التنمية في سورية ما بعد الحرب

تعتبر التنمية عملية توسيع نطاق خيارات البشر بأن يحيا الناس حياة مديدة وصحية وان يتمكنوا من اكتساب العلم والمعرفة، وأن يحصلوا الموارد التي تكفل لهم معيشة لائقة. ومن هنا برز عندنا أكثر من نوع للتنمية:

  • التنمية الاقتصادية.
  • التنمية السياسية.
  • التنمية المستدامة.
  • التنمية الاجتماعية.
  • التنمية البشرية.

وتتمحور عملية التنمية البشرية حول خمسة مرتكزات اساسية وهي:

  • التمكين: تمكين الناس من تعزيز قدراتهم التي تساعدهم على توسيع خياراتهم وتحريرهم من الحرمان.
  • التعاون: تعاون الناس ليعيشوا داخل شبكة اجتماعية تبدأ من الاسرة لتصل الى الدولة مما يعطي الفرد احساسا بالوجود وبمعنى الحياة والرفاهية.
  • الإنصاف: وذلك في حصول كل فرد على فرص التعليم والمعرفة ليحيا حياة مديدة وخالية من العلل.
  • الاستدامة: وتعني تلبية حاجات الأجيال الحالية دون تعريض قدرة الاجيال القادمة لخطر عدم تلبية حاجاتهم في المستقبل.
  • الأمن: من خلال توفير الامن لكل فرد لعدم التعرض لمخاطر الجريمة والعنف والبطالة والمرض والشيخوخة.

كثيراً ما نسمع أو نقرأ في أدبيات التنمية وفي الوثائق الرسمية “أن الانسان هو هدف التنمية وغايتها، وأنه ايضاً هو صانعها ووسيلتها، لتحقيق منافعه حاضرا او مستقبلا”.  وقد تمت صياغة هذا الهدف في مصطلحات مثل: تنمية الموارد البشرية أو التنمية البشرية.

ومن الملاحظ أن هذه الصيغ تركز جميعا على الانسان باعتباره العامل الأساسي في التنمية، إلا أن هناك فرقا بين هذه المصطلحات. فمصطلح تنمية الموارد البشرية يتوجه إلى إعداد الإنسان وتوظيفه ليكون قوة عمل منتجة، بدرجات متفاوتة من المهارة، حسب قدرته وفرص العمل المتاحة لتشغيله. وفي هذا الإطار المحدود تقترن الحدود بالواجبات، ويتم إشباع الحاجات عن طريق اكتساب القدرات الإنتاجية وتوظيفها في العمل الاجتماعي المنتج، ويجري التركيز على اعتبار الإنسان هو صانع التنمية ووسيلتها، أكثر منه هدفها وغايتها.

فيما ترتكز مصطلحات مثل: بناء الإنسان، والتنمية البشرية، والتنمية الإنسانية، على الإنسان باعتباره هدفاً وغاية نهائية. وذلك في إطار إشباع حاجاته المادية والإنسانية، وتجنيبه ويلات الفقر والفاقة والمرض والجهل والتهميش الاجتماعي، وتمكينه من الاستمتاع بالأمن على حياته وحاضره ومستقبله، وتوفير فرص مشاركته في مسيرة مجتمعه، تعبيراً وقراراً وتوجيهاً وفعلاً.

أهم مؤشرات وضمانات التنمية البشرية:

  • الحرية السياسية: فالحرية هي أداة وضمانة وهدف للتنمية الإنسانية، وتشمل على الحريات السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية، وتتصل بما يتوفر للناس من فرص لتقرير من ينبغي أن يحكم، ووفق أية مبادئ، وتشمل أيضا القدرة على مراقبة السلطات ونقدها، والتمتع بحرية التعبير السياسي ووجود صحافة حرة.
  • التسهيلات الاقتصادية: ويمكن فهمها على أنها الطريقة التي تعمل وفقها الاقتصادات لتوفير فرص الدخل وتحسين توفير الثروة.
  • الفرص الاجتماعية: التي تشير إلى الترتيبات التي يضعها المجتمع للتعليم والرعاية الصحية، اللذين يؤثران في حرية الفرد الأساسية، ليعيش حياة أفضل.
  • ضمانات الشفافية: التي تحمي التفاعل الاجتماعي بين الأفراد، والتي تستند إلى فهم متفق عليه، حول ما يعرض على هؤلاء الأفراد وما يتوقعون الحصول عليه.
  • الامن الحمائي: الذي يتعال مع توفير شبكات الامن الاجتماعي المناسبة للمجموعات الضعيفة في المجتمع.

أما اكتساب المعرفة فهو قيمة في حد ذاته، وهو وسيلة مهمة لبناء قدرة الانسان، وتعد المعرفة عنصرا رئيساً في الإنتاج، ومحدداً للإنتاجية ورأس المال البشري. وعليه فإن هناك تكاملاً مهماً بين اكتساب المعرفة والقوة الإنتاجية للمجتمع. وتؤكد الدراسات على أن قلة المعرفة وركود تطورها يحكمان على البلدان التي تعاني منهما بضعف القدرة الانتاجية وتضاؤل فرص التنمية. وأصبحت فجوة المعرفة -وليس فجوة الدخل- المحور الرئيس لمقدرات الدول في عالم اليوم.

سورية الحرة، ودور التنمية البشرية فيها:

بعد أن تعرفنا على مفهوم التنمية البشرية ومحاورها وضماناتها وأهدافها، لابد لنا من أن نوصف الواقع، لنصل إسقاط ما تقدم على سورية المستقبل. إذ يجب علينا إعادة تأسيس سورية على عدة مرتكزات، وهي:

  • الاحترام القاطع للحقوق والحريات الإنسانية، باعتباره حجر الزاوية في بناء الحكم الصالح المحقق للتنمية الانسانية. كيف لا، وقد عانى الشعب السوري ما عانى من الحكومات المستبدة التي قمعت شتى أساليب التنمية، فلا تنمية بانعدام الحرية والامن، هذا ما خبرناه من خلال نظريات علم الاجتماع، من أن الأولوية للأمن “هرم ماسلو”. فإذا ما بقي لنا نظام مستبد فاسد فسوف يبقي لنا الجهل ويسلب الحقوق.
  • تمكين المرأة السورية: عبر إتاحة جميع الفرص، خاصة تلك الممكنة من بناء القدرات البشرية، للفتيات والنساء على قدم المساواة مع الرجال؛ لأننا بحاجة إلى كل الجهود للعودة والنهوض بهذا البلد الذي دمرته يد الحرب وعاثه به الفساد.
  • تكريس اكتساب المعرفة وتوظيفها بفاعلية في بناء القدرات البشرية، وتوظيفها بكفاءة في جميع صنوف النشاط الاجتماعي، وصولا إلى تعظيم رفاه الانسان في المجتمع.
  • تفعيل دور الشباب: والذي يجب أن يكون التعويل الرئيس في المستقبل على عاتقهم، فالشاب هو صاحب الخبرة العلمية المبنية على المعرفة والجهد الحثيث للنهوض والتنمية، والشاب الواعي بالمخاطر المحيطة به، العارف بتفاصيل الصراع وما يحتاجه لكي يتفادى هذا الصراع وينجو بسلام في هذا الوضع الراهن، ويكون قد حقق رسالته في النهوض والتنمية.

عندما تحل الحرب يحل الخراب والدمار، ومن هنا عن أية تنمية نتحدث؟

سؤال يطرح نفسه بقوة، حيث تعصف الحروب والفوضى اليوم بسورية، مما انعكس سلباً على التنمية في هذا البلد، فلا صحة ولا تعليم، بل إن بعض النازحين لا يجد رغيف الخبز ليقتات به، فما الذي نعنيه بالتنمية في زمن الحرب؟

هناك حكاية تاريخية  عند اليابانيين، حدثت في أول عصر النهضة اليابانية: تروي أنه في أعقاب إحدى الحروب دمرت مقاطعة (ناجاواكا) تدميرا شاملا، و أصبحت حقول الأرز حقولا متفحمة، فافتقر سكان المنطقة إلى أبسط مقومات الحياة، فقامت إحدى المقاطعات اليابانية (ميني ياما) بإرسال مئة كيس من الأرز كإغاثة إلى المقاطعة المنكوبة، فانتظر سكان المقاطعة توزيع المعونة عليهم، لكن حاكم المقاطعة لم يقم بتوزيعه، إنما قام ببيع الأرز، ليشتري بثمنه كتبا و بعض الأدوات الخاصة بالدراسة والتعليم، وأسس مدرسة اشتهرت فيما بعد بالعلوم الطبية والعلوم التطبيقية، وتخرج منها الآلاف من الذين شاركوا في بناء نهضة اليابان وساهموا في وصولها الى ما هي عليه اليوم.

وهذا يدل على أن اليابانيين قد فهموا جيداً معادلة ارتكاز التنمية على الإنسان، فحين خاضت اليابان الحرب العالمية الثانية، وانتهت الحرب باستسلامها، خارجة منها مدمرة منهكة، سرعان ما عادت إلى الواجهة، واليوم هي ثالث أكبر دولة اقتصادية في العالم، على الرغم من ندرة الموارد الطبيعية، والسر في ذلك هو الإنسان الذي يمتلك الإرادة والعزيمة، إلى جانب تسلحه بالعلم والمعرفة.

إذاً، المقصود بالتنمية في زمن الحرب، هو بناء الإنسان وتنمية ذاته.

وللأسف الشديد، ينظر إلى الإنسان في عالمنا العربي، وفي بعض بلدان العالم الثالث، على أنه عبء ثقيل على التنمية والاقتصاد، بينما تختلف النظرة في البلدان المتقدمة، إذ ينظر إليه على أنه عماد الاقتصاد، بل هو الثروة الحقيقة بعينها.

هناك أكثر من 350 ألف شهيد سوري منذ أن بدأت الثورة عام 2011، وأكثر من 9 مليون نازح داخل سورية وخارجها، ومعظم هؤلاء النازحين محرومون من أبسط مقومات الحياة، وبالطبع هذه أرقام صادمة وتبعث على الأسى. لكن مع كل محنة منحة، ومع اشتداد اليأس لابد من الأمل، وتركيا التي يعيش فيها 2 مليون نازح هي مبعث الأمل بالنسبة إلى السوريين، إن الحكومة التركية تنظر إلى القضية السورية من منظور استراتيجي، فالحديث عن تأمين الطعام والشراب للنازحين لم يعد الحديث الشاغل بالنسبة إليها، بل تجاوزت ذلك إلى التركيز على توفير سبل التعليم للطلاب، وتدريب العمال السوريين، وبناء وإعداد الكفاءات السورية في مختلف المجالات، للمساهمة في بناء سوريا ما بعد الحرب.

ما ذا نمتلك من مقومات التنمية ؟

1- الكثيــر من الشبــاب: الطــرف الرئيسي من المعــادلة الواقعية بخصــوص تحقيق ازدهار سريع في ســورية، أن مُعظم الإحصـائيـات تقــرر حقيقيــة أن 50 % من الشعــب الســوري على الأقــل هم من فئة الشبــاب. وبهذه النسبــة، نجد أن ظــروف ســورية أفضــل بكثير جداً من ألمــانيــا مثلا بعد الحــرب العالمية الثانيــة، التي كانت تعــاني بشدة من انخفــاض مخيف في نسبة الشبــاب والمراهقين بسبب الحـــرب، وارتفاع نسبة النســاء وكبــار الســن من جهــة أخــرى، ممــا عطّـــل –في البدايــة– ظهــور بوادر إصــلاحية سريعة بعد الحــرب في مشــروعات الإعمــار، وجعــل الالمــان فيما بعد يعتمــدون على قوى عاملة من الخارج (الاتراك تحديداً).

فالشبــاب هم الفئة العُمــرية الوحيدة الذين عندما ينظــرون إلى مشــاهد الأطلال والدخــان والدمــار، تمتلئ نفــوسهم بالرغبــة في البناء والإصـــلاح وإعادة الترتيــب، بدلاً من الأسى والحزن، ثم يبتسمــون بفخــر وهم يتطلعون إلى منجزاتهم التي أعادوا إعمــارها بسواعدهم. وسورية مليئة بالشبــاب، علامة أخرى مهمة جداً على القدرة في اختزال الزمن المطلوب لإعادة الأعمار بمعدلات سريعة جداً.

2- موارد متكافئة مع التعداد السكــاني: إذا صحّت المُقارنة بين اليابان بعد الحــرب العالميـة الثانية، وســورية في حربها الأهليــة، تؤكد أن الوضع الذي ستنطـلق منه ســورية أفضــل بكثيــر جداً من ناحيــة الموارد والتعداد السكــاني. فاليابان عانت طوال تاريخهـا ومــازالت تعاني من نضــوب أرضها الصخـــرية من موارد الوقود (مثل النفــط وغيرها من المعادن الطبيعية)، على عكــس ســورية، والتي يعرف أي جغرافي أنها مليئة بالبعــض من كل الموارد الطبيعية المعروفة في المنطقة العربية، كالغاز والنفــط والمعادن، فضـلاً عن مواردها الطبيعية المتمثلة في ساحل طويل نسبياً، وموارد صناعية وزراعية طائلة، وتــراث سياحي ضخم. فمساحة ســورية كبيـــرة جزئيـاً، وأرضهــا مليئة بالموارد الطبيعية والجغرافية، وتعتبــر أبرز بوابة عربيــة لأوروبا، حيث تقع في حدودها المُتاخمة مباشــرة، فضــلاً عن تعداد سُكــاني متوسّط لا يزيد عن 22 مليون نسمة.

ماذا تعني كل هذه المعلومات؟: تعنــي بشكل أو بآخر، أن أي تطوّر اقتصــادي –ولو ضئيــل– بعد انتهاء الحــرب في ســورية، سيكون محسوس حتمـاً، ومرئي بشكــل كبيــر وسريع على المستوى العــام لتكــافؤ نسب الموارد مع السكــان. بعكــس دول أخرى مُكتظــة بالسكـان –مثل الهند وباكستان ومصر والصين وغيرها– ، التي مهمــا تم بذل إصــلاحات اقتصــادية، سيكون الشعــور بنتــائجهـا على المستوى الشعبي بطيئـاً جداً، وربما غير محســوس؛ لعدم التكــافؤ بين تعداد السكــان الضخم والموارد المتاحة. فمن حيث الموارد وتكافؤها مع التعداد السكــاني، يبقى وضع سورية أفضــل بكثير مقارنة باليابان وألمـانيـا بعد الحــرب العالمية الثانية قطعاً.

3- بعثـــاث (شعبيـــة) للخارج: بعــد اندلاع الثــورة الســورية، فــاق عدد الســوريين الذين غادروا البلاد الـ 3 ملاييـــن سوري، منهم من توجّه إلى أوروبا وأمريكــا الشمــالية، ومنهم من توجه إلى الدول العــربية، وحتى الدول الإفريقية البعيــدة. ومعــروف أنه في حركة تطوّر أي بلد للحضــارة والرقي، تعتمد الحكــومات على مبــدأ (البعثــات الخارجيــة) لمواطنيهــا: طلبة الجامعات، وحتى الإداريين والفنييــن والمُبدعين، طلبـاً لتحصيــل آخر ما وصلت إليه الدول المتقدمة، ثم العــودة لتطبيقهــا في البلاد التي ينتمون اليها.

وختاماً، لدى البلدان العربية الموارد الازمة لاستئصال الفقر في غضون جيل واحد، هذا ما أكد عليه تقرير الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2002، فأين واقعنا من هذا، وما هو دور الحكومات القادمة التي يجب أن يكون من أهم أهدافها تحقيق التنمية البشرية بشتى السبل؛ لأنها أساس النهضة والتطور والاستقرار وتأمين الحاجات البشرية بشتى أشكالها.

محمد صالحة وهيثم بدوي

باحثان سوريان

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

مراجع:

  • إبراهيم بدران، النهضة وصراع البقاء (بيروت: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2005).
  • مسعود ضاهر، النهضة العربية والنهضة اليابانية (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون، الطبعة الأولى، 1999).
  • أمارتيا صن، التنمية حرية، ترجمة: شوقي جلال (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون، الطبعة الأولى، 2004).
  • أسامة الخولي، البيئة وقضايا التنمية والتصنيع (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون، الطبعة الأولى، 2002).
  • الامم المتحدة، التقرير الإنمائي، 2002 .

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق