الدستور بين التقديس والتسفيه

تعزز دور الدستور عقب قيام الدولة الحديثة القومية، وليقوم كوثيقة مكتوبة بين الحاكم والمحكوم لإدارة شؤون البلاد بتفويض من أبنائها، أي أنه أتى فيما يشبه عقد عمل وفق شروط صاغتها الأمة ووافقت عليها الحكومة. وقد أتى عبر هيئات دستورية غالبا ما كانت فوق البرلمان لأن وظيفتها كانت في التوفيق آنذاك بين السلطة المطلقة وبين مطالب المجتمع.

ويكمن هدف الدستور الرئيس في تحديد هوية الدولة، والمحافظة على شكلها المتفق عليه بين أبنائها، وطرق إدارتها، وصيانة الحقوق، وتحديد الواجبات. وتفرعت عنه بعض المسائل التوضيحية دون الغوص في تفاصيلها، تاركا إياها للقوانين اللاحقة للدستور، ومن تلك المسائل التوضيحية: آليات استلام الحكم، ومهام السلطات، وطرق تعديل الدستور.. الخ.

وحرصت أغلب الدساتير العالمية على ربط القضايا المصيرية للأمة بيد أبنائها عبر الاستفتاءات، كعقد اتفاقات السلام، والتنازل عن أقاليم معينة من الدولة، والارتباط بمعاهدات عسكرية ملزمة أو معاهدات محملة لأعباء مالية كبرى على الأمة..، فيما تركت الشؤون الأدنى لموافقة ممثلي المجتمع في البرلمان.

وتتنوع الدساتير فيما بينها وفقا للثقافة السياسية السائدة في المجتمع، فهي انعكاس لمجموعة القيم السياسية والثقافية والاقتصادية وحتى الدينية التي تسيير شؤون المجتمع عرفا أو قانونا، ووفقا لتلك القيم تصيغ الأمة شروط إدارة دولتها، ليتقدم من يرى في نفسه القدرة على تحقيق تلك الشروط ليكون حاكم الأمة لا مالكها.

وفيما كانت تلك القيم تتعرض للتغير في القرون السابقة بشكل بطيء مواز للتطور العلمي الذي تناله الأمم، فإنها غدت في عصر الانفتاح العالمي قيما قابلة للتغير كل عدة عقود بل وتحديدا بين جيل وآخر، مما يعني أن بنود العقد (الدستور) هي أيضا كان لازما عليها أن تتطور لتواكب آليات التقدم، وإلا غدت عائقا لهذا التطور ومانعا لنهوض الأمة. وهو ما يعني أن على الجيل الجديد في كل أمة أن يعيد صياغة آليات العقد الذي تدار به شؤونه وفق ما استحدث من قيم جديدة في المجتمع.

ويقتصر دور الحاكم على أداء عمله وفق تلك الشروط التي ارتضاها مقابل نفع مادي محدد له في العقد، وبعض من الحصانة التي تقيه بعض مخاطر مهنته، ومن لم يرتض تلك الشروط جاز للأمة استبداله بعامل آخر قادر على الوفاء بالتزاماته مقابل ما خصص له، وله أن يطالب بمزيد من مخصصاته إن وافقت الأمة وأدرجت ذلك في عقدها. وما قيام الحاكم بفرض تغيير في شروط ذلك العقد لصالحه أو إلغاؤها أو تعطيل نفاذها دون موافقة الأمة، إلا كعامل سطى على أملاك سيده واحتكرها لذاته وتحول من حاكم في الأمة إلى مالك لها.

ونسوق هنا مثال جمال عبد الناصر الذي رأى عقب هزيمة 1967 أنه أخل بشرط الدفاع عن الدولة فتقدم إلى الأمة باستقالته واضعا نفسه تحت المساءلة عن تلك الهزيمة، وحيث أن القيم السائدة آنذاك في مصر تدرك أن أبعاد الهزيمة تتجاوز شخص عبد الناصر وقدرات مصر، فإنها خولت عبد الناصر ثانية لإدارة شؤون البلاد ولم تحمل كاهله بعبء يتحمل كل العرب وزره.

وقد يرى الحاكم ضرورة لتعديل بعض من بنود العقد لصالح الأمة، نتيجة اتضاح الرؤية السياسية لما يعاصره من أحداث داخلية ودولية عن كثب، وليس تعديلا لصلاحياته في إدارة الدولة، من هنا جاز ذلك بعد موافقة أغلبية الشعب عليه، غير أن تلك الموافقة لن يكتب لها المصداقية إلا بعد أن يقوم الحاكم أو من يمثله بتوضيح الحاجة لهكذا تغييرات من جهة، وعلى أن توافق الأمة على ذلك بأغلبيتها لا بأغلبية المستفتين – أغلبية من أصل 20 أو 30 % ؟ -.

وكون الدستور عقدا تصوغه الأمة وفقا لقيمها وحاجاتها، فإن ذلك ينفي عنه صفة القدسية التي يوسم بها، بل إن ما طرحته بعض القوى من أن ” الدستور قرآننا “، فهو أبعد ما يكون عن الصحة، إذ لا بد من تعديلات تطرأ على الدستور ليواكب التطورات من جهة، ومن جهة أخرى ليس سوى رؤية يقدمها جيل معين لإدارة شؤونه وفق ثقافة معينة تختلف باختلاف الأجيال. وهو ما ينفي الأطروحة المعاكسة أيضا ” القرآن دستورنا “، فالدستور وكما أسلف آلية للإدارة وليس منهجا عقائديا تربويا، كما أن القدسية التي تحيط بالقرآن الكريم ناجمة عن أنه كلام الله المنزل غير القابل للتعديل، وهو عكس ما ينشد من الدستور، بل يجوز أن تطرح مقولة أخرى بأن: ” القرآن مرجعنا في صياغة الدستور “، وذلك بأن يكون القرآن على سبيل المثال : محددا لهوية الدولة (إسلامية)، ومحددا لنظامها الاقتصادي (الإسلامي غير الربوي)، وأن تكون القيم السائدة في المجتمع والتي ستحدد بنود الدستور قيما مستاقة من القرآن الكريم، لكن يبقى العديد من فقرات الدستور قابلة للتعديل والتأويل كاسم الدولة، وعلمها، وتراتبية المحاكم، ولغتها المعتمدة، والشروط اللازمة لتولي إحدى السلطات.. الخ.

وإن ما يجري في بعض الدول العربية وفقا لمصالح الحاكم ورؤاه، من تعديلات أو تجميد للدستور أو رفض مطالب الأمة في التعديل، ودون موافقة أغلبية حقيقية من الأمة، إنما هو اعتداء على الأمة، وتسفيه لقيمها وحاجاتها، ورهن للأمة ومقدراتها لحساب فئة نخبوية محدودة، ومخالفة لشروط العقد بين الطرفين، وهو ما يجيز للأمة لاحقا فسخ العقد والبحث عن شريك آخر لإدارة شؤون البلاد.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن التجديد العربي

الوسم : فكر سياسي

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق