الديمقراطية ليست دائماً مرادفاً للحكم الرشيد

الديمقراطية تجربة من تجارب البشرية على مر التاريخ تحولت إلى مذهب اجتماعي من دون ضوابط وقواعد تحكمها حتى استعانت بفكرة العقد الاجتماعي على يد جان جاك روسو 1712-1778 الذي استقاها من النموذج الإسلامي عن طريق العالم الإسلامي أبو زيد، وبدأت تنتقل الديمقراطية من حكم الشعب إلى الحكم المزدوج بين الشعب والحاكم، اصطلحوا على تسميتها بالديمقراطية، لكن اختزلوها فيما بعد في الانتخابات وآلياتها، فضيعوا التعاقدية التي استقوها من النموذج الإسلامي، وغرقوا في الشكليات على حساب القيم والمبادئ، مثلما تخلى الاقتصاد عن الأخلاق، ودخل العالم في أزمات مالية رغم ذلك تبقى الديمقراطية هي من أفضل تجارب البشر.

لكن الديمقراطية ليست دائما مرادفا للحكم الرشيد، وكثيرا ما تكون الديمقراطية معادية للقانون والعقل، وحينما يختار معظم الناس، فإنهم يفضلون على الأرجح القانون على الديمقراطية، فهناك مثالين يمكن ذكرهما، فالمراقبون كانوا يتمنون عزل رئيس أوكرانيا في عام 2011 فيكتور يانوكوفيتش لأنه كان فاسدا رغم أنه منتخب، وكذلك تمنىت فئة كبيرة من الشعب المصري من عزل الرئيس محمد مرسي ليس لأنه كان فاسدا بل لأن مجموعته مارست إقصاء بقية الكيانات والكتل السياسية رغم أن الرئيس منتخب، وهو ما أدخل الشعب المصري والعربي في حالة انقسام، باعتبار أن جماعة الإخوان عابرة للحدود المصرية، فكانت تهديدا لأنظمة عربية عديدة، لم ترتضي بحكم الإخوان، ساهمت مع الشعب المصري المنتفض في إسقاطه.

النظم الديمقراطية كما الانتفاضات العربية  لعام 2011، اكتسبت شرعيتها للتخلص من نير الاستبداد، حتى لو كان ذلك يعني وضع مستبد آخر، خصوصا عندما تماشى الناس بعد الانتفاضات العربية مع التدفق الديمقراطي، بدلا من الخضوع إلى إرادة شخص واحد كما كان سائدا من قبل في مصر وليبيا واليمن وسوريا وتونس.

كما فقدت الاشتراكية بريقها فقدت الديمقراطية بريقها حين ربطت نفسها إلى حركة غير متجانسة ضخمة لإعادة اعمار المساواة، بسبب أن الأنظمة الديمقراطية تميل إلى الحكم مع سلطة ثقيلة على نحو يفوق ما يمكن أن يكون مبررا.

بعد تطبيق الديمقراطية في العراق كنموذج لبقية المنطقة العربية لتحقيق أكبر دعوى للديمقراطية الأمريكية بالتميز التاريخي الباعثة على الإعجاب والسعة المكانية، وهي ضمانات تشتمل على مجموعة كبيرة من التفويض الفائض لنتائج الخيار السيادي، ولكن  فشل العراقيون في تطبيق هذا النموذج.

حتى أصبح العراق متلازمة أمريكا تتحكم في واشنطن، كما تحكمت فيتنام في أمريكا من قبل، ولا يوجد اليوم من يصدق الولايات المتحدة حين يجادل بأن أمريكا يمكنها نقل العالم العربي إلى جنة من الديمقراطية بعد احتلالها العراق واستثماراها الاضطرابات العربية، لكن وجدت من ينافسها في المنطقة إيران وتركيا في ظل غياب عربي حتى قادت السعودية تحالف عربي تحت اسم عاصفة الحزم لإعادة الأمل إلى اليمن قابل أن يتوسع ويتمدد هذا التحالف إلى بقية أرجاء المنطقة العربية خصوصا في سوريا وليبيا حتى ينتقل الاستقرار إلى العراق بعد انتزاع المنطقة من إيران، لكن يبدو أن العرب غير جاهزين لمثل هذا السيناريو فاتجهت السعودية إلى تشكيل تحالف عسكري إسلامي قد يكون هو الآخر غير جاهز لكن على الأقل يستخدم كمظلة وكمرجعية تستند إليه السعودية في مواجهة الإرهاب الذي يضرب المنطقة على الأقل مستقبلا لاستعادة الدولة الوطنية.

انتقال العالم العربي بعد غزو العراق والاضطرابات العربية إلى تجمعات طوائف، إذ أن نظريات إرضاء الحشود والطوائف ليست بديلة عن التنظيم والحكم الرشيد، بسبب أن هناك عوامل كثيرة تؤثر في سلوك الحشود، لتأكيد هويات طائفية أو قبلية أو عشائرية، التي غالبا ما يتم استغلالها من قبل قادة عديمي الضمير هدفهم الوحيد تحقيق مصالح خاصة أو أيديولوجية عابرة للحدود، مثل علي عبد الله صالح الذي يدير حشود في اليمن متحالف مع الحوثيين الأيديولوجيين الذين ينفذون أجندات إيرانية بثوب مذهبي ومن قبله المالكي في العراق وبشار الأسد في سوريا، وحسن نصر الله في لبنان وقاسم سليماني القائد الإيراني في المنطقة العربية من أجل خلق دول موازية تابعة لإيران.

طبيعة السلوك الاجتماعي السائد في المنطقة العربية في اليمن وفي العراق وليبيا وفي بقية المنطقة العربية، تتخذ طابعا مرضيا، خصوصا عندما تتوقف تقديرات أعضاء الحشود عن كونها مستقلة بعضها عن بعض كما في العالم الغربي، وبشكل خاص عندما تم توظيف الدين والمذهب في السياسة العربية التي قسمت المجتمعات إلى تجمعات طوائفية، قاد إلى خلق فجوات بين المفهوم الإسلامي والممارسة، وبناء عليه تم تقسيم الإسلام إلى معتدل وإسلام متطرف، أو عربي وغير عربي، وما إلى ذلك من التقسيمات نتيجة ممارسات خاطئة لا تنتمي إلى جوهر الإسلام بشئ، أو الحضارة الإسلامية التي اعتمدت التسامح ركنا أساسيا في التعامل مع الآخر، بل وحمايته بصرف النظر عن ديانته أو عرقه أو مذهبه.

تيارات الإسلام السياسي بجميع حركاتها، لم يستوعبوا حجم الإساءة التي ينسبونها للدين عند تطويعه لقواعد اللعبة السياسية، ومن الصعب أن يتم خلط عقائد الدين وعباداته من جهة وبين ممارسات بشرية تتمسح بالدين، خصوصا وأن لها مواقف كثيرة من القضايا مثل الديمقراطية والشورى، حيث أن هناك لديهم تباينا كبيرا فيما يتعلق بماهية الديمقراطية، لكنهم يتمسحون بآليات الديمقراطية وهي صناديق الاقتراع لضمان الوصول إلى السلطة التشريعية والتنفيذية، بينما لا تمتلك حركات الإسلام السياسي المختلفة الوعي الكامل بتحدي الديمقراطية والاعتراف بالآخر كشريك، بل تكتف بأن يكون تابعا أو مهمشا كما هو الواقع في العراق كنموذج سبق المنطقة العربية، وهذا لا يعني فشل الديمقراطية بل فشل تطبيق الديمقراطية.

بعد التجارب الأليمة التي مرت بها المنطقة العربية، تبحث الآن عن السلامة قبل الحرية التي من أجلها قامت الثورات العربية، فالدولة الوطنية هي علاج مناسب للتوجهات الانفصالية التي تهدد المنطقة، ويجب أن يقف العرب في وجه إيران، التي تقف أمام تحقيق تلك الفيدرالية الاتحادية في اليمن التي تقودها السعودية وفق المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني، وكذلك استعادة الفيدرالية في العراق التي تم اختطافها من قبل جهتين إيران وداعش، وستكون جاهزة في سوريا وليبيا عند الوصول إلى حلول سياسية قد تكون ليبيا الأقرب لكن سوريا ما زالت بعيدة عن الحل السياسي نتيجة تدويل الأزمة وهو ما يجعل ليبيا تحرص من أن تصبح الأزمة الليبية على شاكلة الأزمة السورية، لإخراج المنطقة من أزماتها خصوصا بعد تدخل الجيشين الأمريكي والفرنسي لضرب داعش لكن يخشى السياسيون أن تتدخل روسيا مثلما تدخلت في سوريا.

 بعدما أصبح النسيج الاجتماعي يئن تحت ضغوط الصراعات الإقليمية والدولية، يمكن للمآزق السياسية في المنطقة أن تتطور سريعا إلى عنف طائفي، مما يساعد على انعدام التوازن السياسي على دفع الطوائف الرئيسية إلى تشكيل مليشيات خاصة بها كما في العراق وسوريا واليمن وليبيا.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق