البُعد الهُوِيّاتي في السياسة التركية عربياً

أحدثت الثورات العربية تداخلاتٍ إقليميةً ودوليةً مصلحيةً واسعة، أدّت إلى حالة سيولةٍ كبرى داخل النظام الإقليمي العربي، وفكَّكت أمنه القومي، ضمن إعادة تعريفٍ سياسيٍ واقتصاديٍ وهوياتيٍ للمنطقة، يُعبَّر عنه بالنهاية بتفكيكٍ جغرافيٍّ على أسسٍ هُوِيّاتية.

وكما استندت إيران إلى العنصر الهُوِيّاتي الديني في سياساتها الخارجية منذ ثورتها عام 1979، دافعةً إلى أدلجة تلك السياسية، وتحويلها إلى سياسةٍ تصادميةٍ دينيةٍ ضمن نظامها الثيوقراطي، فإنّ تركيا هي الأخرى لجأت إلى الأداة الدينية في سياستها الخارجية منذ التحوِّل الكبير الذي شهدته البِنيَة المؤسّساتية التركية عقب تسلُّم حزب العدالة والتنمية –إخوان مسلمون- الحكم في تركيا.

الفارق هنا، يكمن في النظرة إلى الدين. ففي الحالة الإيرانية، اعتُبِر الدين مُحدِّداً مصلحياً أصيلاً للسياسة الخارجية، تُبنَى عليه الأدوات اللاحقة، ما دفع إلى تعظيم الأدوات الخارجية، وعسكرتها في كثير من دوائر العمل الإيرانية، مترافقةً مع أدلجةٍ قهريةٍ للمجتمعات المستهدفة. فيما كان الدين في الحالة التركية، أداةً من أدوات السياسة الخارجية، تمظهر في مراحله الأولى على شكل قوةٍ ناعمةٍ تعاونيةٍ وثقافيةٍ مع البيئة العربية، دون دفعٍ أيديولوجي كما في الحالة الإيرانية، نتيجة تماثل الهُوِيّة الدينية للأكثرية العربية مع تركيا.

إذ ركّزت تركيا في علاقاتها مع الدول العربية في العقد الماضي، على ضمان وتعظيم مصالحها الاقتصادية بجميع الطرق، بعد انزياحٍ في محور اهتمامها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي باتجاه تفعيل دورها في الدائرة شرق الأوسطية. وواجهت تركيا في مواقفها من الثورات العربية مسائل حدّت من فاعلية سياساتها، والتي تتعلق بالمصالح الاقتصادية وتشابه تركيبتها العرقية والطائفية مع المجتمعات العربية. كما كانت آلية عمل النظام السياسي التركي بِبِنيَته البيروقراطية أحد أهمّ محددات السياسة التركية تجاه الثورات العربية، من خلال معالجة مدخلات الرأي العام التركي، والانتخابات، ومواقف الجيش المتحفظة، ووجود قضيةٍ كرديةٍ في تركيا وفي الدول المتاخمة لها. ويأتي في الدرجة الثانية معالجة مصالح تركيا في المنطقة العربية، ومركزها في حلف الناتو (1).

هذا التمظهر الناعم، تحوّل من دعمٍ غير مباشرٍ إلى تدخّلٍ فعّالٍ بعد وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر أولاً، ومن ثم توظيف الحالات الإنسانية الناجمة عن الثورة السورية، في دعم التوجهات الإسلاموية على حساب الثورة السورية، عبر علائق مع جهاتٍ عسكريةٍ بعينها، يتم إمدادها لوجستياً من خلف الحدود، وتيسير دخولها، وتنقلها على طرفي الحدود. ورغم عدم اتضاح تلك العلاقات بشكل كامل بعد، إلّا أنّ لتركيا درواً في صناعة بعض الجهات المتطرفة دينياً داخل المسألة السورية، كما فعلت إيران تماماً.

وخاصّة، أنّ تركيا قد سبق لها وأن بذلت جهوداً كبيرة في إقناع الغرب، والولايات المتحدة تحديداً، بأنّ صعود تيار الإخوان المسلمين في الدول العربية ستكون له فوائد كبيرة، وأنّه لا محل لتخوّف الغرب منهم. وتقوم أطروحة تركيا على أنّ أنظمة الحكم العربية السابقة قد أثبتت فشلها السياسي والاقتصادي ونتائج ذلك مزيد من التطرّف بين الشباب؛ ممّا سيقود إلى انفجارٍ غير معروف النتائج. ولتفادي ذلك لابدّ من تشجيع المجتمع المدني وحمايته لإحداث التغيير والتحوّل الديمقراطي، ولأنّ الإخوان المسلمين هم الأكثر تنظيماً فلا شكّ من تصدرهم لأيّة مساحةٍ ديمقراطية. والإخوان المسلمون، وفقاً للطرح التركي، والذي يبدو أن الغرب قد اقتنع به حينها، سيكونون الأقدر فكرياً ودينياً على محاربة الإرهاب وسيكونون معادين لإيران وحلفاء للغرب (2).

وهو ما أثبتت التجربة خلافه تماماً، بانزياحاتٍ أيديولوجيةٍ نحو إيران، وإطلاق حرية الفكر في اتجاهٍ واحد، أي الاتجاه الديني، الذي شمل فيما شمله تحرّر الاتجاهات المتطرفة من الرقابة السلطوية.

يأتي هذا التوجه الإسلاموي التركي نحو البيئة العربية، كرديف، أو كحلٍّ احتياطيٍ للتوسعية التركية، فيما عُرِف بالعثمانية الجديدة. ففيما كانت ترنو إلى الانضمام إلى منظومة الاتحاد الأوروبي، المناقِضَة لها قِيَمِيّاً على المستوى الديني والثقافي، فإنّ تأجيل هذه الانضمام من داخل المنظومة، عبر معارضاتٍ عدّة، أبرزها المعارضة الفرنسية، دفع حزب العدالة إلى البحث عن بدائل توسعية، برزت في البيئة العربية المنهكة، عبر استعارة التاريخ العثماني الذي تحوّل نحو المجال العربي عام 1516، بعد إخفاقه عن تحقيق مزيدٍ من التقدم في أوروبا.

وتشكل البيئة العربية بعداً آخر للسياسة التركية، من حيث تثقيل وزنها النسبي في النظام الدولي، في حال فرض هيمنةٍ على هذه البيئة والتحكّم بمفاصلها السياسية، وهو ذات النهج الذي تشتغل عليه إيران أيضاً منذ عقود. لذا تمظهرت سياسة (صفر مشاكل) التي ابتدعها أوغلو، كمدخلٍ رئيسٍ في تصفية الخلافات القديمة، وتأسيس قواعد بِنيَانيّة لهذه السياسة التوسعية، قبل أن تصطدم بمتغيرات الثورات العربية.

لذا كانت تركيا من أوائل الدول التي أيّدت التحولات الديمقراطية في الدول العربية. وأعلن مسئولون أتراك مراراً أنّ تركيا تتبنّى موقفاً شفافاً في هذا الإطار، وهو الدعوة إلى إدخال إصلاحات ديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، وتوسيع الحريات. وأنّ التغيير الذي حدث في مصر وتونس وليبيا واليمن وسورية كان “يجب أن يجري منذ زمن طويل نظراً للتهميش الطويل للديمقراطية، وعدم احترام حقوق الإنسان، وغياب الحريات الأساسية (3)“.

غير أنّ النظرية التركية في التعاطي مع المتغيرات الثورية العربية، كانت قاصرةً عن استدراك نقاط الاختلاف بين النموذجين التركي والعربي، ففيما يعمل حزب العدالة الإخواني، في ظلّ نظامٍ مُأَصّلٍ علمانياً وديمقراطياً منذ قرابة قرن، فإنّ البيئة الثورية العربية كانت بيئةً استبداديةً لم تُفسِح المجال لبناء فكرٍ تداوليٍّ في المجتمع العربي، وتفتقر إلى مفهوم المشاركة في الإدارة، وقبول التعدّد والتنوع. عدا عن أنّ الحالة ما بعد الثورية شهدت أزماتٍ في بِنيَة الدولة العربية، مَورُوثةً أو مُستحدَثة، لم يكن بالإمكان البناء عليها بشكل استفرادي، كما فعل حزب العدالة في تركيا.

يُضاف إلى ذلك، انهيار قيم المواطنة، بعد فشل تلك الدول العربية، في أدوارها الداخلية والخارجية، وفقدان عنصر الأمان الفردي، ما دفع كثيراً من المجتمعات إلى العودة إلى ولاءاتها القَبْلِيَّة العُصبويّة، الدينية والمذهبية والعرقية والقَبَلِية، في محاولةٍ لتحصين الذات.

هذا تحديداً، ما أنتج نجاحاً إخوانياً أوّلياً في الوصول إلى السلطة نتيجة التوظيف الديني للقيم المجتمعية، في مجتمع لم يُمارس العملية السياسية بعد، وأنتج بالتالي استفراداً دينياً إخوانياً بالسلطة، بناءً على البِنيَة الفكرية السائدة عربياً. ودفعت تركيا إلى محاولة ترسيخه بغضّ النظر عن سلوكيات هذه الجماعات الاستفرادية من جهة، وإلى تعظيم الإفادة منه، بمحاولة خلق محورٍ تركي داخل البيئة العربية على غرار محور “المقاومة والممانعة” الإيراني.

فشل الإدارة الإخوانية، وإسقاطها أولاً في مصر، وإخفاقها في سورية في الإطاحة باستبدادية الأسد المدعومة هي الأخرى هُوِيّاتِياً عبر ميليشيات إيران، وعدم قدرتها على تشكيل محورٍ ديمقراطيٍ عربي، بل ظلّت مرتكزةً على البِنيَة التقليدية العُصبوية، دفع تركيا إلى إعادة ترتيب أدواتها، بالانتقال إلى مرحلة التحالفات الحزبية أو الفردية دون الدولة، سواءً من خلال استضافة العناصر الإخوانية الفارّة من مصر أو المُرَحَّلَة من قطر، لتتحوّل من حالة بناء محورٍ تركي-عربي، إلى حالة تهيئة أدواتٍ تدخّليةً هُوِيّاتِيةً لاحقةً، عبر إعادة ضخّ هذه العناصر في المجتمعات العربية حين تسنح الفرصة لذلك.

يبقى أنّ البعد الديني في السياسية التركية عربياً، هو الأداة الوحيدة المتاحة قبل توظيف المداخل الإنسانية الناجمة عن الثورات، لذا تمّ البناء عليه عربياً، لتسهيل حالات الاختراق. فيما يغيب هذا البعد عن سياسات تركيا أوروبياً خاصةً ودولياً بشكل عام، على خلاف إيران التي تستند إليه في كافّة مفاصل سياساتها، رغم تمظهرات المصلحيّة التي تحاول سَوقَها.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

مراجع:

(1) “التوازنات والتفاعلات الجيوستراتيجية والثورات العربية”، تحليل سياسات (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، إبريل 2012)، ص 16.

(2) أحمد عبد الكريم سيف، “إشكالية التدخلات الإقليمية والدولية في تجارب التحول الديمقراطية”، مركز الجزيرة للدراسات، 14/2/2013.

(3) إيلاف، “تركيا تدعم التحولات الديمقراطيّة في العالم العربي”، في:http://www.elaph.com/Web/news/2011/3/642939.html .

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق