الحرس الثوري الإيراني ودوره في رسم السياسات الإيرانية العامة-2

استكمالاً للجزء الأول لمادتنا (الحرس الثوري الإيراني ودوره في رسم السياسات الإيرانية العامة)، نحاول في هذا الجزء تبيان حجم النشاط الاقتصادي والنشاط العسكري وكذلك النشاط السياسي للحرس الثوري، وتأثيره المباشر في رسم السياسات الإيرانية العامة داخلياً وخارجياً.

 

النشاط الاقتصادي للحرس الثوري:

بما أن الاقتصاد يُعتَبر المحرك الأساسي للعمل السياسي، والعكس صحيح، أدرك قادة الحرس الثوري الراغبين في ممارسة معترك السياسة، أنّ المنفذ الوحيد للدخول إلى الحياة السياسية الإيرانية، هو الإمساك بمقدرات البلاد، عدا عن أنّ هذه الرؤية من شأنها أن تؤمِّن مستقبل النظام واستمراريته في آن واحد.

ويعود النشاط الاقتصادي للحرس الثوري، للمرحلة التي عرفت بـ “مرحلة البناء”، والتي قادها الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، وذلك عندما قرّر خصخصة جانب من الاقتصاد الإيراني، إلا أنّه فشل بسبب معارضة الحرس الثوري لسياساته الاقتصادية. كما مهّدت هذه المرحلة للحرس الثوري أن يدخل بقوة في مفاصل الحياة الاقتصادية، وعلى كافة المستويات: الزراعية، والصناعية، والمعادن، والمواصلات، وتعبيد الطرق، وكذلك عمليات الاستيراد والتصدير.

وتفيد التقارير، أنّ الحرس الثوري يمتلك المئات من الشركات العملاقة ومنها: شركات تعاونية، شركات مقاولات، شركات تجارية، شركات صناعية، وغيرها من الشركات الأخرى. كما تعمل هذه الشركات في كافة المجالات التجارية القانونية منها وغير القانونية في نفس الوقت.

شركات الحرس الثوري:

من أهم الشركات التي تعود ملكيتها كاملة للحرس الثوري، هي:

شركة خاتم الأنبياء، وهي أضخم الشركات التابعة للحرس الثوري، وكان رئيسها محمد على جعفري، رئيس الحرس الثوري الحالي، وتُعتَبر هذه الشركة من أهمّ الشركات في الشرق الأوسط. وتضمّ مجموعة شركات كبيرة وصغيرة، ولها اختصاصات كثيرة في كافة المجالات الاقتصادية، ويتجاوز عدد موظفيها 45000 شخص بين مهندس وموظف، وكذلك أكثر من 5000 مقاول وأكثر من 150000، يعملون بشكل غير مباشر (محمد رضا يزدي، المستشار القانوني للحرس الثوري، ايسنا، 21/1/2013). إلا أن الرئيس السابق لمجموعة خاتم الأنبياء، اللواء عباد الله عبداللهي، وفي معرض حديثه لوكالة صراط للأخبار بتاريخ 11 أكتوبر 2014، قال: “إنّ أكثر من 5000 شركة خاصة للمقاولات تعمل في إطار مجموعة خاتم الأنبياء”، إلا أنّه أضاف، “إنّ مجموع موظفي مجموعة خاتم الأنبياء بلغ 135 ألف موظف، منهم 2560 من قادة الحرس الثوري”.

ويقول الجنرال رستم قاسمي، وهو من أهمّ القادة في الحرس الثوري، والمستشار الأول للرئيس حسن روحاني، والمستشار الأعلى لوزير الدفاع الإيراني: “تسعى مؤسسة خاتم الأنبياء، لأن يكون لها حضور فعّال في المشاريع الواقعة في المناطق الحدودية والمناطق صعبة المرور والمحرومة، والتي يتعذَّر وجود الشركات الخاصة هناك”. إلا أنّ اللافت في الأمر أنّ الحرس الثوري أراد من خلال هذا التوجّه أن يضرب عصفورين بحجرة واحدة.

أولاً: السيطرة على الحدود والمداخل للأراضي الإيرانية.

ثانياً: كسب ود الشعوب المقهورة في جغرافية إيران السياسية والتي تحيط المركز الفارسي من الجهات الأربعة.

وتُقدَّر المشاريع التي أتمّتها مجموعة خاتم الأنبياء، حسب تصريح سابق لمعاون إعادة البناء في الحرس الثوري، عبد الرضا عابد زادة، حيث قال: “إنّه منذ عام 1990 إلى اليوم هذا، بلغ عدد المشاريع 1220 مشروعاً منجزاً، و247 مشروعاً قيد الإنشاء. وفي مجال صناعة النفط، قدّمت استشارات فنية بلغت 150 مشروعاً منجزاً، و21 مشروعاً يتم العمل به”. إلا أنّ آخر الإحصائيات لشركة خاتم الأنبياء على موقعها الرسمي، تفيد بأنّ المشاريع التي أتمّتها مجموعة خاتم الأنبياء، تجاوزت 1800 مشروعاً.

وتُقدّر حجم العقود لمجموعة خاتم الأنبياء، بـعشرات مليارات الدولارات. وفي تقرير ملفت لوكالة فارس للأخبار التابعة للحرس الثوري (22/11/2012)، واستناداً لتصريح قائد الحرس الثوري، محمد علي جعفري، في إبريل 2011، يقول: “إنّ مجموعة خاتم الأنبياء منذ بداية العقد الحالي، لن تعمل بعد الآن بعقود تقلّ تكلفتها عن 100 مليون دولار”.

ومن الشركات المهمة والتابعة كلياً لمجموعة خاتم الأنبياء، ما يلي:

المؤسسات التعاونية للحرس الثوريتشكّلت هذه المؤسّسات عام 1988، وتُعتَبر من أهمّ المؤسسات الإيرانية، ولها نشاطات اقتصادية وتجارية ومالية ضخمة، ومن أهم الشركات التابعة لها هي:

  • شركة أفق صابرين للإنشاء والإعمار (شركت مهندسى افق صابرين).
  • مؤسسة أنصار المالية والاعتبارية (موسسه مالى اعتبارى انصار).
  • مؤسسة موج نصر جستر (موسسه موج نصر گستر .(gostar)
  • مؤسسة نور للاستشارات القانونية والاقتصادية (موسسه نور).
  • مؤسسة سما للإنشاء والإعمار (موسسه سما)
  • مؤسسة كوثران، تُعتَبر هذه المؤسسة من أهم مؤسسات الحرس الثوري، وتختصّ بالكهربائيات والتكنولوجيا الحديثة، ولها فروع كثيرة ومتنوعة في النشاط الاقتصادي والتجاري والثقافي أيضاً، وذلك من أجل التمويه، وخاصة الواردات من المعدات الحساسة في الصناعات الأساسية في الاقتصاد الإيراني، ومنها الصناعات العسكرية الحساسة جداً والممنوعة. كما ترتكز هذه المؤسسة على السياسات الاستراتيجية والتوجيه والتخطيط للمشاريع الكبيرة والصغيرة في الدولة.

كما تمتلك هذه المؤسسات حصصاً في الشركات العملاقة الأخرى، وتصل نسبتها إلى 45% من أسهم مجموعة بهمن، و4% من أسهم شركة “سايپا” الحكومية العملاقة في صناعة السيارات، و25% من أسهم شركة بتروكيمياويات كرمانشاه، وغيرها من الشركات الأخرى في البلاد. وهنالك أنباء تفيد بأنّ الحرس الثوري قد استحوذ بالكامل على ملكية هذه الشركات.

وللحرس الثوري أيضاً، نشاطات اقتصادية هامة وحيوية أخرى، ومن أهمها:

  • المطارات التابعة للحرس الثوري، ومن أهمها: “مطار بيام”، و”مطار آية الله خميني”، وغيرها من المطارات الأخرى.
  • شركات الطيران، ومن أهمها: “شركة هما”، و”شركة زاجروس”، و “شركة ياس اير” وغيرها من الشركات الأخرى.
  • المراسي والأرصفة التابعة للحرس في الأحواز: وعددها أكثر من 60 رصيفاً ومرسى، حسب تصريح مهدي كروبي، في المجلس لدورته السادسة، والذي يقبع في منزله منذ عام 2009 تحت الإقامة الجبرية، والتي عُرِفت بالموانئ غير المرئية في الصحافة الإيرانية، وحسب تصريح لقمانيان المندوب الإيراني في المجلس السادس، تُقدِّم هذه الموانئ أكثر من 68% من صادرات إيران التجارية.
  • الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب: وفي هذا المجال يمتلك الحرس الثوري قدرات هائلة لا يستهان بها أبداً، وتُقدّر القنوات الفضائية بالعشرات، ناهيك عن الصحافة الورقية والإنترنت ومحطات الإذاعة. إذ يُقدّر عدد الفضائيات التابعة للحرس الثوري تقريباً بـ 40 فضائية ناطقة باللغة العربية وحدها. إلا أنّ مجمل المؤسسات الإعلامية، بكافة أصنافها المكتوبة والمرئية والمسموعة وبلغات مختلفة، تجاوزت 213 مؤسسة إعلامية، منتشرة في كافة أنحاء العالم.

ومن خلال هذه المكانة الاقتصادية التي حولت مؤسسة الحرس الثوري إلى محرك أساسي في إيران ومنطقة الشرق الأوسط، بل إلى مافيا اقتصادية حقيقية، تؤثِّر في اقتصادات الدول سلباً وإيجاباً. إذ تشير الإحصائيات إلى أنّ الحرس الثوري يسيطر على 70% من إجمالي الاقتصاد الإيراني. كما أكّدت مصادر مطّلعة، أنّ الحرس الثوري دخل وبقوة في مجال الرياضة في إيران، ويملك حالياً عدّة أندية عملاقة ومؤثرة في الشارع الإيراني ذات جماهيرية عالية. ومنها: نادي بيروزي -أي پرسپولیس- طهران العاصمة، وكذلك نادي تراكتور تبريز في أذربيجان الجنوبية، كما أنّ هنالك أخباراً غير مؤكدة عن امتلاكه لنادي استقلال العاصمي ذي الجماهير الغفيرة.

القدرات العسكرية للحرس الثوري:

تعتبر أهمّ المرتكزات الأساسية للحرس الثوري، إذ تفيد الدراسات أنّ المسعى الإيراني لامتلاك ترسانة صاروخية تعود لثلاث فترات زمنية مختلفة كلياً. وعليه، يمكن تقسيمها على النحو التالي:

تعود الفترة الأولى، إلى مرحلة ما قبل الثورة الإيرانية، وتحديداً بين الأعوام 1977-1979. وتعود الفترة الثانية، إلى فترة الحرب الإيرانية-العراقية في الأعوام 1980-1988. وأما الفترة الثالثة وهي الأهم، فتعود للحاجة الإيرانية لبناء قدرات صاروخية تشكل “القدرة الرادعة” في المنظور العسكري. ودفعت هذه الحاجة بالحرس الثوري إلى أن يسخّر نفوذه في الدولة، من أجل جذب المختصين العسكريين، وقَصَد في هذا المسعى كلاً من: كوريا الشمالية والصين وروسيا.

ونشهد في الوقت الحالي، أنّ الترسانة الصاروخية الإيرانية المخبأة في أنفاق في الجبال، تتنوّع من حيث الكم والنوع. إلا أنّها في غالبها تطوير لأنواع محدّدة من الصواريخ الكورية الشمالية والصينية والروسية الصنع.

إضافة إلى محاولات تطوير أنواع أخرى ما تزال قيد التجارب، إلا أنّ إيران قد فشلت في عدة اختبارات صاروخية، محدِثَةً خسائر بشرية مهولة، لحقت بكبار القادة المشرفين على المشروع. ومنها الانفجار الذي وقع بتاريخ 12/11/2011، بالقرب من العاصمة طهران، تحت الجبال، في منطقة “بيدگنه”، والذي شبّهه خبراء عسكريين بالزلزال الذي ضرب محافظتي طهران ومركزي، وقد قُتِل على إثره مؤسِّس البرنامج الصاروخي الإيراني، الجنرال حسن طهراني مقدم، وعدد آخر من قادة ومنتسبي الحرس الثوري.

وفي هذا الإطار، تفيد الدراسات، أنّ عدد الخبراء الروس العاملين في مجال الطاقة النووية والتصنيع العسكرية، بلغ 30 ألف شخص، بين خبير ومهندس وكذلك علماء نوويين، ناهيك عن الخبراء من كوريا الشمالية والصين بطبيعة الحال.

وعليه يمكن رصد أهمّ الصواريخ الإيرانية وفق ما يلي:

  • منظومة صواريخ شهاب:
  • صاروخ شهاب 1: وهو يستند إلى صاروخ (Scud-B) “منظومة سكود سوفييتية الصنع”، وهو صاروخ قصير المدى، ويبلغ مداه 300 كم. وتمّ تسليمه لإيران من سورية وليبيا أثناء حرب الثمان سنوات مع العراق (1980-1988).
  • صاروخ شهاب 2: وهو يستند إلى صاروخ (Scud-C)، صاروخ قصير المدى، ويبلغ مداه 500 كم، وهو قادر على الوصول إلى دول الجوار. وصنع هذا الصاروخ عام 1990 بمساعدة خبراء من كوريا الشمالية. وتفيد الدراسات أن الحرس الثوري يمتلك نحو 300 صاروخاً من كلا النوعين شهاب 1 وشهاب 2.
  • صاروخ شهاب 3: ويستند إلى صاروخ (Nodong) الكوري الشمالي، ويلغ مداه ما بين 1150 و2000 كم، وزنة رأسه الحربي 1000 كغ، ويعتبر من الصواريخ الباليستية الإيرانية.
  • كما يدعي الحرس الثوري أنه صنع شهاب 4 و5 و6. ويقول أيضاً، إن هذه الصواريخ من ضمن ترسانة الصواريخ الباليستية الإيرانية الحديثة. إلا أن بعض التسريبات تفيد بأن صاروخ شهاب 6 صُنِع بمساعدة الروس وخبراء من كوريا الشمالية، وهو نسخة عن الصاروخ الكوري تائبودونغ 2 (ان­كااس­ال-ايكس2)، ويصل مداه حسب المصادر الإيرانية إلى 5500 كم (وقد تكون هذه المعلومة مسربة من قبل المخابرات الإيرانية لأهداف معينة).
  • كما طور الحرس الثوري من صاروخ شهاب منظومة صواريخ أخرى، ومنها ما سُمِّي بـ (قدر-1)، وبدأت اختبارات إطلاقه منذ عام 2004، ويُوصف بأنّه صاروخ متوسط المدى، حيث يبلغ مداه “النظري” 1600 كم، بزنة رأس حربي أقل تبلغ 750 كغ. فيما تدّعي وكالة مهر الإيرانية للأنباء أن صاروخ (قدر-1) مطوّر من الصاروخ الصيني (M-18)، وبمدى يبلغ 2500-3000 كم، وأنه غير قابل للرصد بواسطة الرادارات، على غرار الصاروخ الباكستاني (شاهين).

 

  • منظومة صواريخ سجيل: وهي صواريخ باليستية متوسطة المدى، من النوع الذي يستخدم الوقود الصلب، وهي أقلّ عرضة للكشف من سابقاتها، حيث إنّ إطلاقها يحتاج إلى بضعة أشخاص وبضعة دقائق، عوضاً عن عدّة ساعات. وهي الدولة الوحيدة التي تمتلك هذا النوع بدون رؤوس نووية. وتشمل عائلة صواريخ (سجيل): صاروخ (سجيل 2)، وهو صاروخ أرض-أرض متوسط المدى، بطول 19 متراً، ويبلغ مداه 2000 -2500 كم، وبزنة رأس حربي 750 كغ، كما يصل الوزن الإجمالي لهذا الصاروخ إلى 2600 كغ، وتم إطلاقه بشكل “اختباري” في 12/11/2008، فيما بدأت تجارب تطويره منذ عام 2009.

 

  • منظومة صاروخ سومار (كروز)وهو صاروخ أرض-أرض بالستي بعيد المدى، ويبلغ مداه 1000–1500 كم، وهو من النوع الذي يستخدم الوقود الصلب. وسُمِّي بهذا الاسم (حسب المصادر الإيرانية)، كون تصنيعه تم في مدينة “سومار” من توابع محافظة كرمانشاه، معقل بعض أهم القادة في الحرس الثوري. وتم الكشف عن هذا الصاروخ بتاريخ 8/3/2015. إلا أن المعطيات الموجودة عن هذا الصاروخ تفيد بأنه صاروخ روسي من نوع كروز Kh-55، وحصلت إيران على 12 صاروخاً منه عام 2001 من أوكرانيا وبمبلغ قدره 49.5 مليون دولار، وأرسلته لكوريا الشمالية لتطويره، لتعلن طهران فيما بعد أنه صُنِع في إيران، وسُمِّي بـ “صاروخ سومار”.

 

  • منظومة صواريخ عاشورا: وهو صاروخ بالستي أرض-أرض متوسط المدى، حيث يبلغ مداه 2000 كم. وبناءً على المصادر الإيرانية، فإن تجربة صاروخ عاشورا تمت في 27/11/2008، وتؤكِّد بعض المصادر الإيرانية على أن صاروخ عاشورا هو نسخة عن صاروخ “شاهين” الباكستاني.
  • منظومة صواريخ عماد: هو صاروخ بالستي أرض-أرض بعيد المدى، ويعمل بالوقود السائل، وبزنة رأس حربي تبلغ 750 كغ. وأُعلِن عنه للمرة الأولى بتاريخ 11/10/2015. وتعتبر طهران هذا الصاروخ سلاحاً استراتيجياً لها، كما رفضت طهران كافة الإدانات الأممية بسبب تجربة هذا الصاروخ والإعلان عنه.

وللاطلاع على المزيد من القدرات التسليحية الإيرانية يمكن الرجوع إلى البحثين التاليين:

التفوق الاستراتيجي الخليجي في مواجهة بروباغاندا الصواريخ الإيرانية (1و2)

 

المرحلة السياسية للحرس الثوري ودوره في رسم السياسات العامة للدولة:

نستشف أهمية هذه المرحلة للحرس الثوري، عندما نتمعن قليلاً فيما قاله المرشد، علي خامنئي، في 17/9/2013: “إنّ الحرس الثوري قام بإعداد أفضل المدراء لتستفيد منهم الأجهزة الحكومية”.

وفعلاً أتت مرحلة البدء في الدخول للحياة السياسية، وبشكل دقيق، بعد انتهاء الحرب الإيرانية – العراقية عام 1988. وذلك عندما طُرِحت داخل أجهزة صنع القرار السياسي والأمني الإيراني، خطة لتأمين الحدود الجنوبية المحاذية للعراق. حيث كانت القيادة العراقية في تلك الفترة تعتقد أنّ الأحواز أرض عراقية، ولابد أن ترجع يوماً ما إلى العراق. هذا التوجّه العراقي تجاه منطقة الأحواز العربية، شكّل لقادة الفرس في طهران إشكالية أمنية وسياسية حقيقية، تحتاج إلى حلول لسنوات أو حتى عقود، إذا صحّ التعبير. ومن هنا، جاءت فكرة إنشاء سدود ضخمة على تخوم الأحواز وحدودها مع بلاد فارس، وعلى مصب الأنهار وروافدها، ومنها: كارون والكرخة والدز وجراجي.

وتفيد الدراسات، بأنّ هذه الخطة في حال تم تنفيذها -أي السدود الضخمة الواقعة حالياً على مرتفعات الأحواز-، والتي تُعرَف بـ “سلسلة جبال البختيارية -زاغروس، والتي تفصل الأراضي الفارسية (الهضبة الفارسية الحالية) عن الأراضي العربية الأحوازية، وبطول أكثر من 500 كم، وبارتفاع 4409 م، (أعلى قمم هذه السلسلة يبلغ ارتفاع 5098 م، وبطول 1500 كم). في حينها، فإنه لا يمكن لأية دولة، ومنها العراق، الهجوم على إيران -أي شمال الأحواز-، وبمجرد أن تُفتَح هذه السدود، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى غرق أراض شاسعة من الأحواز وجنوب العراق بالكامل، وهو ما سيعيق تقدم أية قوات على الأرض. ومن ذلك، تجربة فتح مياه نهر الحميدية، في الأيام الأولى من حرب الثمان سنوات، وتمّ من خلالها إغراق المنطقة، وإيقاف تقدم الجيش العراقي، ومنع دخوله العاصمة الأحواز. فيما لو تسنى آنذاك دخول الجيش العراقي لهذه المدينة، فلربما كان الوضع مختلفاً عمّا نحن عليه حالياً، أو في أقل تقدير، لاختلفت مجريات الحرب ونتائجها. وبالطبع، فلهذه الخطّة مضاعفات أمنية وبيئية خطيرة جداً على إقليم الأحواز خصوصاً والمنطقة العربية عموماً، وما نشاهده اليوم من تلوّث بيئي عم الإقليم برمته ما هو إلا نتيجة حتمية ومتوقعة، وذلك من خلال التجفيف المبرمج للأنهار والأهوار في الأحواز، من قبل السلطات في طهران بغية تهجير العرب من موطنهم الأصلي.

مهّدت هذه الخطة الفارسية التدميرية، للحرس الثوري، أن يدخل النشاط الاقتصادي بقوة وبفعالية، كما أنّ قادة الحرس الثوري دعموا مسعاهم هذا بالمادة الدستورية 147 من الدستور الإيراني، حيث تنصّ هذه المادة الدستورية على التالي: “يجب على الحكومة في زمن السلم أن تستفيد من أفراد الجيش وتجهيزاته الفنية في أعمال الإغاثة والتعليم والإنتاج، وجهاد البناء …”. وعليه، فعلاً جنى قادة الحرس الثوري الكثير من الأموال من خلال بناء السدود في الأحواز، وأسّسوا في ما بعد مؤسسات اقتصادية عملاقة تحدثنا عنها بإيجاز في المحور الاقتصادي.

وعلى إثر هذا الواقع الجديد، أدرك قادة الحرس الثوري أنّه لابد من المحافظة على هذه المكتسبات الاقتصادية المهمة ودخول المعترك السياسي، وهي ضرورة لابدّ منها. وعليه، وقام خلاف شديد بين قادة الحرس الثوري من جهة، وهاشمي رفسنجاني وحزبه “حزب البناء (كارگزاران سازندگی)، تمحور حول رغبة قادة الحرس الثوري في دخول الحياة السياسية، وعلى رأسهم محسن رضائي رئيس الحرس الثوري سابقاً، وسكرتير رفسنجاني في مجلس تشخيص مصلحة النظام حالياً والمتعطش لمنصب رئاسة الجمهورية منذ عقدين من الزمن، إذ خشي رفسنجاني وبعض رجالات المؤسسة الدينية من هذه الرغبة، ورغبوا في أن يبقى الحرس الثوري والعسكر بعيداً عن السياسة، حتى لا يشكِّلوا في المستقبل خطراً حقيقياً على نظام الجمهورية الإسلامية (نظام الملالي)، ما قد يؤدّي إلى عزوف الشارع عن النظام.

إلا أنّ هذا الخلاف، وإصرار الحرس الثوري على المضي في تحقيق أهدافه المعلنة والمخفية، أدّى إلى ظهور بعض التكتلات الدينية والاقتصادية والسياسية. ومن هنا التقت المصالح بين الحرس الثوري من جهة والمرشد علي خامنئي الذي كان يسعى لبسط نفوذه على البلاد، وهو من أشرف على عمل الحرس الثوري، بناءً على طلب روح الله خميني بادئ الأمر، وذلك منذ الأيام الأولى لتأسيس الحرس الثوري، والذي تربطه علاقات حسنة جداً مع قادته الحاليين.

وعليه تحوّل الحرس الثوري شيئاً فشيئاً، إلى قوة اقتصادية وسياسية عملاقة لا يستهان بها أبداً، كما بدأ بالتحوّل إلى تنظيم عُرِف في الشارع السياسي الإيراني بـ “حزب پادگانی” -أي الحزب العسكري-، ساعياً إلى أن يتماشى مع حالة الحداثة في مفهومها لتنظيم الدولة اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، حيث وصفه البعض أنّه دولة داخل دولة. وذلك لأن الحرس الثوري حالياً يضمّ في طياته تيارات وقوى اقتصادية ودينية وسياسية مؤثرة جداً في الشارع الإيراني، وتستطيع تحديد رغبات المجتمع وتوجيه، خاصة إذا ما أخذنا التوجّه العام للشخصية الشيعية، وتبعيتها الفكرية لما يُعرف في المفهوم الشيعي الإيراني بـ “مراجع التقليد”، والتي تؤثِّر بشكل مباشر في رغبات المجتمع الشيعي وتفضيلاته. إلا أنّ الامتيازات الاقتصادية المهمة التي حصل عليها الحرس الثوري عبّدت الطريق أمامه ليتحول فعلاً إلى عملاق اقتصادي.

وبالتالي، وكما هو معروف للجميع، يُعتَبر رأس المال هو المحرك الأساسي للسياسة ورجالاتها، ومن أبرز هذه الامتيازات الاقتصادية، هي:

  • سهولة الوصول إلى رأس المال الضخم والعملة الصعبة من البنوك العامة والحكومية.
  • الإعفاء من المحاسبة والمراقبة والتدقيق الحكومي، خاصة الإعفاء الضريبي.
  • الإعفاء الجمركي.

وقد مكّنت هذه المعطيات الحرس الثوري من بناء الدولة، اقتصادياً وسياسياً، بالطريقة التي تحلو له، وذلك من خلال أدلجة الدولة، والتحكّم بمفاصل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ومن أهمّ النتائج التي حصل عليها الحرس الثوري، هي استحواذه على كافّة المؤسسات الحكومية وإدارتها بواسطة القادة الذين تمّ تأهيلهم لهذا الغرض، ومنهم المحافظ والسفير والوزير ورئيس الجمهورية، ناهيك عن أنّ أغلبية المدراء والرؤساء في البلديات والمؤسسات الحكومية هم من الحرس الثوري وقادته الأوائل.

وبالتالي، بما أنّ السياسة الخارجية هي نتاج للسياسات الداخلية للدول، نرى وبوضوح أنّ الحرس الثوري ومؤسساته المتنوعة الأمنية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تهدف إلى تحقيق أمرين هامين لا ثالث لهما، هما:

أولاً: حفظ النظام الشيعي في طهران واستمراريته في المنطقة.

وثانياً، تصدير مفاهيم الثورة الخمينية الفارسية الطائفية لمنطقتنا العربية من المحيط إلى الخليج العربي.

 

جمال عبيدي

 نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق