المحاولات السعودية -المصرية في بلورة نظام إقليمي عربي جديد .. موقع الحالة السورية: رؤية استشرافية

 بالرغم من التحديات التي تعصف بالدور التاريخي للمملكة العربية السعودية، في محيطها الخليجي، إلا أنها باتت اليوم على صفيح ساخن من التحديات التي لا تهدد مكانتها كدولة مركزية في الخليج العربي وحسب، بقدر ما تهدد مكانتها الإقليمية والدولية، لاسيما المتعلقة منها بالخيارات الجديدة للاستراتيجة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، التي تقف اليوم على مفترق طرق، تحكمه براغماتية معلنة، لاختيار الشريك الأقوى إقليمياَ، الذي يمّكنها التنسيق معه في شؤون المنطقة.

تدرك السعودية اليوم، مثلها مثل كل الأطراف الدولية، أداء إدارة أوباما القائم على سياسة الانكفاء الأمريكي، التي أعلنتها الولايات المتحدة، منذ الشهور الأولى لتدويل الحالة السورية، التي  تلاشى فيها الخط الفاصل بين الشرق والغرب، حيث  كشف الموت العلني للسوريين، تواطؤ القوى الدولية والأقليمية، في إطار تركيبة جديدة للنظام الدولي، تقوم على انتهاء  فكرة الصراعات الإيديولوجية، لصالح الصراعات الإقتصادية والتنموية، القائمة على علاقات من التعاون والتنافس والتواطؤ، والاستمالة والترغيب والترهيب، كخصائص اتسم بها هذا النظام الدولي، منذ العقد الأول للألفية الثالثة، وهو مالم تتداركه الأنظمة الحاكمة في دول الربيع العربي، ماجعلها الحلقة الأضعف في خضم هكذا صراعات.

  منذ التقارب الإيراني – الأمريكي، والتقارب الإيراني – التركي، اللذين اتسقا مع العلاقة المرتبكة للمملكة العربية السعودية بالولايات المتحدة الأمريكية، بدأت الأخيرة ترسل للسعودية إشارات أشبه بالضغوطات، التي تدعو السعودية للتلاؤم مع عقيدتها الاستراتيجية الجديدة، حيث اختزلت الولايات المتحدة هذه الضغوطات بخيارين لا ثالث لهما:

 الخيار الأول- ويقوم على فكرة التنازل عن التحالف التاريخي مع دول الخليج العربي، لصالح قوى إقليمية جديدة ( تركيا وإيران): وذلك بتفكيك البيت الخليجي، عبر بوابة الاختلاف القطري، وهو ما  وضع المملكة على محك قدرتها في  إثبات وجودها في محيطها الخليجي والعربي والإقليمي، وذلك بالتنسيق مع مصر، والقفز فوق خلافات البيت الخليجي، لتتعداها إلى ما يؤمّن لها استرايجياً، إعادة تموضعها العربي والخليجي في آنٍ معاً.

الخيار الثاني- ويقوم على فكرة إقامة “توازن إقليمي”، بين القوى الثلاث ( إيران- تركيا – السعودية): وتبدو هذه الفكرة، غير متحققة أو مستحيلة التحقيق، إذا ما أدركنا الحاجز النفسي العميق بين هذه القوى، بسبب  الصراع التاريخي والحضاري بينها. فما يمكن تحقيقه في السياسات الخارجية، لا يمكن له الثبات في مواجهة الثقافات الجماهيرية، لاسيما وأن منطقة الشرق الأوسط، أصبحت اليوم محكومة بصراعات طائفية، لاقِبلَ للتوازن الإقليمي في تجاوزها على المدى المنظور.

وباستثناء الدور السعودي إبان مرحلة الملك فيصل، يلاحظ المتتبع للخط البياني للسياسة الخارجية للمملكة، التناسب العكسي بين محاولاتها في التأثير على الصعيد العربي، وبين وجود قوة عربية قادرة على أن تقوم بأداوارها.  فمنذ سياسة الأبواب المغلقة (سياسة التحفظات السعودية)، التي اتبعتها إبان الخلافات العربية -العربية، نأت المملكة بنفسها عن أي دور يفقدها مكانتها كقوة روحية لأكثر من مليار ومئتين مليون من المسلمين في العالم؛ واكتفت بموقعها التاريخي كقوة مركزية في الخليج العربي.

ومع انتهاء النظام الإقليمي العربي، وبروز قوى إقليمية بديلة (إيران وتركيا)، دخلت السياسة السعودية بمرحلة جديدة انتقلت من خلالها، من مرحلة الأبواب المغلقة إلى مرحلة التهدئة والاحتواء، التي اتبعتها مع جيرانها الخليجيين والاقليميين.

إلا أنّ التحول الأبرز لها، كان مع اندلاع ثورات الربيع العربي، وبالأخص في سورية، حيث وُضعت المملكة العربية السعودية على محك الخروج القسري من خاصتي التحفظ أو الاحتواء، بسبب الأدوار الإقليمية والدولية، التي أوصلت الحالة السورية إلى درجة من التعويم والتعقيد، أصبحت معها لا تطال موقع المملكة في محيطها الخليجي وحسب، بل المنطقة ككل. كما فتحت الأبواب على مصراعيها لنفوذ إقليمي لخصومها التاريخيين، لاسيما إيران التي بدأت ُتغري الجانب الأمريكي في التعامل والتنسيق معها كقوة إقليمية.

 دفع التمدد الإيراني  المملكة إلى الخروج عن سياساتها المعهودة؛ فهي -و إن لزم الأمر-  قادرة على إبراز قوتها، لاسيما الاقتصادية منها في عصر الصراعات الاقتصادية، حيث بدأت السعودية مؤخراً بإرسال إشارات إلى واشنطن عن طريق الهمس الدبلوماسي، في العديد من اللقاءات والندوات التي تحدث فيها مسؤوليها -لأول مرة – مؤكدين على العلن ” أن هناك العديد من الأسباب التي تجعل منها القوة الأعظم في المنطقة، أولها أنها تمثل مهد الإسلام، وأنها تشكل  20 بالمئة من الدخل القومي للشرق الأوسط  وشمال أفريقيا، و أنها تحوز ربع الدخل القومي للدول العربية، كما أنها  عضو مهم  في مجموعة العشرين الدولية الأولى اقتصادياً في العالم، وأن البورصة السعودية تمثل أكثر من 50 بالمئة من تداول بورصات المنطقة، وأن خمس شركات سعودية من أصل عشر شركات في الشرق الأوسط، تختص بانتاج النفط ومشتقاته، وهي الدولة الثالثة في العالم من حيث احتياطها النقدي البالغ 850 مليار دولار، بينما تتجاوز الثروات الشخصية  الـ 500 مليار دولار، وهي الدولة الأولى في العالم في مجال تصدير النفط، والمتقدمة بأشواط بعيدة عن غيرها في مجال البنية التحتية لإنتاج النفط، والقادرة على تصدير 12.5 مليون برميل يومياً، فضلاً عن احتياطي في القدرة على إنتاج 2.500.000 برميل يوميا”.

وبناء على ذلك، اشتغلت السياسة الخارجية السعودية، على ربط قوتها الاقتصادية والخليجية، بالقوة السياسية لموقع مصر في موقعها العربي والإقليمي في شمال أفريقيا، حيث أثبتت مصر قدرتها على قلب المعادلة الليبية التي رأت فيها تهدديداً لأمنها القومي، توازى ذلك مع صمت أوروبي تجاه ما يجري اليوم في ليبيا، مايعطي دلالات بالرضا الأوروبي، الذي يرى فيها بؤرة للهجرة غير الشرعية، تهدد أمن واستقرار الدول الأوروبية المجاورة.

وعلى هذا الأساس، تصطف كل من مصر، والسعودية، وليبيا، والإمارات، والبحرين، في خندق واحد، في محاولة لرسم خارطة جديدة لنظام إقليمي عربي جديد،قوامه القوة الاقتصادية الخليجية، والقوة السياسية لمصر في محيطها، في إطار من القواسم المشتركة، في الدين، والعروبة، وتحديات الإسلام السياسي المتطرف، بشقية السني والشيعي. الذي تعتبره السعودية، التهديد الأخطر لأمنها سواء في محيطها الخليجي أو الإقليمي.

ولعل القرار الذي قادته المملكة مؤخراً في سحب سفيرها وسفراء الإمارات والبحرين من قطر، هو المنعطف التاريخي الأهم، الذي يؤكد موقعها في الخليج العربي، كما يؤكد قدرتها على قيادة هذا الخليج.

 تتشارك المملكة مع مصر في تخوفها من إيران، التي تقود محور الإسلام السياسي–الشيعي، كما تخوفها من تركيا، التي أصبحت تبحث عن قوتها الإقليمية، من خلال تبنيها محور الإسلام السياسي السني، الأمر الذي ترى فيه المملكة، صراعاً على المنطقة لا يمكن أن تتركه محصوراً بين قوتين اقليميتين تختصم معهما، ما يهدد وجودها، كما يهدد موقع الخليج العربي برمته في العلاقات الدولية.

وبناءً عليه، تعمل السعودية اليوم، بكل ما أوتيت من قوة، لبلورة نظام إقليمي عربي جديد، يسحب البساط من القوتين الاقليميتين تركيا وإيران، ولن يتسنى لها ذلك، إلا من خلال الإمساك بالملف السوري، آخذة على عاتقها تدعيم موقعها السياسي، بالتنسيق مع مصر، حيث تدرك السعودية أن لا نظام إقليمي عربي بدون مصر.

 لذلك فهي اليوم بحاجة -أكثر من أي وقت مضى- إلى القوة التاريخية لمصر، في صراعها التاريخي مع إيران، الدولة التي أصبحت تهدديداً حاصلاً وفعلياً، لمكانة المملكة، في البحرين، ولبنان واليمن، وغيرها.

الأهم من ذلك،  تبدو المعادلة الإيرانية-السعوديةاليوم، من أبرز التحديات التي تواجه مستقبل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؛ إذ  يتموضع البلدان على طرفي نقيض بكل القضايا  في الشرق الأوسط، الأمر الذي يضع السياسة الأمريكية أما حالة الاختيار الصعب، بين قوتين  جيوبوليتكيتين، تتصارعان على النفوذ في محيطهما، كما تتنافسان داخل منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك)، الأمر الذي يجعل من مكانتهما السياسية في منطقة الشرق الأوسط، مرهوناً بقدره كل منهما، على قراءة وتحليل بنية النظام الدولي – براغماتياً-،  وهنا تصبح الحالة السورية، المفصل الذي يحدد  شكل النظام الإقليمي العربي الجديد، في إطار من التراجع، أو التوازن، أو البلورة.

لقد أصبحت الحالة السورية من أصعب وأعقد القضايا الإقليمية والدولية، بما شهدته من تدخلات إقليمية ودولية، وتقاطعات أُشتغل على تعقيدها بشكل ممنهج من جميع الأطراف الدولية والإقليمية، فالجميع متورطون في الدم السوري، ومن هنا فلن يكون هناك أي دور إقليمي لأحد، قبل أن تضع الحرب أوزارها، وما على المملكة، إلا أن تعي هذه المهمة.

 

 د. محمد خالد الشاكر

كاتب وباحث سوري

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والأبحاث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق