الثنائي الأمريكي-الروسي لا يملك جميع الأوراق في سورية والمنطقة

التطورات الميدانية الحاصلة في حلب تبين بشكل قاطع أن الحل العسكري في سوريا الذي يراود النظام ومن يدعمه من إيران وحزب الله استنادا لما كانت قواته قد أنجزته عندما تمكنت من حصار مدينة حلب بالكامل في 17 يوليو 2016 لا أساس متينا له وأن ما يربحه النظام يمكن أن يخسره غدا.

تطرح معركة حلب مسألة مصير التفاهمات الأميركية – الروسية التي توصل إليها الوزير كيري ونظيره الروسي لافروف خلال اجتماعاتهما المطولة في موسكو يومي 14 و15 يوليو 2016، وتنص تلك التفاهمات على إيجاد غرفة عمليات مشتركة في عمان تكون مهمتهما تحديد بنك أهداف موحد لضرب تنظيمي داعش والنصرة في عمليات مشتركة، مقابل تلافي الطيران الروسي استهداف مواقع المعارضة المسلحة السورية المعتدلة، أي أن روسيا حاولت نصب فخ للدور الأمريكي، لكن أمريكا مترددة الاشتراك في مثل تلك التفاهمات وإن أثبتت ضعفا أمام موسكو لكنها تخفي خبثا.

لكن المعارضة حسمت تلك التفاهمات بفك الحصار عن حلب بقيادة فتح الشام الاسم الجديد لجبهة النصرة بعد فك ارتباطها بالقاعدة إلى جانب أحرار الشام والتنظيمات الأخرى التابعة للجيش السوري الحر، وهي التي جعلت مطالب روسيا من أمريكا بفصل مواقع المعارضة المعتدلة عن مواقع النصرة أمرا صعب المنال بالنظر للتداخل الكبير بين المواقع العسكرية للأطراف المعارضة.

من جهة أخرى أن تطورات حلب التي هي الأكبر منذ بدء الحرب في سوريا عام 2011 التي شهدت انهيار الجيش وهروب الإيرانيين والأفغان، ولكن سقوط نظام الأسد سيعزل إيران ويضعف حزب الله وستخسر روسيا تواجدها وقربها من المياه الدافئة في البحر المتوسط.

لذلك الوضع في سوريا مصيري لكافة الجهات، وتبين بوضوح أن الثنائي الأمريكي- الروسي رغم قدراتهما على التأثير على مسار الوضع في سوريا إلا أنهما لا يمتلكان جميع الأوراق، بل إن الأطراف الأخرى الإقليمية السعودية وتركيا قادرة هي الأخرى على التدخل والتأثير على مجرياته، ما يعني أن تفاهمات واشنطن – موسكو ليست كافية دون الطرفين السعودي والتركي باعتبارهما طرفين فاعلين بدلا من تركيز التفاهمات الروسية الأميركية على داعش وإخوانه لا غير.

السعودية وتركيا لن تشاطرا روسيا الرؤية حيث لن تقبلا بوجود الأسد في أي معادلة للحل لكنهما يتبادلان الأفكار مع روسيا، كما أن التقارب التركي الروسي رغم أنه يوتر العلاقات مع الحلف الأطلسي وخصوصا مع الولايات المتحدة خصوصا بعدما وجه أردوغان للغرب بأنهم يدعمون الإرهاب والانقلابيين، لكنه يقود إلى مراجعة الولايات المتحدة كثير من خططها وأجندتها ليس فقط تجاه سوريا بل تجاه المنطقة بأكملها.

جاء التقارب التركي الروسي عقب أزمة دبلوماسية بين أنقرة من جهة وبروكسل وواشنطن من جهة أخرى على خلفية موقفي الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي من الاجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية بعد محاولة الانقلاب الفاشل حيث تعتبر أنقرة أن المخاوف هي مبالغ فيها بينما لم تكترث الولايات المتحدة والغرب بمحاولة الانقلاب نفسها.

وسوريا من الملفات الكبرى التي لا تتفق عليها أنقرة مع موسكو. إذ تدعم روسيا عسكريا الرئيس بشار الأسد الذي تطالب أنقره بتنحيه الذي يذبح مئات آلاف السوريين ينبغي ألا يقود البلاد، لكن تركيا ترى لا تستطيع تجاهل الحوار مع روسيا لمجرد أنهم لا يتفقون مع روسيا في شأن الأسد، حتى لا تتكرر أزمة إسقاط سلاح الجو التركي في نهاية 2015 طائرة روسية فوق الحدود التركية – السورية.

اجتماع رجب طيب أردوغان ببوتين في سان بطرسبرغ بعد أشهر من التوتر، نجم عنه قرارات تعاون تخص سوريا إلى حد كبير بسيناريو قيام تحالف تركي روسي إيراني إلى الواجهة، حيث أكد وزير خارجية تركيا جاويش أوغلو استعداد بلاده لدراسة إمكانية شن عملية عسكرية مشتركة مع روسيا ضد تنظيم داعش.

 وترغب أنقرة أن تتعامل موسكو مع منظمة حزب العمال الكردستاني في تركيا، وحزب الاتحاد الوطني الديمقراطي الكردي وذراعه العسكرية ( وحدات حماية الشعب ) الكردية في شمال سوريا بشكل خاص، على أنهما امتداد للعمال الكردستاني وأنهما منظمتان إرهابيتان كما تصنفهما تركيا وألا تفرق بينهما وبين داعش وهو نفس السيناريو الذي تعتبر السعودية الحشد الشعبي وأذرع الحرس الثوري الإيراني من حزب الله وغيره منظمات إرهابية لا تختلف عن داعش.

 فيما تركز واشنطن فقط على داعش، أي أن المنظمات الكردية تهدد سلامة تركيا ووحدتها مثلما يهدد الحشد الشعبي وأذرع الحرس الثوري وحدة العراق وسوريا ولبنان واليمن أي أربعة دول عربية.

 أي أن التقارب التركي الروسي يقلل مخاطر الصراعات الدولية والإقليمية على تركيا وهو ما يثبت نجاعة الدبلوماسية السعودية التي اتبعت منذ فترة قواعد العمل الدبلوماسي ومراعاة مصالحها الذي ينم عن شجاعة سياسية مستقرة وثابتة ولم تستعدي روسيا كما لم تستجيب للأصوات الشاذة في معاداة روسيا عندما دخلت سوريا الذين يعتبرون السياسة عقيدة بينما هي ليست كذلك، لذلك هم صفقوا لتركيا عندما أسقطت الطائرة الروسية وعانت تركيا من أعباء إسقاط الطائرة، كما نجد أن دول الناتو أنبت تركيا على هذا الفعل فيما لتزمت واشنطن الصمت، لأن الناتو لا يريد الانجرار إلى حرب واسعة.

التقارب التركي الروسي يمكن أن يجعل موسكو محورية على حساب الولايات المتحدة في سوريا، خصوصا في الوقت الحاضر حتى يأتي رئيس جديد للولايات المتحدة، أي إعادة تموضع، لكنه يصب في صالح توازن المصالح من دون دفع أي ثمن سياسي، وله تبعات اقتصادية بعد أن خسرت تركيا مقاطعة أربعة ملايين سائح روسي، وهم ثاني مصدر للسياحة في تركيا، وفقدت الليرة التركية جزء من قيمتها.

لكن هذا التوجه يخالف الأجندة الأمريكية في إقصاء روسيا في إمداد المنطقة بالغاز عبر تركيا لاعتبارات استراتيجية، وتريد أمريكا أن يصل الغاز إلى تركيا من قطر ومن دول أخرى لإيصاله إلى الاتحاد الأوربي، بينما عودة التقارب التركي الروسي عودة لإحياء مشروع أنبوب الغاز مع روسيا إلى تركيا الذي يتجاوز أوكرانيا.

ستنقم واشنطن الآن على أوربا بسبب أنها لفظت تركيا بعدما كانت تصر أمريكا عليها قبول تركيا في الاتحاد الأوربي حتى لا تلجأ تركيا إلى روسيا وهو ما حدث، وهو ما يضعف من حصار روسيا ويقلل من أثر العقوبات الغربية المفروضة على روسيا من أجل أوكرانيا والقرم، كما أن من العوامل الرئيسية التي جعلت تركيا تتجه نحو روسيا العلاقة الأمريكية مع حزب العمال الكردستاني لاستخدامه أداة في محاربة داعش لأن بقية الدول ترفض محاربة داعش دون بقية المنظمات الإرهابية من أجل تأمين تواجدها في المنطقة بعدما قررت عودة جيشها واعتبرت قرار أوباما بسحب الجيش الأمريكي من المنطقة قرار خاطئ أحدث فراغ ملأته إيران وروسيا والجماعات الإرهابية.

عودة العلاقات التركية الروسية هي عودة هيمنة تركيا على مناطقها الواسعة التي تمتد من شرق أوربا والبلقان وآسيا الوسطى والقوقاز والتي تمتد من الناحية الأثنية والمذهبية إلى عمق الأراضي الروسية خصوصا وأن معظم المسلمين هناك ترك وعلى المذهب الحنفي، ومنذ فترة رحبت روسيا لتركيا على رعاية المعالم التاريخية خصوصا بعدما أثبتت تركيا بأنها دولة غير راديكالية على غرار إيران والمنظمات الجهادية الأخرى.

روسيا لن تتجاهل حيوية سوريا بالنسبة لتركيا، لكن أولويتها تثبيت حضورها في سوريا وتركيا ولا السعودية قادرتان على ضمان تثبيت الحضور الروسي في سوريا سوى الغرب وهو ما يجعلها تتثبت بمصير الأسد، مثلما أمريكا ليس من أولويتها محاربة داعش في العراق سوى تثبيت حضورها في العراق وهو ما ترفضه إيران باعتبار أن العراق منطقة حيوية لإيران، وهو ما جعل أمريكا توافق على مشاركة الحشد الشعبي في تحرير الموصل والذي يمكن أن يتحول إلى تعاون أمريكي إيراني في العراق على حساب المصالح العربية من أجل عودة الجيش الأمريكي إلى المنطقة عليها أن تتعامل مع الأكراد وتتحجج بمحاربة الإرهاب الداعشي.

ذهاب أردوغان إلى روسيا في 9/8/2016 بعدما حققت المعارضة السورية صدمة حلب، يمكن أن يشعر بوتين أن أردوغان أنقذه من حصار حلب وهو يحاول تكرار أخطاء أسلافه السوفيات الذين سبقوه في السقوط بامتحان القوة، بعدما استطاعت روسيا وإيران والنظام من إضعاف جيش الفتح الذي تدعمه تركيا وإقفال طريق الكاستيلو وهما استراتيجيتين كانت كافية الدفاع من أجلهما، وأثبتت المعارضة مدى قدرتها التي كسرت الشوكة الإيرانية، ولم ينجح الروس في وقف كسر حصار حلب بعدما كثفت من القصف الجوي على إدلب لمنع حراك جبهة النصرة ( فتح الشام ) وأحرار الشام باتجاه حلب.

بعد تلك الزيارة يمكن أن يحدث جمود على الجبهات، ويعطي فرصة للتحالف العربي في اليمن بقيادة السعودية تحقيق عدد من أهدافها، وتلك الزيارة تكبل الدب الروسي الذي تحول إلى ثعلب رشيق الحركة لتحقيق الحلم الروسي من زمن بطرس الكبر إلى زمن بوتين، وعلى السعودية التي تقود التحالف العربي مسؤولية التهيئة للمزيد من الارتباك الأميركي القاتل الذي أوجد الفراغ في المنطقة وساهم في قفز الدب الروسي وتمدد إيران في المنطقة العربية عبر أذرعها المنتشرة في المنطقة.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق