التفجير الإرهابي في المدينة المنورة: أبعاد ودلائل

توالت خلال أيام عدة عمليات إرهابية في المنطقة بأسرها، جعلت المتابع يلحظ الزخم الجديد الذي تنتهجه التنظيمات الإرهابية على امتداد الإقليم، بل ونوعية الأهداف التي تطالها هذه العمليات. لكن الحدث الأبرز فيها جميعاً يبقى استهداف محيط المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة مع إفطار اليوم التاسع والعشرين من رمضان. لهذا الحدث عدة دلالات مهمة في هذا السياق، من أهمها:

  • أنه المحاولة الإرهابية الأولى التي تنجح بالوصول إلى أحد الحرمين الشريفين، وخصوصاً أن السعودية قد أحبطت عدة محاولات إيرانية لإدخال متفجرات إلى مواسم الحج في ثمانينيات القرن العشرين.
  • تأتي عملية المدينة المنورة بالاتساق تماماً مع العمليات داخل السعودية في ذات اليوم (القطيف) وفي اليوم السباق (جدة)، وضمن سلسلة عمليات تستهدف السعودية من قبل تنظيم داعش في السنتين الأخيرتين تحديداً، ومن قبل القاعدة منذ تسعينيات القرن العشرين.
  • كما تأتي بالاتساق مع تفجيرات طالت إسطنبول وبغداد والحدود الأردنية ولبنان من قبل تنظيم داعش خلال ذات الأسبوع.
  • وكذلك مع الكشف عن مخططات إرهابية في الكويت في اليوم السابق.
  • تأتي هذه العملية كذلك مع الخسائر التي منيت بها داعش في الأيام الأخيرة في العراق وفي شمال سورية.
  • تأتي العملية الإرهابية مع انطلاق عملية تحرير العاصمة اليمنية صنعاء من يد الميليشيات الحوثية، والتي ضيقت الخناق عليهم كثيراً، واقتربت من مقارهم فيها.
  • تأتي مجمل هذه العمليات الإرهابية مع تقدمات عسكرية لفصائل الجيش السوري الحر في محافظة اللاذقية، وتضييق الخناق على الحاضنة الشعبية لنظام الأسد فيها.

لا يمكن إغفال هذه المعطيات في تحليل حدث استهداف الحرم المدني خصوصاً والسعودية عموماً خلال يومين متتالين، ويمكن أن نضع عدة دلالات أخرى لهذا الحدث، منها:

  • من دلالات الكثافة الإرهابية الأخيرة في كافة دول الإقليم، اشتداد الخناق على تنظيم داعش والتنظيمات والخلايا والأنظمة السياسية المرتبطة به، والسعي للخروج من ذلك من خلال كسر الطوق المفروض عليه، والامتداد إلى خارج محيط العمليات العسكرية في العراق وسورية، وإشغال دول المنطقة بأحداثها الداخلية، علّ ذلك يُخفِّف من الضغط العسكري الواقع على التنظيم والجهات المرتبط بها.
  • دلالة أخرى نبنيها على حدثين رئيسين:
    • الأول هو ما ذكرناه من محاولات إيرانية سابقة لتفجير مواسم الحج.
    • والثاني، هو ما تمّ تسريبه منذ أيام قليلة، عن وثائق أمريكية (أكثر من مليون وثيقة)، تثبت تورّط القاعدة مع إيران، بعلم وسكوت أمريكي طيلة الفترة الماضية، بل ودور إيراني في أحداث أيلول/سبتمبر والذي اتُّهِمت فيه السعودية حينها ضمناً وعلناً.

وفق هذين الحدثين، يمكننا بناء دلالة أخرى، وهي سعي إيران بدورها للخروج من أزماتها الداخلية والإقليمية من جهة، من خلال توظيف علاقاتها بالتنظيمات الإرهابية في المنطقة لإحداث اهتزازات أمنية في دول الخليج العربي، وتحديداً السعودية، في تطبيق حرفي لمفهوم الإرهاب، والدفع بأسلوب التخويف إلى إحداث مصالحة إيرانية-خليجية تراعي المصالح الإيرانية وأتباعها في المنطقة بأسرها وفي الخليج العربي خصوصاً، ضمن محاولة ترويج مشروع “الحوار مع إيران”.

عدا عن أنّ الانهيار الأمني في منطقة الخليج العربي، سيُضرّ حتماً بتجارة النفط في المنطقة، دافعاً أسعار النفط إلى مستويات قياسية جديدة، وهو تطلّع إيراني ملّحٌ للغاية منذ منتصف العام الماضي، لا يمكن للاقتصاد الإيراني إحداث تغييرات حقيقية عقب الاتفاق النووي، دون دفع تلك الأسعار إلى مستويات عليا.

هذه الدلالة يمكن أن نضيف إليها تهديداً إيرانياً رسمياً لقلب نظام الحكم في مملكة البحرين، ضمن عملية استهداف تشهد تصعيدها منذ عام 2011.

يضاف إلى كلّ ما تقدم، محاول نقل الفوضى الإقليمية إلى الداخل السعودي، باعتبار السعودية مركز الاستراتيجية الإيرانية، وهنا إنّ صح القول، مركز الاستراتيجية الفارسية بشكلها الصفوي. وباعتبار السعودية آخر مرتكزات القوة العربية، بعد إقصاء مصر عن أدوارها الإقليمية، وتدمير العراق وسورية. وخصوصاً مع التغيرات التي طالت السياسة الخارجية السعودية وتحوّلها من شكلها السياسي الدبلوماسي إلى الشكل العسكري من خلال عاصفة الحزم، وما يبنى عليها. والتي قد تمتد إلى مناطق أخرى في الإقليم، لكنها ما تزال بحاجة إلى مزيد من الوقت والتحضيرات.

وبالعودة إلى الحدث الإرهابي، فليس من الغريب استهداف المسجد النبوي، أو محيط المسجد تحديداً، وخصوصاً أنّ العمليات الإرهابية طالما استهدفت المساجد على اختلاف مذهبها، وخصوصاً أنّ العقلية الإرهابية لهذه التنظيمات تقوم على فكرة أن من لم يبايعها فهو خارج عن الملة، ما يجيز لأصحابها قتل كل أولئك المخالفين، وذلك بعيداً عن البعد السياسي لها.

هنا إذاً، نلحظ إشكالية في استراتيجيات مكافحة الإرهاب في دول الإقليم بأسرها، طالما أنّ العمليات الإرهابية تتكرّر وتطال مرافق حيوية ومشاعر دينية، دون القدرة على رصدها مسبقاً، رغم كمّ الاعتقالات الهائلة التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات في دول الإقليم. فليس المطلوب رصد ملايين الدولارات فحسب، أو استيراد أجهزة متطورة وأساليب تحقيق جديدة، لكن الإشكالية تبدو أعمق من ذلك بكثير:

بدءاً من الإشكالية الفكرية في المنظومة التربوية الدينية والأخلاقية في المجتمعات العربية، سواءً أكانت منظومة تشجع على نمو اتجاهات متطرفة، أو منظومة معاكسة لها تماماً رافضة أو حتى معادية لكل أشكال التديّن، كلا المنظومتين تشكلان رافداً للتنظيمات الإرهابية بشكل غير مباشر. وليس المطلوب هنا إحداث تغييرات في المنظومة التربوية الدينية على النمط الأمريكي الذي فُرِض على دول المنطقة منذ عام 2001، من خلال حذف واقتصاص آيات قرآنية وأحاديث نبوية، باعتبارها مسبباً للإرهاب؛ فحذف النص لا يلغي وجوده ولا يلغي الاستعانة به فكرياً لدى التنظيمات الإرهابية في عملية إعادة أدلجة عناصرها.

عدا عن أنّ سياسة الحذف هي ذاتها سياسة تتبعها التنظيمات الإرهابية، من خلال نسف كل النصوص المناهضة لسلوكها (نصوص التسامح)، باعتبارها نصوصاً منسوخة آنية نزلت في وقت ضعف، عدا عن احتجاج التنظيمات الإرهابية بسلوك المنظومات التربوية الرسمية تجاه النصوص الدينية، لإثبات صحتها لدى أنصارها.

وهنا تبرز الحاجة إلى إعادة التوازن للنصوص الدينية في المناهج التربوية، من خلال توضيح النص ومشابهه ومناقضه إن وجد، وهو ما يسمح بدراسة أكثر وعياً وإدراكاً لمفاهيم الحرب وحمل السلاح وأخلاقياتها، ومفاهيم ذات حساسية عليا كالتكفير، الذي يعتبر إشكالية فكرية كبرى حتى لدى أولئك الذين لم ينضموا إلى القاعدة ومخلفاتها بعد.

المعالجة الفكرية لن تأتي بثمارها سريعاً، بل هي عملية إعادة تأهيل الجيل القادم، وبالتالي هي استراتيجية بعيدة المدى. وتبقى الحاجة إلى استراتيجية رديفة قصيرة ومتوسطة المدى، من خلال معالجة البؤر المنتجة للعناصر الإرهابية، أو التي تستخدمها إيران وسواها في إنتاج هذه العناصر، وهنا نتحدث تحديداً عن سورية والعراق، فطالما أنّ الحرب مستمرة في هذه الدول، في ظلّ استمرار نظام الأسد والنظام الطائفي في العراق وميليشياتهما المنتشرة في المنطقة بأسرها، فإنّ الحاضن الاجتماعي للتنظيمات الإرهابية سيبقى قادراً على التوسّع، تحت حجج نصرة المظلوم. وعليه فإنّ إسقاط هذين النظامين يشكل أولى المعالجة السريعة (قصيرة المدى) للإشكالية الإرهابية في العالم العربي ومحيطه. عدا عن ضرورة إعادة صياغة استراتيجية إقليمية متكاملة لمواجهة إيران وتنظيماتها، على المدى المتوسط.

فيما عدا ذلك، لن نتوقع توقف العمليات الإرهابية، بل ربّما يمكن الحدّ منها نسبياً، أو الحدّ من مناطق انتشارها نسبياً ومؤقتاً، في ظلّ استراتيجية إيرانية متكاملة مبينة على الوصول العسكري إلى مكة المكرمة، وفق جملة أساطير دينية وقومية، وخصوصاً في ظلّ إضافة زخم جديد لهذا المشروع منذ عامين، من خلال محاولة تحويل موسم الحج إلى موسم للتظاهر السياسي الإيراني، المحظور أصلاً داخل إيران، ومحاولة رفع صورة وأعلام وخطابات إيرانية، بل ومحاولة الترويج لمشروع وضع الحرمين تحت وصاية إسلامية يكون لإيران فيها الدور الأكبر، ضمن مشروع يلتبس غطاء دينياً يسعى لتحقيق توسع عسكري وسياسي إيراني/فارسي أكبر في العالم العربي بأسره، وباعتبار السعودية غير قادرة على حماية الحرمين، وهو ما تحاول إثباته من خلال التفجير الإرهابي الأخير في محيط المسجد النبوي.

عبد القادر نعناع

باحث وأكاديمي سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق