وهي القوة التركية والإيرانية والإسرائيلية، وإن كانت القوة التركية اتخذت منحى اقتصادياً تعاونياً انفتاحياً على دول الجوار العربي، إلا أن القوتين الإيرانية والإسرائيلية كانتا أكثر ملياً لتثقيل عامل القوة العسكرية والاحتلالية في محاولات مد النفوذ، وخاصة في إقليم المشرق العربي.

وتشكل إيران قوة إقليمية متفاعلة مع المشرق العربي، كامتداد حضاري وديني له، فشهدت العلاقات المشرقية – الإيرانية، تباينات عدة، تراوحت بين التمازج الحضاري العربي – الفارسي، وبين حالات من التنافر التي بلغت درجة الصراع العسكري بين إيران وأطراف من الإقليم (العراق تحديداً).

ومثلت إيران –قبل الثورة 1979- مرتكزاً رئيساً في الاستراتيجية الأمريكية تجاه “الشرق الأوسط”، وشكلت تهديداً عسكرياً للأنظمة العربية المجاورة لها (العراق ودول الخليج العربي). فيما تحولت بعد ثورتها إلى الخطاب الإيديولوجي المعادي للولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، واعتُبِرَت من قبلهما تهديداً رئيساً لمصالحهما في الإقليم، ومحاولة تصدير هذا الخطاب إلى دول الجوار العربي.

وتتجسد المصالح الإيرانية في إقليم المشرق العربي، من خلال مصالح أمنية، واقتصادية، وإيديولوجية. تم حماية جزء منها عبر حراك عسكري، توافق في بعض أوجهه، مع الحراك العسكري المشرقي، عبر التقاء مصالح الطرفين، وخاصة في صد الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية، وعرقلة الحراك العسكري الأمريكي في العراق بعد احتلاله، عن أن يتطور إلى حراك عسكري تجاه إيران.

وتقع هذه الدراسة في ثلاثة محاور رئيسة:

أولاً- محددات المشروع الإيراني.

ثانياً- آليات المشروع الإيراني.

ثالثا- أثر ثورات الربيع العربي على المشروع الإيراني.

وفيما يقع المحوران الأولان ضمن النطاق الزمني الممتد بين عامي 1990 و 2010، فإن المحور الثالث يقع في الفترة اللاحقة لعام 2010، منذ انطلاق ثورات الربيع العربي.

 

أولاً – محددات المشروع الإيراني

تعتمد محددات السلوك الإيراني نحو المشرق العربي على عاملين رئيسين، يتمثل أولهما في صيانة الأمن القومي الإيراني وحماية النظام القائم ضمن بيئة تعجّ بالاضطرابات والأزمات حتى ما قبل ثورتها عام 1979، فبينما خاضت إيران الخمينية حرباً صنفها المؤرخون بأنها من أطول الحروب الحديثة، فإنّها عايشت أربعة حروب في جوارها خلال 13 عاماً فقط.

وبينما كان العراق يشكل تهديداً جغرافياً لإيران، أي إنّ حربهما كانت نزاعاً حدودياً تم تضخيمه عبر عقيدتي البلدين المتناقضتين، ودعمه من قبل الدول الكبرى، فإنّ الاحتلال الأمريكي لأفغانستان ثم العراق، جعل من إنهاء نظام الثورة هدفاً رئيساً له في مراحله المقبلة، فشهدت إيران ضغوطات جمّة من قبل الولايات المتحدة وأوربا، وتهديدات مباشرة من الولايات المتحدة وتحريضاً إسرائيلياً ضدها.

ويُعتبر المشرق والخليج العربيان، نقطة ارتكاز أساسية لأيّ هجوم قد تشنه القوات الأمريكية أو الإسرائيلية تجاه إيران، ومن ذلك التصور، انبنى الفهم الاستراتيجي الإيراني تجاه المشرق العربي من دواعٍ أمنية بالدرجة الأولى، وعلى أساسه تشدّدت إيران في خطابها الموجه “لأعدائها“.

من ذلك تهديد الأدميرال علي شمخاني – المستشار العسكري لمرشد إيران– بإحراق المنطقة والقواعد العسكرية والآبار النفطية، وغلق مضيق هرمز، في حال تعرضت إيران لعمل عسكري أمريكي، أو التدخل في شؤون المنطقة، أو تغيير الأوضاع في جزر الإمارات الثلاث المحتلة (1).

ويُعتبر سعي إيران الحثيث لامتلاك التقنية النووية العسكرية، نابع من شعورها بالتهديد الدائم من الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، التي أعلنت صراحة، رغبتها في تغيير النظام في طهران، وبأنّه بدون تغير الخطاب الأمريكي، فلن تتراجع إيران عن مسعاها النووي (2)، وضمن بيئة نووية محيطة بها من ثلاث جهات في الدرجة الثانية (باكستان والهند والصين شرقاً، روسيا شمالاً، الكيان الإسرائيلي غرباً).

وهو ما يفسّر كذلك موقفها إزاء حربي الولايات المتحدة على العراق، والذي اعتُبر حتى 1991، الخطر الأول على النظام الإيراني. فأيّد الرئيس رفسنجاني في 25 آب 1990 “وجود قوات أجنبية إذا كان هدفها فقط إخراج القوات العراقية من الكويت، وبشرط أن ترحل بعد ذلك عن المنطقة (3)”، فما أكّد مسؤولون إيرانيون دورهم في تسهيل عملية احتلال العراق.

وتجد إيران أنّ أمن الخليج العربي، والذي يعني أمنها، يجب أن تديره دول المنطقة فقط، معتبرة أنّها الأقدر على حمايته من سواها، فوفقاً للرئيس رفسنجاني: “إيران هي البلد الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه للدفاع عن أمن منطقة الخليج، وحماية مواردها النفطية (4).

فيما يقوم المحدد الآخر للسياسة الإيرانية، على تشكيل قوة إقليمية كبرى، تستطيع نشر نفوذها وسيطرتها في كامل المنطقة، وتسعى لتحقيق المصالح الإيرانية فيها، معتمدة على جملة من العوامل، أهمها (5):

1.    نّها دولة كبيرة بمساحتها وعدد سكانها وإمكانياتها الاقتصادية والعلمية والمالية.

2.    كونها تتمتع بمخزون نفطي بالغ الأهمية بالنسبة للإمدادات النفطية العالمية، حيث تُعتبر المنتج الخامس على المستوى الدولي.

3.    تمتد حدودها ومداخلاتها الجغرافية والسياسية والأمنية من العراق والخليج العربي إلى أفغانستان والجمهوريات الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفييتي، وصولاً إلى تركيا وسورية ولبنان وفلسطين.

4.    وجود كتل اجتماعية مذهبية (شيعية) في عدد من دول المنطقة متعاطفة مع إيران.

5.    امتلاكها لقدرات عسكرية تقليدية وغير تقليدية كبيرة، جزء منها يتم إنتاجه محلياً.

إذ يقوم المشروع الإيراني على فرضية مفادها أنّ توازن الرعب في الخليج العربي، والحضور الإيراني الكثيف في المشرق العربي، سوف يضغط على الولايات المتحدة لقبول إيران كشريك إقليمي بارز، وبالتالي تقاسم المصالح والنفوذ في المنطقة (6). كما يضغط على دول الخليج العربي للتوافق على تلك المصالح.

وتتعامل إيران مع المنطقة وفق المنطق ذاته الذي تعاملت به في الفترة (1970 – 1979)، عبر افتراض وجود فراغ قيادي، يسمح لها بتولي زمام المنطقة. فقد أسقطت حرب الخليج الثالثة 2003، أكبر تحدٍ لإيران فيها (العراق)، مما أطلق طموحاتها الإقليمية، وفيما تُعتبر الولايات المتحدة بنظر إيران “الشيطان الأكبر” والعدو الأول، فإنّها كانت تدرك أنّ القوات الأمريكية لن تستمر في العراق طويلاً، لذلك راوغت مع التهديدات الأمريكية لتخرج بقوتها سليمة، وتستطيع لاحقاً مد نفوذها.

حيث أدّى احتلال العراق، إلى إعادة توزيع لموازين القوى الإقليمية عموماً، وبين إيران وتركيا خصوصاً، إذ إنّ انهيار النظام العراقي السابق، وهيمنة الأحزاب السياسية الشيعية على الحكومة والبرلمان العراقيين، وبروز دور الأكراد في شمال العراق والسلطة المركزية، أدّت جميعها إلى تزايد النفوذ الإيراني في العراق (7).

وبهذا الصدد، يعتقد ريتشارد هاس، بأنّ فترة الهيمنة الأمريكية على المنطقة، التي بدأت مع حرب الخليج الثانية 1991، في طريقها إلى الزوال، بسبب صعود إيران (8).

وتنظر إيران إلى نفسها باعتبارها قوة طامحة إقليمياً، تعارض النظام الدولي “الظالم – حسب الوصف الإيراني –”، وتعتقد أنّ لها رسالة قِيَميَّة تتجاوز المصالح القومية الضيقة، لتشمل دائرة أوسع، تضمّ العالم الإسلامي. وتسعى إلى التأثير في التوازن الإقليمي بالسعي إلى إبعاد القوة الأجنبية عن معادلة الأمن الخليجي (9).

وقد مرت محاولات مد النفوذ الإيراني إلى المشرق العربي عبر ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: مرحلة قائد الثورة خميني، والتي اصطدم فيها المشروع الإيراني بالقوة العراقية التي أوقفته تماماً على حدودها، كما وجد المشروع الإيراني مناهضة كبيرة من الدول الخليجية.

المرحلة الثانية: وهي مرحلة الرئيسين رفسنجاني و خاتمي، والتي تميزت بالإصلاح وإعادة البناء الداخلي، والانفتاح على العالم وعلى الدول العربية، وتحاشي الضغوطات الإقليمية الناشئة عن أحداث 11 أيلول.

حيث انكفأت إيران تماماً عن السعي نحو تحقيق مصالحها الاستراتيجية العليا، وتكرَّس التراجع عن تطلعات النفوذ الإقليمي، ووصل مبدأ تصدير الثورة الخمينية إلى حالة من الجمود، بعد أن كان قد انحسر تماماً نتيجة الانشغال لسنوات طويلة في الحرب مع العراق (10).

المرحلة الثالثة: وهي مرحلة الرئيس نجاد، والتي شهدت عودة الفكر المحافظ، والرغبة في مد النفوذ في فراغ استراتيجي واسع حولها، وخاصة غربها.

ففي هذه الفترة، باتت إيران على الصعيدين الإقليمي والدولي بمثابة معضلة إستراتيجية للولايات المتحدة، وللقوى المنافسة الأخرى، بحكم عدة عوامل ، أهمها (11):

1.    إعاقتها للترتيبات الأمريكية في العراق، وازدياد نفوذها في التقرير بالشأن العراقي.

2.    سعيها لامتلاك أسلحة نووية، ورفضها بين الحين والآخر السماح برقابة دولية على منشآتها النووية، وتحدّيها للسياسة الأمريكية في هذا المجال.

3.    كونها أحد أهم مراكز تصدير الإسلام الراديكالي، ما يجعلها موصومة لدى الإدارة الأمريكية بدعم الجماعات الأصولية والإرهابية.

4.    سياسة “تصدير الثورة”، التي تجعل من إيران أحد عوامل عدم الاستقرار في المنطقة، وعنصر توتر فيها، نظراً “لرفضها” وجود الكيان الإسرائيلي، وتحالفاتها الإقليمية، ودعمها حركات المقاومة الإسلامية، والتكتلات المذهبية الشيعية في دول الخليج العربي.

أما المحدد الدولي، فإنّ إيران أدركت تماماً طبيعة النظام الدولي القائم ما بعد الحرب الباردة، واستطاعت أن تتجنب الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه العراق عام 1990. فرغم التهديدات الكبيرة التي أحاطت بها، ورغم آفاق النفوذ المفتوحة أمامها، إلا أنّها تجنبت استخدام قواتها على أي من تلك الجبهات.

ومع أنّها سعت إلى إنشاء جملة من العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية (روسيا، الصين، كوريا الشمالية، فنزويلا ..)، عبر التشارك معها بمجموعة من المصالح، إلا أنّها ظلت مقتنعة بأنّ الولايات المتحدة هي من يتحكم بالنظام الدولي القائم، وأنّ قدرات القوى الأخرى عاجزة عن منع أيّ اعتداء عليها، وأنّ للولايات المتحدة نفوذاً كبيراً داخل مجلس الأمن، تستطيع إلى حد كبير توظيفه ضد إيران.

كما أنّ الكيان الإسرائيلي وربما جزءاً مهماً من أوروبا الغربية مستعدان لخوض حرب مع الولايات المتحدة ضد إيران، بقدرات تسليحية كبيرة.

وفي ظلّ ذلك، يتراوح السلوك الإيراني تجاه النظام الدولي، بين المحافظة على الأولويات العليا للأمن الإيراني، والمراوغة بين اللين والتصلب إزاء نشر النفوذ في منطقة المشرق العربي.

 

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

مراجع:

(1) مصطفى عبد العزيز مرسي، “التحركات العربية في بعض قضايا المنطقة .. هل تمثل أدواراً إقليمية مؤثرة على ساحتها “، شؤون عربية (القاهرة: الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، العدد 135، خريف 2008)، ص 18.

(2) خليل العناني، “السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية المقبلة .. واقعية ذات خيارات محدودة”، شؤون عربية، العدد 135، خريف 2008، ص 54.

(3) حسن نافعة، “ردود الفعل الدولية إزاء الغزو”، في: مجموعة باحثين، الغزو العراقي للكويت (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عال المعرفة، العدد 195، مارس 1995)، ص 513.

(4) المرجع السابق، ص 513.

(5) ماجد كيالي، “التجاذب الإيراني – الأمريكي في الصراع على الشرق الأوسط”، شؤون عربية، العدد 130، صيف 2007 ، ص 20.

(6) مصطفى اللباد، “هل أصبحت الأدوار الإقليمية بالمنطقة حكراً على قوى غير عربية”، شؤون عربية، العدد 135، خريف 2008، ص 36.

(7) مصطفى اللباد، “العلاقات الإيرانية – التركية وانعكاساتها على المنطقة”، شؤون عربية، العدد 127، خريف 2006، ص 92.

(8) خليل العناني، “السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية المقبلة .. واقعية ذات خيارات محدودة”، مرجع سابق، ص 53.

(9) محمد السيد إدريس، “الخليج والأزمة النووية الإيرانية”، السياسة الدولية (القاهرة: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد 165، يوليو 2006)، ص 98، 99.

(10) سامح راشد، “الثورة الإيرانية بعد 25 عاماً .. تحولات الدولة والمجتمع”، السياسة الدولية، العدد 157، تموز 2004، ص 56.

(11) ماجد كيالي، “التجاذب الإيراني – الأمريكي في الصراع على الشرق الأوسط”، مرجع سابق، ص 19.

الوسم : إيران

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق