السياسة الإماراتية المتوازنة وعقلانية الموقف

احتلت مليشيات «داعش» الإرهابية مدينة الموصل العراقية بطريقة هزلية لا تتناسب مع سمعة وتاريخ وقوة الجيش العراقي الذي انسحب بطريقة مريبة لم يجد المراقبون تفسيراً لها حتى الآن، فانهزام جيش منظم أمام مليشيات إرهابية لا تضاهيه في العدة والعتاد والتدريب،

بل والتّمرّس على القتال بعدما خاض حروباً مستمرة منذ ثمانينيات القرن الماضي التي واجه فيها الجيش الإيراني بكل بسالة واقتدار، مروراً بحربي الخليج الأولى والثانية التي انتهت بتفكيك وحلّ الجيش، وانتهاءً بالحروب الداخلية التي استمرت أثناء وبعد انسحاب الجيش الأميركي من العراق.. يظلّ لغزاً غامضاً حتى يكشف عنه الزمن، طال أم قصر.

وبعيداً عن نظريات الخيانة التي ذهب باتجاهها الكثير من المحللين، فإن الجيش العراقي الحالي يختلف عن الجيش العراقي السابق الذي خاض حروباً عدة. ففي عهد صدّام تمّ بناء الجيش وفق أسس وطنية واضحة، وكان لاسم وعلم العراق مكانة مقدسة في قناعاته. فقد تألّف الجيش وقتها من مختلف المذاهب الدينية في العراق، فضمّ الشيعة والسنّة الذين كانوا يقاتلون معاً على قلب رجل واحد لدرجة أن الأغلبية الشيعية في الجيش لم تتردد في مقاتلة الجيش الإيراني (الشيعي) لثمانية أعوام بذلت فيها الغالي والنّفيس، وضربت مثلاً رائعاً في الوطنية التي طغت على كل أشكال الطائفية والمذهبية، وأصرّت على مواصلة القتال للدفاع عن الوطن. ولم يتوقف الجيش العراقي وقتها إلا بقرار الحكومة العراقية وقف الحرب لفتح صفحة جديدة مع الجارة الصفوية التي كانت تراهن على شيعة الجيش الذين خيّبوا كل آمالها باختيار وحدة الأرض وتغليب الوطنية على كل ما عداها. لكن على العكس ذلك، فإن الجيش العراقي في الوضع الحالي قصمت ظهره الانتماءات الطائفية، ودفعه رئيس الوزراء نوري المالكي بذلك الاتجاه العقيم الذي جعل منه جيشاً مذهبياً يأتمر بأمر رئيس الوزراء الذي لم يخف تحيّزه الواضح للشيعة، ومحاربته العلنية لكل ما هو سنّي، حيث واجه مواطنيه السنّة بوحشية غير مسبوقة، لا سيما في الأنبار وبعض المحافظات والمدن العراقية الأخرى، وهو الأمر الذي ساهم كثيراً في إضعاف وحدة الدولة العراقية. فإقليم كردستان العراق مثلاً أصبح دولة داخل الدولة، ووصلت به نوايا الانفصال لدرجة تحدّي الدولة الأم، فعقد الاتفاقيات النفطية بعيداً عن الحكومة المركزية، وتلقّي الأوامر مباشرة من الدولة الإيرانية بدلاً من بغداد التي وجدت نفسها رهينة للقرارات والأوامر الإيرانية. وقد اجتمعت هذه الأسباب مع غيرها لتضع أساساً واضحاً لحرب أهلية طائفية لم تكفها مساحة الدولة العراقية، فتمددت نحو سوريا وحاولت التمدد نحو مختلف جيران العراق تمهيداً للحروب الأهلية الشاملة التي أرادت لها سياسة «الفوضى الخلاقة»، كما بشرت بها كوندليزا رايس، أن تكون المسبب الرئيسي لسايس بيكو القرن الحالي التي بدأت خططها تتسرب إلى مختلف وسائل الإعلام.

وما أن تجرأت مليشيات «داعش» الإرهابية على احتلال مدينة الموصل، حتى دانت دولة الإمارات العربية المتحدة أفعال مجموعات الهوس الديني المتطرف التي رفعت الشعارات الإسلامية وناقضتها في مختلف أفعالها، بدءاً بالسطو على المال العام للشعب العراقي، ونهب خزائن الدولة في الموصل، وانتهاء بالطريقة الوحشية التي أعدمت بها بعض الأسرى لديها من الجيش العراقي المنسحب، رغم أنهم لم يواجهوهم بالسلاح، ولم يقفوا كمقاتلين في وجهها! وبذلك كشفت «داعش» عن وجهها القبيح الذي لم يختلف عن وجوه حركات التأسلم السياسي التي اختلفت في الأسماء والمسميات، واتفقت وتشابهت في التفكير والأفعال.

الإدانة الإماراتية لاحتلال «داعش» مساحات مقدرة من التراب العراقي، رغم سرعتها وكونها جاءت حازمة وواضحة في الساعات الأولى للاحتلال، فإنها كانت متأنية ومدروسة، وقد تبعتها مختلف الدول والشعوب مؤكدة صواب الإدانة. وهي ليست المرة الأولى التي يتم فيها التعبير بكل وضوح عن حكمة السياسة الخارجية لدولة الإمارات وتوازنها وبعد نظرها. وقد كررت السياسة الإماراتية المتوازنة عقلانيتها عندما سرق التنظيم الإخواني المتأسلم ثورة الشعب المصري ضدّ نظام الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، واحتلّ كرسي الحكم في جمهورية مصر العربية، فانحازت السياسة الإماراتية إلى الشعب المصري الذي اكتشف مبكراً نوايا تلك العصابة الشريرة التي حاولت تكرار التجربة العراقية في مصر، وسعت بالفعل لتصديرها إلى مختلف دول المنطقة بإصرار غريب على تدمير البنى التحتية، وتحدّي وتشريد الشعوب من مواطنها، وتصدير الإرهاب تحت الشعارات الدينية ذاتها التي أطلقتها «داعش» في خطوة جعلت المراقبين يعرّفون الأمر كامتداد لتلك السياسات الإخوانية التي تربطها بـ«داعش» وشائج عديدة يأتي على رأسها تطابق الطرفين في تنفيذ مخطط «رايس» الهادف لصنع «الفوضى الخلاقة»، التي تنتهي بخلط أوراق المنطقة تمهيداً لإعادة رسمها وتقسيمها مجدداً على شكل دول صغيرة تنشغل بمحاربة بعضها البعض، لتؤمّن استمرار دوران عجلة مصانع التسلّح العالمية، وتمضي في طريق خطة إنقاص سكان المنطقة، وتقسيم ثرواتها على راسمي المخطط ومن يتبقّى وينجو من كوارث الحروب المتلاحقة.

وتدخلت السياسة الإماراتية المتوازنة ذاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي في الأزمة اليمنية التي أحدثت شللاً عاماً للحياة في «اليمن السعيد»، وهددت تماسك الدولة اليمنية، لتحلّ بكل بساطة أزمة الحكم، في خطوة قللت المخاطر، وأزالت الاحتقان الحاد في تلك الفترة، ونقلت السلطة بسلاسة من الرئيس علي عبد الله صالح إلى نائبه.

وعندما اشتدّ الخطر الطائفي الذي صدّرته الدولة الإيرانية الصفوية إلى مملكة البحرين الشقيقة، تصدّت السياسة الخارجية الإماراتية المتوازنة لصور الاقتتال الطائفي كافة، وتدخلت مع شقيقتها السعودية لنزع فتيل الفتنة الذي بدأه المُستهدفون في البحرين بنوايا نقله لبقية دول الخليج، فكان للتدخل أثره المحسوس في عودة الحياة إلى طبيعتها في البحرين. ولم تبخل السياسة الإماراتية على مختلف دول المنطقة والعالم، بالتدخل العقلاني المتوازن عبر العمل الإنساني والإغاثي الذي جعل منها وفق التصنيفات الدولية الأولى عربياً في مجال العمل الإنساني والتاسعة عشرة بين مختلف دول العالم. والنماذج لا تسعها الأسطر، وهي في مجموعها تمثّل أحد الفصول المهمة لمدرسة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، والتي بنت أعظم حضارات التاريخ الحديث في دولة الإمارات العربية المتحدة التي تفوقت نهضتها بمراحل عديدة على سنوات عمرها، وهي مدرسة تستحق أن يتم تسليط مزيد من الضوء عليها، وتبيان محاسنها التي تشكل ضمانة كبيرة لاستقرار المنطقة وأمن واستقرار ورفاهية شعوبها.

 د. سالم حميد

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق