الدالوة: ومعظم النار من مستصغر الشرر

“المرض الهولندي” هو مصطلح نشرته على المستوى العام مجلة “الإيكونوميست” البريطانية عام 1977، وذلك في وصفها لقطاع التصنيع الهولندي المتراجع نتيجة الاعتماد على الموارد الطبيعية، من نفط وغاز طبيعي، المكتشفة في النصف الأول من القرن العشرين، والتي أدت إلى حالة من التراجع في قطاع الصناعات التحويلية الهولندية، ونوع من الكسل الاقتصادي لدى الهولنديين، الذين صرفتهم الموارد الطبيعية الجديدة ومداخيلها عن العمل الإنتاجي الجاد، اعتمادا على ريع سهل يمكّنهم من استيراد حاجياتهم بشكل أرخص من إنتاجها، فعملتهم الوطنية مرتفعة سعر الصرف. وبالتالي أصبحت قدرتهم التنافسية في الأسواق العالمية منخفضة، وفي مقدورهم بناء على ذلك أن يشتروا ما يحتاجون دون حاجة إلى تصنيعها، أو بأسعار تقل كثيرا عن أسعار منتجاتهم.

من ناحية أخرى، فإن تراجع القطاع الصناعي الهولندي أدى إلى ازدياد معدل البطالة، حيث لم يعد هناك حاجة إلى الكثير من القوة العاملة ولم يعد هناك مجال لخلق فرص عمل أكثر، بالإضافة إلى أن العامل الهولندي وجد أنه من الأجدى والأربح الاعتماد على إعانات وتعويضات سهلة ميسرة، وبالتالي بدأت البطالة تأخذ شكل الظاهرة، كما أن المجتمع اعتاد الكسل وحياة الرفاه ونمو عقلية الاستهلاك دون إنتاج، وهو أمر كاد يطيح بالاقتصاد الهولندي غير الرّيعي، لولا أن تدارك الهولنديون الأمر، وهو أمر تداركته النرويج قبل أن يقع، وهي التي كاد المرض ينتقل إليها بعد اكتشافات النفط في بحر الشمال، ولكن التجربة الهولندية كانت عظة للنرويجيين الذين استفادوا من فرص الثروة الجديدة في برامج رفاه اجتماعي، دون الإضرار بالقطاع المنتج في اقتصادهم.

 حصانة بريطانيا

كان “المرض الهولندي” كما يُسمّى، واحدا من الأسباب الرئيسة مثلا في عدم تحول أسبانيا إلى دولة صناعية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، على عكس عدوّتها اللدود ومعاصرتها في الاستعمار بريطانيا العظمى التي شهدت الثورة الصناعية التي غيرت مصير الإنسان، وذلك لأن الثروات الأسبانية القادمة من مستعمرات العالم الجديد في القارة الأميركية، كانت تجد طريقها إلى قنوات الاستهلاك ورفاه النخب في ظل اقتصاد ريعي بحت، دون أن تسهم في بناء قاعدة إنتاجية صناعية تحويلية أسبانية، على عكس الوضع في بريطانيا العظمى، التي ساعدت ثرواتها على الانتقال من إنتاج المعمل الحرفي اليدوي الصغير، إلى إنتاج المصنع الآلي الكبير، ومن الاقتصاد الحرفي الضيق إلى الاقتصاد الرأسمالي الواسع، ومن ثمة إنجاز الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وهي الثورة التي فتحت الباب لثورات أخرى، والتي لولاها لكان الإنسان لا يزال يعيش وفق ذات الظروف والشروط التي كان يعيش فيها قبل ألف أو حتى ألفي سنة.

أما لماذا لم تُصب بريطانيا بذات المرض، أي النزعة الاستهلاكية المعتمدة على اقتصاد ريعي بحت، وهي الدولة الاستعمارية التي أتتها الموارد من كل حدب وصوب من مستعمراتها المنتشرة حول العالم، وأُصيبت به أسبانيا، فهذه مسألة بحثها الكثيرون وخرجوا بنتائج متعددة لدرجة التضارب أحيانا، فمن قائل أنه بسبب نشوء الظاهرة الرأسمالية في إنكلترا أولا، مثل كارل ماركس (1818-1883)، ومن قائل بأن العامل الديني لعب دورا حاسما هنا، مثل ماكس فيبر (1864-1920)، الذي رأى بأن الأخلاق البروتستانتية كان لها الأثر الأعظم في ظهور الرأسمالية في إنكلترا، ولكن هذا ليس موضوعنا هنا.

ثقافة “الشطارة والنصاحة والفهلوة”

المهم، ذات الظاهرة، أي “المرض الهولندي”، حدثت في عدد من الأقطار حول العالم، وذلك مثل أستراليا وحمّى الذهب في القرن التاسع عشر، أو المكسيك ونيجيريا في الاعتماد على مكتشفات النفط وريعه، وهو الأمر الذي أدى إلى تدمير الصناعات التحويلية إن وجدت، أو تفويت الفرصة لبناء قاعدة إنتاجية غير ريعية إن لم توجد، والأهم من كل ذلك هو استشراء الكسل الاقتصادي، وهيمنة عقلية الاستهلاك دون إنتاج، والاعتماد على الإعانات وإنفاق الدولة دون جهد، مما أدى في النهاية إلى توسع دائرة البطالة والفقر، وتحولت هذه البلدان إلى “أوطان ثرية، ومواطنون فقراء”، وفق تعبير أحد الاقتصاديين، وهنا تكمن الكارثة.

ومن الملاحظ، سياسيا واجتماعيا، أن الاعتماد الكلي على هبة الطبيعية من الثروات الطارئة، سواء كانت نفطا أو غازا أو ذهبا أو مطاطا أو كاكاوا أو قهوة أو غير ذلك، يترافق غالبا مع استشراء ظاهرة الفساد، حيث تقترن الثروة بالسلطة والسلطة بالثروة في توأمية سيامية لا انفكاك لها، بالإضافة إلى سيادة الديكتاتورية السياسية، وهو ما كان جليا في الحالة الليبية على سبيل المثال.

وإذا كانت الدول الأوروبية التي أصابها هذا المرض قد استطاعت أن تتدارك نتائجه الكارثية في النهاية، نتيجة الوعي الجماعي بمخاطره من ناحية، ونتيجة لسيادة المؤسسات في بنيتها السياسية والاجتماعية، ووجود قاعدة صناعية سابقة من ناحية أخرى، فإن الدول التي تفتقد إلى الوعي والمؤسسات والقاعدة الصناعية السابقة، والتي أصابها هذا المرض، وهو ليس مرضا في حالتها بل وباء جاء كإعصار مدمر في نواح كثيرة منه، بدأت تعاني من أمراض أخرى، سياسية واجتماعية، ناتجة عن هذا الوباء، وأنا هنا لا أتحدث عن الفساد والديكتاتورية وعقلية الاستهلاك وثقافة “الشطارة والنصاحة والفهلوة”، أو لنقل ثقافة اللعب بالبيضة والحجر، فهذه أمور بعضها كان جنينيا واستشرى، وبعضها نبت دون سابق إنذار، كما ينبت الفطر والكمأة في صحراء عطشى، بعد رشة مطر غير متوقعة.

العلة الهولندية تصيب دول الخليج

السعودية ودول الخليج، ومعها دول النفط العربية الأخرى، هي أبرز مثل اليوم على “المرض الهولندي” أو العلة الهولندية اليوم، ولو أن الأمر أكبر من المرض والعلة في هذه الحالة كما ذُكر آنفا، فالعلة إنما هي عارض يُصيب الجسد السليم، فإما أن يُعالج ويبرأ الجسد، وإما أن يُهمل فيبقى عليلا ثم يموت الجسد، وقد عُولج المرض في البلاد الأوروبية التي عانت منه وبرأت في النهاية، أما في دول النفط العربية بشكل عام، فالحالة في ظنّي مختلفة كثيرا. فهذه الدول، وخاصة دول الخليج العربية، لم تكن بلادا ذات قاعدة صناعية أو إنتاجية تحويلية قبل أن تأتيها خيرات النفط، بقدر ما كانت مجتمعات بسيطة، واقتصادات تقبع في الدرك الأدنى من التصنيف حين الحديث عن اقتصادات العالم، يعتاش أهلها من مهن حرفية أو خدمية أو رعوية مهمتها الأولى تحقيق اكتفاء ذاتي بسيط، ولا ترقى إلى مستوى الإنتاج الواسع، بل ولم تكن حتى قريبة منه. مثل هذا الوضع لم يكن سلبيا على وجه الإطلاق، فرغم بساطة البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية آنذاك، إلا أن قيم العمل وثقافة الإنتاج والإنفاق وفقا للحاجة، كانت هي السائدة، وإن كان لكل ذلك استثناء يتمثل في مجتمع النخبة الطبقية المرفهة نسبيا، وإن كانت هذه النخبة ضيقة الحدود في مجتمعات هي أضيق حدودا.

وجاء النفط، هبة دون مقابل، ومنحة من الخالق دون منّة، فكانت نعمة من ناحية، ونقمة من نواح أخرى. نعمة نقلت هذه المجتمعات من حال الندرة وكفاف العيش، إلى حال من الوفرة والرفاهية لم يعرفها الخلفاء والملوك والأمراء في التاريخ القديم، فإذا هي اليوم في متناول فرد بسيط كان أبوه أو جده من الساعين إلى لقمة العيش في العراق أو بلاد الشام، أو منتظرا لخير طفيف من السماء غير منتظر.

نعمة النفط ونقمته

لكن كل هذه الوفرة وتلك الطفرة لم تكن مبنية على أساس من إنتاج حقيقي، أو قاعدة من اقتصاد إنتاجي، بقدر ما هي نتيجة اقتصاد ريعي حل محل اقتصاد رعوي، وكلا الريعي والرعوي يعتمدان على عامل خارجي لا علاقة لذات صاحب الريع أو المرعى به، وبالتالي فمصير كل منهما مرتبط بقرار غير قراره، وسواء كنا نتحدث عن تقلبات الطبيعة أو تقلبات الأسواق. ولكن النقمة كانت كامنة في تلك النعمة القادمة مع خيرات النفط وقطرات الذهب الأسود، إذ اندثرت قيم كان من الممكن أن تكون قاعدة سلوكية لمجتمعات واقتصادات أكثر إنتاجية، وأكثر اعتمادا عليها حين تنتهي المنحة وتأتي المحنة، وتذهب خيرات الهبة، فتذهب السكرة وتأتي الفكرة، حين يكون أوان الفكرة قد انتهى مع انتهاء الظرف المناسب لها.

قيمة العمل، وثقافة الاعتماد على النفس، وعقلية “اسعى يا عبد وأنا أسعى معاك”، انتهت مع ثمالة أيام النفط وسيادة عصر الكسل، وأيام “هج اثمك يرزقك الله” (افتح فمك يرزقك الله)، وسادت قيم استهلاك محموم لا يعرف ريّا ولا شبعا، واتكالية لا تعرف حدا ولا حدودا، مغموسة بمفاهيم دينية جُيّرت لصالح قيم اقتصادات الكسل الجديدة، حول التوكل والقضاء والقدر أسيء تفسيرها من أنه “لو جريت جري الوحوش، غير رزقك لن تحوش”، فكان الخواء، رغم الحركة، هو عنوان الحركة.

الكلام في هذا الشأن يطول ويمتد شرحه حقيقة، ولكن المهم في هذه المرحلة التي نعيشها اليوم في شرقنا العربي العليل، أم أقول المحتضر، هو أن هذه الاقتصادات الريعية، وما رافقها من سلوكيات غير إنتاجية، أفرزت في النهاية قيما مشوهة، وذلك حين امتزجت النزعة الاستهلاكية المتصاعدة، مع اعتزاز بالذات غير قائم على أساس من إسهام حضاري أو اقتصادي حقيقي نابع من جهد المجتمع، وكل ذلك مغموس بشعور ديني بالذنب فاقمته “الصحوة” ودعاتها، رغم أنهم في معظمهم من ذوي النزعة الاستهلاكية المترفة المتنامية، وكل ذلك يجري في إطار من صراع مجتمعي على الثروة الطارئة، فكانت واحدة من نتائجه هذه الطائفية التي تهيمن على المشهد العربي في اللحظة الراهنة.

 

الطوائف والصراع على السلطة

صحيح أن الطوائف والملل والنحل كانت دائما حاضرة في المشهد العربي الإسلامي، وكانت المماحكة المذهبية موجودة على الدوام في التاريخ العربي الإسلامي، ولكن الطائفية وصراع الطوائف لا يظهران إلى الوجود إلا حين يكون هناك صراع على ثروة أو سلطة، وبالأخص حين تنهار مؤسسات معينة قائمة، أو تفقد دورها الوظيفي المؤثر، فتترك المجال لصراع الكيانات التقليدية، من طائفة أو قبيلة أو أسر ممتدة أو نحوها من مؤسسات تقليدية، والطائفة اليوم هي المهيمن على المشهد العربي الإسلامي، وذلك منذ أن ارتبطت المذهبية والطائفية المعاصرة بالثورة الإيرانية عام 1979، التي خرجت بمعادلة ذات مزيج سياسي اقتصادي اجتماعي مكون من: الوقوف في وجه الاستكبار العالمي مع الشعور بالمظلومية التاريخية للشيعة واستنفار مستضعفي الأرض من المسلمين وولاية الفقيه، فكانت النتيجة أيديولوجيا سياسية ذات نكهة طائفية لاذعة، قابلها استنفار سياسي وفكري ديني سنّيّ، نتيجة أحداث لا مجال لتفصيلها هنا، هو ما أصطلح على تسميته “بالصحوة”، على اختلاف تياراتها، ومع مرور الوقت، ونتيجة التحريض والتأجيج والتعبئة، والمنافسة السياسية بين مختلف رافعي الراية الإسلاموية، سنّة وشيعة على السواء، بالإضافة إلى مصالح دولية معينة، بقيت الطائفية على السطح فاعلة، فيما غابت الأسباب الحقيقية والجذرية لمثل هذه الطائفية، ولعل في بعض الحديث عن الحالة العراقية توضيح لما نرمي إليه هنا.

قبل قيام الثورة الإيرانية، لم تكن الطائفية عاملا فاعلا في المجتمع العراقي، وهو المجتمع متعدد الطوائف والمذاهب والأديان، بل والذي كان يُضرب به المثل في مدنيته وعلمانيته المتناهية، حتى أنه وقبل قيام إسرائيل، ومن بعد ذلك وصول العسكر إلى السلطة السياسية، كان حتى اليهود العراقيون يتبوؤون مناصب سياسية واقتصادية رفيعة، وكانوا جزءا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي العراقي، في ظل مفهوم “المواطنة” الذي كان لا يفرق بين المنتمين إلى مختلف الطوائف والمذاهب والأديان.

ورغم أن دخول العسكر إلى الميدان السياسي، وصراع الأيديولوجيات في المجتمع العراقي، قد أدى إلى انقسام سياسي وأيديولوجي، إلا أن الطائفية لم تكن يوما ذات أثر على علاقة العراقيين ببعضهم البعض، رغم الصراع الدموي أحيانا بين مختلف التيارات السياسية والأيديولوجية، فتجد بين الشيوعيين العراقيين السنّيّ والشيعي والكردي والمسيحي، وبين البعثيين والقوميين السنّيّ والشيعي والمسيحي، بل وأحيانا من هو من أصول غير عربية، فقد كانت الفكرة القومية قائمة على أساس الانتماء الثقافي العربي، وليس الأصل الجيني أو العرقي.

ثورة الخميني وانقسام العراقيين

مع بداية التأجيج والتحريض الأيديولوجي-الطائفي للثورة الخمينية، بدأ انقسام لم يعهده المجتمع العراقي، وهو الانقسام القائم على أساس الانتماء إلى المذهب، وهو أمر لم يعهده المجتمع العراقي من قبل، بل ولم يكن يخطر على قلب أي عراقي، وهم الممتزجون زواجا ونسبا وعلاقة دون التفكير بالقضية الطائفية، فبدأت تنشأ أحزاب وجماعات سياسية على أسس طائفية ذات ولاء سياسي للولي الفقيه القابع في إيران في معظمها، إن لم تكن كلها، تضرب على وتر المظلومية التاريخية الشيعية، وعلى وتر التفرقة الاقتصادية والسياسية بين السنّة والشيعة، وهو أمر لم يكن واردا في الحياة السياسية العراقية وبين العراقيين، بل كان النقد والمعارضة دائما قائمبن على أسس أيديولوجية علمانية ومدنية، حتى استطاعت تلك الأحزاب والجماعات في النهاية أن تحقق مرادا كان يبدو صعب المنال في مجتمع كالمجتمع العراقي، ألا وهو نشر الطاعون الطائفي الذي خرج من قمقمه بكل جبروته بعد سقوط صدام حسين عام 2003، ومن ثمة المحاباة الأميركية للطائفة الشيعية سياسيا، لغاية في نفس يعقوب قضاها، والنتيجة هي ما نراه في عراق اليوم من توتر وكراهية وصراع طائفي لم يُبق ولم يذر.

لقد كان العراق قبل دخول العسكر إلى الساحة السياسية، بل وحتى بعد دخولهم، مرشحا لأن يكون دولة صناعية كبرى، ربما كوريا جنوبية عربية، أو حتى يابان أو ألمانيا عربية، بل والأهم من كل ذلك، مجتمعا مدنيا تتحدد الحركة فيه وفق مفهوم المواطنة العراقية، ولكن أخطاء العسكر، وخطايا الطائفيين من بعدهم، حوّلت العراق من مجتمع كان يعاني من عوارض برد عارض، إلى مجتمع تتلاعب به جرثومة الطاعون، والحديث عن العراق حقيقة يطول.

طاعون الطائفية

في رواية “الطاعون”، للفرنسي-الجزائري المبدع الراحل “ألبير كامو”، صاحب “معذبو الأرض”، و”الغريب”، و”أسطورة سيزيف”، يصف لنا كامو من خلال حبكة قصصية غاية في الجمال، كيف أن فأرا محتقرا في مدينة “وهران” الجزائرية، استطاع، وهو الكائن الضعيف الذي من الممكن سحقه بكعب القدم، أن ينشر داء الطاعون في كل المدينة، ويقضي في النهاية على معظم سكانها. والطائفية لا يُمكن أن تُقارن إلا بفأر كامو هذا، وجرثومة الطاعون التي تحملها البراغيث التي تعيش في طيات جسده، وينتقل ناشرا مرضه من زاوية إلى زاوية في كل المدينة. بل إن البعوضة من الممكن أن تقضي على جماعات بأسرها وهي تحمل جرثومة الملاريا، وهي الحشرة الضئيلة المحتقرة، وكذلك هي الطائفية حين

يُستهان بأمرها، وتُصبح جزءا من ألفاظ يتلفظ بها البعض دون إدراك لمدى خطورتها، حتى تستشري وتصبح مكونا لثقافة مشوهة مريضة تورد المجتمعات موارد الهلاك، وتجعل من شعوب كانت حية، أمما جرفها طوفان نوح، واقتلعتها ريح عاد وثمود.

أقول هذا الكلام بمناسبة ما حدث في قرية “الدالوة” الأحسائية من جريمة راح ضحيتها مواطنون أبرياء، وقُتل في سبيل ملاحقة جناتها مواطنون أنقياء. لا يهم في هذه المرحلة تحليل الحادثة، من حيث طبيعة من قام بها، وأهدافهم، ودوافعهم، والبيئة الفكرية التي نشأوا أو أُنشئوا فيها، فكل ذلك مهم بالفعل، ولكن الأهم هو أن لا تكون مثل هذه الحادثة مقدمة لما يُمكن أن أسميه “اللعنة العراقية”، التي لا تقل تدميرا وهلاكا عن “جرثومة كامو”.

لماذا الأحساء

اختيار الأحساء، تلك الواحة التي عُرف عنها منذ القدم التعايش السلمي، والتداخل الاجتماعي بين سنّتها وشيعتها، لم تُختر لتنفيذ تلك الجريمة فيها إلا لغرض واضح وصريح، ألا وهو تفجير الوضع الطائفي المحتقن في السعودية، وهي الجائزة الكبرى لكل من أراد السيطرة على المنطقة كما ذُكر في مقالات سابقة، وهو الوضع الذي اشترك الكثير منا في التهيئة له، من شيوخ لم يكن همهم إلا التحذير من “الرافضة” واليهود وأهل الصليب، ومؤامراتهم على الإسلام والمسلمين، وكأن الشيعة ليسوا من المسلمين، وكأن المسلمين يحتاجون لمن يتآمر عليهم في ظل أوضاعهم المتردية هذه، ولا أُريد أن أقول المزرية، رغم أنها بالفعل مزرية، وكُتّاب جعلوا همهم إثارة التفرقة المذهبية، والقول بالصدقيّة المطلقة للمذهب الواحد والتفسير الأوحد، وشباب، سنّة وشيعة على السواء، أنشئوا على الحقد والكراهية، رغم أنه يُفترض فيهم أن يكونوا عماد المستقبل، يتنابزون بالألقاب الطائفية، وكأنهم يلوكون نوعا من علكة جديدة، رغم أنهم يتعاطون أشد أنواع المخدرات خطرا، وهي الطائفية والقبلية والعصبية التي تنخر في الجسد العام كنخر السوس في سن ملتهب، وأئمة مساجد يرون الفتنة مستيقظة فيوقظونها أكثر، سواء بإثارة النعرة الطائفية، أو بوسائل أخرى مدمرة للفرد والمجتمع والكيان الذي دونه نحن من الضائعين. وبذلك نكون نحن من يتآمر على أنفسنا في النهاية قبل أن يتآمر علينا الآخرون.

وفي الخاتمة نحن من سيضرب الكف بالكف حين نصبح من الخاسرين، ونقول كما يقول المصري البسيط: “يا ريت اللي جرى ما كان”، أو ما قاله الحكيم العربي في الأزمان الغابرة: “على نفسها جنت براقش”.

لقد كان الطاعون الأسود الذي قضى على نصف سكان أوروبا في القرن الرابع عشر، بسبب فئران تسللت إلى سفينة كانت قادمة إلى الموانئ الإيطالية وفق بعض الروايات، وكان حريق شيكاغو الكبير عام 1871 نتيجة رفس بقرة لفانوس صغير في حظيرة صغيرة، ولم تلبث النار أن التهمت الحظيرة، ومن ثمة معظم شيكاغو، وقد قيل في أمثال العرب أن معظم النار من مستصغر الشرر.

حادثة “الدالوة”

حادثة قرية “الدالوة” السعودية يجب ألاّ يُستهان بها، ولا أن تُعامل على أنها مجرد حادثة جنائية كأي حادثة جنائية أخرى، تنتهي بمجرد انتهاء القبض على مرتكبيها ومعاقبتهم، بل يجب أن تُعامل على أنها كانت تمهيدا لما هو أكبر: تفجير الوضع الطائفي ليتحول إلى صراع طائفي لا يُبقي ولا يذر، كمقدمة لنشر الفوضى وحالة “التوحش”، وبالتالي إعداد المسرح للغاية الأساسية ألا وهي نيل الجائزة الكبرى، أي الوطن وما احتوى. قد لا يكون مرتكبو هذه الحادثة من الواعين بمثل هذه الغايات “المضنون بها على غير أهلها”، بل وقد يكونوا من السذج والمغسولة أدمغتهم، وكذلك البقية من أصحاب الشحن الطائفي، من أفراد وجماعات ومؤسسات، ولكن ذلك لا يمنع كونهم أدوات بيد أصحاب الغايات الخفية الذين لا يهمّ اليوم معرفة من هم، بقدر ما أن المهم هو الوعي الوطني العام بأن وراء الأكمة ما وراءها، وأن مصير وطن بأسره على المحك، فهل نكون على قدر المسؤولية؟ هذا هو السؤال..

نعم هذا هو السؤال، ووفق إجابته يتحدد في أن نكون أو لا نكون، فإن كنا لا نستطيع معالجة العلة الهولندية بنجاح حتى الآن، فأقله أن نتقي اللعنة العراقية طالما كان ذلك بالمستطاع، وقبل أن يفوت الفوت، حيث لا ينفع حينها الصوت.. هذا، ويبقى الأمر في النهاية لصاحب الأمر.

تركي الحمد

نقلا عن العرب اللندنية

 

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق