التنافس والتواطؤ الإيراني – التركي

 الإسلام السياسي في الواجهة

مقدمة

لا مبالغة في القول: إنّ العلاقات الإيرانية – التركية تشهد اليوم حقبة ذهبية، إذا ما قيست بالمسار التاريخي للعلاقة بين الدولتين، وتحديدا بعد الثورة الإيرانية عام 1979، التي أثارت قلق النظام العلماني التركي، وتركت الدولتين في حالة استنفار دائم، بعد عقود من التقارب الأيديولوجي، وخاصة في عهد العاهل الأول من سلالة بهلوي، رضا شاه (1878-1941)، الذي سعى إلى محاكاة النموذج التركي، إيماناً منه بضرورة التفاهم بين الدولتين، حول تقاسم المصالح في محيطهما.

لقد شكل وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا، إلى إعادة الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية التركية، التي يئست من الانفتاح على حلفائها الغربيين، وتأكيد ثقافة تركيا الأطلسية، الأمر الذي دفعها إلى السير بالاتجاه المعاكس، من خلال محاكاة التجربة الإيرانية، بدعم وتثوير الخلافات في محيطها العربي، بالاعتماد على حركات الإسلام السياسي، التي أصبحت قاسماً مشتركاً، في سياسات المصلحة الذاتية للدولتين الإيرانية والتركية، التي تجاوزت فكرة الصراع الصفوي – العثماني، لصالح فكرة جديدة في إطار نظام دولي جديد، تتراجع صراعاته الإيديولوجية، لصالح  التنافس الاقتصادي، القائم على التعاون والتواطؤ والاستمالة والردع والترغيب والترهيب، بين القوى الدولية والإقليمية.

 

إيران، وإحياء فكرة الإسلام السياسي:

أدت الثورة الإيرانية عام 1979، إلى سقوط المعادلة التحالفية بين تركيا وإيران، فإيران- أخذت على عاتقها مسألة ايجاد نظام طائفي- شيعي، كفكرة تضمنها الدستور الإيراني، واعتبرها الخميني، منطلقاً لتصدير الثورة إلى خارج الحدود.

تزامن ذلك مع تراجع دور النظام الإقليمي العربي،الذي فتح الباب على مصراعيه، لإيجاد بديلاً عنه، حيث استفاد الخميني إبان تلك المرحلة من القطيعة العربية لمصر، قابله تدخلات قسرية للدور الإيراني، بدءاً من لبنان، الذي تحول إلى ساحة لحركات الإسلام السياسي الشيعي، التي نجحت في ضرب القوى الفلسطينية، قبل أن ينقلب إلى دور إيراني – عقائدي، تمثل بحزب الله، الذي أعلن تمسكه بشكل علني، بنظرية الولاية الفقيه، التي تؤمن بالدستور الإيراني، ومحدداته التي لا تحيد عن الأمن القومي الإيراني، فقد تضمن بيان تأسيس  حزب الله في 16/ شباط/ 1985، ما نصه” إننا أبناء حزب الله، التي نصر الله طليعتها في إيران .. نلتزم أوامر قيادة واحدة حكيمة عادلة، تتمثل بولاية الفقيه الجامع” (1)، وهي التجربة التي امتدت -في مراحل لاحقة- من لبنان إلى كامل المحيط الإقليمي،  قابل ذلك خروجاً سورياً من لبنان عام 2005، جعل من النفوذ الإيراني في المنطقة، قوة إقليمية فاعلة ومتفردة، بالمقابل شهدت السياسة التركية إبان تلك المرحلة، أدوراً جديدة، تحاكي الدور الإيراني في المنطقة، منذ ظهور مصطلح ” العثمانية الجديدة”، بعد نهاية الحرب الباردة، وهو المصطلح الذي أصبح عقيدة استراتيجية للسياسة التركية منذ وصول رجب طيب أردوغان إلى السلطة.

تركيا وحزب العدالة، لي عنق الإيديولوجيا إسلاموياً:

منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا عام 2002، تميز خطابه  بخصوصية تميزه عن الاحزاب الإسلامية السابقة، فبالرغم من أنه يمثل الوريث الشرعي للحالة السياسية الإسلامية، إلا أنه يمثل في الوقت ذاته، قطيعة مع هذه الحالة، بسبب النهج الواقعي والبراغماتي لحزب العدالة والتنمية، الذي اشتغل على تحقيق الاستمرارية والثبات في الساحة السياسية، من خلال سياسة أردوغان التي اشتغلت على تسخير الخطاب الإسلامي في سياق الثقافة المحلية، دون الإخلال بمبادئ ” خصومه” العلمانيين، وذلك بتجنب الصراع معهم تارة، وإلباس المواقف الإسلامية حلة قومية تركية من حيث المصلحة على الصعيد الدولي تارة أخرى، حيث أظهر أردوغان تأييداً لانضمام بلادة إلى الاتحاد الأوروبي، كما أعلن عن حرصه لعلاقات متينة مع اسرائيل، دون التخلي عن علاقاته التاريخية بالعرب وإيران. وفي هذا الخصوص أعلن أردوغان أن حزبه يفضل النظام العلماني الذي يمنح لكل فرد الحق في ممارسة نمط الحياة الذي يريده، سواء كان إسلامياً أم غير ذلك، وأنه غير مهتم بمسألة تبني الشريعة كنظام قانوني مأمول في تركيا، وأنه يمكن النظر لنظام الشريعة بوصفه نمط حياة يتبعه كل فرد في حياته الخاصة، أو بكونه تعبيراً عن نظام اجتماعي عادل يعيش فيه الجميع في حالة من راحة البال والسكينة، حيث أصبحت هذه المبادئ محددات تختصر اسم الحزب في العدالة والتنمية (2).

محور سني في مواجهة محور شيعي:

حتى نهاية حكم نجم الدين أربكان، وتزامناً مع مرحلة الصعود الإيراني في المنطقة، الذي تعزز بمرحلة التمكين بعد احتلال العراق عام 2003، حرصت إيران على تطوير علاقاتها الاقتصادية مع تركيا، حيث أعطت الأخيرة هذا الجانب أولوية قصوى تتقدم سياساتها في المنطقة.

 لم تر إيران في تركيا منافساً إقليمياً لها في المنطقة، بسبب السمعة سيئة الصيت لتركيا في شراكتها الاستراتيجية مع إسرائيل، الأمر الذي يعني لإيران، عدم قدرة تركيا في أن تكون حليفاً للعرب المسلمين، يمكن التعويل علية في صراعهم مع إسرائيل. و مما زاد القناعة الإيرانية في ضعف الدور التركي، حرص تركيا على أن تكون شريكاً اقتصادياً لإيران، إلى جانب شراكتها الاستراتيجية مع إسرائيل، بالإضافة لما تعانيه تركيا من انقسامات وصراعات وأزمات داخلية، تصاعدت أكثر مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، فقد أدرك الأخير عدم قدرة تركيا في إنجاز ملفات دولية، كما تفاقم اليأس التركي في الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي دفع بتركيا إلى التوجه نحو محيطها مستفيدة من التجربة الإيرانية في تصدير الثورة إلى المنطقة العربية، الذي خلق تداعيات خطيرة داخل الدولة القطرية، خلقت حالة من الانقسام والتغريب المجتمعي، وصدامات عنيفة مع الحكومات الوطنية، حيث أصبحت الفوضى، وهشاشة الدولة – كما حصل في لبنان والعراق- مقدمة لدور إيراني فاعل، وهو الدور الذي بدأت السياسة التركية في محاكاته الدور وتقليده،  من خلال دعم حركات الإسلام – السني، وتثوير الخلافات والعنف داخل المنطقة العربية، التي أصبحت أمام صراعات مفتوحة على جميع الاحتمالات.

 تركيا ونظرية العمق الاستراتيجي، (تعاون اقليمي يحاكي نظرية ولاية الفقيه):

مع وصول حزب العدالة والتنمية بقيادة رحب طيب أردوغان ووزير خارجيته داوود أوغلو إلى السلطة في تركيا؛ بدأ الحزب بسياسة التعويض عن الفشل الذي منيت به تركيا في الانفتاح على أوروبا، وتأكيد ثقافتها الأطلسية كعضو في حلف شمال الأطلسي(الناتو)، وذلك بانتهاج سياسة براغماتية على الصعيدين الداخلي والدولي.

 وخلافاً لكل الحكومات التي سبقت حكومة أردوغان، فقد تعالت الأصوات التي أشارت إلى مصطلح “العثمانية الجديدة”، الذي ظهر مع نهاية الحرب الباردة في عهد الرئيس التركي طورغوت أوزال، حيث ظلت خطابات وأحاديث قادة حزب العدالة والتنمية تذكر الأتراك بأولئك السلاطين الذين كانت لهم صولات وجولات ضد الدولة الصفوية الشيعية؛ ولم يتردد أردوغان نفسه في التصريح لصحيفة الواشنطن بوست في نهاية العام 2010، “أنه لا مانع من أن تكون تركيا زعيمة على الدول التي كانت تحت الحكم العثماني”. ويرد في حديث له في 15 تموز 2012، على الانتقادات الموجهة له بسبب تدخل تركيا في الشأن السوري قائلاً:” إن حزب العدالة والتنمية هو حزب يحمل في جذوره العميقة روح السلاجقة والعثمانيين” (3).

وفي اتساق مع دعوات أردوغان، اشتغل وزير خارجيته داوود أوغلو بهندسة فكرة العثمانية الجديدة، من خلال نظريته الشهيرة، التي عرفت بـ ” نظرية العمق الاستراتيجي”. التي لا تختلف البتة عن ” نظرية ولاية الفقيه”، من حيث الأدوات والطموحات والأهداف الإقليمية، لاسيما وأن النظريتين، قاسمها المشترك دعم التيارات السياسية الإسلامية الشيعية منها والسنية.

 دافع أحمد داوود أوغلو من خلال نظرية العمق الاستراتيجي، عن ضرورات الانغماس التركي في مشروعها الجديد في الشرق الأوسط، والتمدد داخل محيط تركيا، رابطاً طموحات تركيا في تحقيق الرفاه والتنمية الاقتصادية بشيوع هذا الرفاه في دول الجوار الاقليمي، حيث شبه أوغلو هذه الدول بـ ” البيوت الخشبية”، التي لا تستطيع أن تحمي نفسها في حالة اندلاع النيران في إحداها، لاسيما وأنها مازالت تعاني من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، الأمر الذي يتطلب من تركيا تعميق استراتيجيتها داخل هذه البيوت، بالاستفادة من العامل الديني دون غيره، كرابط وحيد وأكثر تأثيراً في البيوت الخشبية الهشة.

وعلى الطريقة الإيرانية – وانطلاقاً من رؤية أوغلو- أخذت تركيا على عاتقها تعميق علاقاتها مع دول المنطقة، واضعةً نفسها في صدام مع حلفائها الغربيين، الذين يئست من كسب ودهم، فنصبت نفسها المحامي والمدافع عن قضايا محيطها الاقليمي، في لبنان وفلسطين والعراق، الحال الذي لم يزعج إيران، فقد  استفادت الأخيرة من تركيا كداعم لها وليس منافساً، بل استطاعت توظيف الدور التركي في الملف الأكثر أهمية في الاستراتيجية الإيرانية، عندما نجحت تركيا في ضبط سنة العراق وأكراده، وتشجيعهم على دعم العملية السياسية، لمنع تأزم الوضع العراقي، الذي أصبح تحت الهيمنة الإيرانية بشكل كامل. وهو ما يفسر انحياز لإيران تركيا في موضوع الملف النووي، وجعل إيران تقبل بأن تكون تركيا وليس روسيا بلداً مقترحاً لتبادل اليورانيوم بنسبة 3،5% مع الدول الغربية.

وبناءً عليه، لم تشكل ما سمي بـ ” ثورات الربيع العربي”، نقطة افتراق بين إيران وتركيا، بقدر ما شكلت نوعاً من المشكلات الهامشية، التي نقلت طبيعة العلاقة بين البلدين من التعاون والتنافس، إلى مرحلة من الشراكة والتواطؤ الإقليمي. فقد جاءت زيارة رجب طيب أردوغان لتؤكد تفاهم البلدين في إدارة حوار منضبط يقوم على تعظيم المنافع وتقليل الخسائر، ومحاولة عدم الصدام في القضايا المختلف عليها. فإيران لن تختلف مع حليفها التركي، الذي يتشارك معها في أهم ملفاتها الداخلية (الملف النووي)، وتدرك الفشل الذي مني به الأتراك في سورية، لذلك فهي تتفق معها في دعم باقي ثورات الربيع العربي، التي رأت فيها إيران -وعلى لسان مرشد الثورة الإسلامية- بأنها امتداد لشعارات الثورة الإيرانية، وأن الثورة في مصر- على وجه الخصوص- انتصاراً يمهد لشرق أوسط إسلامي(4).

بالمقابل، وجدت السياسة التركية في علاقاتها مع إيران، مخرجاً لعزلتها الإقليمية والدولية، وفرصة في أن تتعلم من شريكها الإقليمي الإيراني، كيفية الاستفادة من تداعي الأوضاع الداخلية في محيطها، كمرتكز لتطبيق نظرية ” داوود أوغلو” في البعد الاستراتيجي، التي ترتكز توسيع الصراعات وخلط الأوراق، التي تؤدي في نهاية المطاف إلى تقاسم النفوذ الإقليمي، في إطار نظام دولي، يقوم على التعاون والتنافس والتواطؤ بين القوى الفاعلة دولياً وإقليمياً.

أمام ما تقدم، ثمة أسئلة كثيرة يطرحها واقع حركات الإسلام السياسي، بشقيها الشيعي والسني، لاسيما بعد الفشل الذي منيت به في العديد من دول المنطقة، بدءً من تراجع شعبية حزب الله في داخل لبنان وخارجها، وانتهاءً بالإخوان المسلمين في مصر، الأمر الذي يضع مستقبل التحالف التركي-الإيراني وأدواته في المنطقة، أمام استحقاقات، تفتح الباب لعودة نظام إقليمي جديد، قد تكون أولى خطواته، التقارب الخليجي-المصري.

 

خاتمة:

إن موقع تركيا كمدخل للغرب، كما موقع إيران كمدخل للشرق، جعل من البلدين يحتاجان لبعضهما، في علاقة أصبحت اليوم، محكومة بفكرة الاعتمادية الدولية، التي أدت إلى تراجع الصراعات الإيديولوجية، لصالح الصراعات الاقتصادية، التيأفرزت نظاماً دولياً، قائم على التعاون والتنافس والتواطؤ بين القوى الدولية والإقليمية، كمعادلة أدركت من خلالها القوتين الإقليميتين (تركيا وإيران)، تراجع مفهوم الصراع لصالح التنمية، وهو الفهم الذي تعاملت معه في علاقاتها الثنائية، بما ينعكس على مصالحها الذاتية، دون الالتفات لمحيطها، الأمر الذي وضع المنطقة أمام تداعيات تهدد ميزة التعايش المشترك بين شعوب المنطقة، وهو التهديد الذي لا ينعكس على دول المنطقة العربية وحدها، بقدر ما يطال كامل منطقة الشرق الأوسط، وفي مقدمتها إيران وتركيا.

 

 

د. محمد خالد الشاكر

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

 

الهوامش:

1- انظر: بيان تأسيس حزب الله، الصادر المعلن عنه في16/ شباط/ 1985.

2- د. عبد الغني عماد، الحركات الإسلامية والإصلاح السياسي: دراسة مقارنة بين التجربتين الإيرانية والتركية، على الرابط:http://alhiwar2012.wordpress.com/ استرجعت بتاريخ 9/4/ 2014.

3- محمد نور الدين، “الأمن القومي التركي: تحولات وأخطار”، مجلة الغدير، العدد64، (بيروت: دار الفلاح للنشر والتوزيع،2013)، ص 92.

4- للاستفاضة انظر: محمد السعيد ادريس، “التحالف التركي- الإيراني بين الممكن والمستحيل”، مجلة آفاق سياسية، العدد 3، (القاهرة: المركز العربي للبحوث والدراسات، 2014)، ص 71 وما بعدها.

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق