الإمارات بعد 25 عاماً

حين يدور الحديث عن التنمية البشرية، يقفز إلى الواجهة موضوع التعليم، بكل مراحله وتشعباته وأنماطه وأساليبه ومحتواه، فلكل عنصر من هذه العناصر خصوصية وفلسفة ومنهج وطريقة وإدارة، وتتداخل وتتبادل وتتكامل هذه العناصر مع بعضها حتى تتوحد وتصب في بوتقة واحدة، حيث المخرجات تؤكد سلامة التوجه والمنهج والأسلوب والمحتوى والفلسفة، حين تدخل سوق العمل، هنا المختبر الحقيقي والمحك للمعلم والمتعلم والإداري والبيئة والعلاقة بين المدرسة والجامعة من جهة، والمجتمع والأسرة من جهة أخرى .

والتعليم منذ بناء الدولة وتأسيسها على يد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، وإخوانه قادة الإمارات، وهو يتعاظم نوعاً وكماً، في التعليم العام والجامعي والدراسات العليا، ولم يكن ليتحقق هذا التصاعد لولا العمل ضمن استراتيجية تخاطب المستقبل وتحدياته .

الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ألقى كلمة جوهرية ذات بعد كيانيّ ووطنيّ في القمة الحكومية الثالثة التي عقدت في دبي في الفترة من 9-11 فبراير/شباط ،2015 ذكر فيها أن للإمارات رؤية واستراتيجية شاملة ومتكاملة، محورها تنمية الموارد البشرية المواطنة التي نراهن عليها، لمواجهة التحديات وضمان مستقبل زاهر للأجيال القادمة . وشرح سموه ماذا يعني باستراتيجية المستقبل حين حدد: (إننا اليوم نفكر ونخطط لخمسين سنة مقبلة، ولمصلحة الأجيال، عبر بناء اقتصاد متنوع ومتين ومستدام لا يعتمد على الموارد التقليدية، ويفتح آفاقاً واعدة تسهم في تعزيز مقومات وقدرات الدولة) .

بعد خمسين سنة مقبلة، ووفق توقعات خبراء الجيولوجيا، ستكون الإمارات قد استهلكت مخزونها من النفط، أي كما أوضح الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في كلمته، ستقوم الإمارات بتصدير آخر برميل من النفط . وهنا تكمن التحديات، وفي تلك اللحظة ليست بالبعيدة وفق التفكير الاستراتيجي المستقبلي، سيتم اختبار الجهود المبذولة في التنمية البشرية، واختبار سياسات التنويع في المصادر لدعم اقتصادنا الوطني، والأكثر من ذلك، سيتم اختبار نوعية التعليم الذي تم توفيره للأجيال، هل كان تعليماً من أجل المستقبل؟ أم كان مجرد حشو معلومات في رؤوس الطلاب؟ وبمعنى آخر: هل كان تعليماً ابتكارياً يحقق حاجات الأجيال في زمن غياب النفط؟ أم كان تعليماً تقليدياً يحاكي اللحظة الراهنة فقط؟

الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان أكد ضرورة الاستثمار في التعليم، ووصفه بالقطاع المهم في صياغة وصناعة المستقبل، وحدّد مرة أخرى بالأرقام حين قال: “هناك تحديات كبيرة لقطاع التعليم، وضرورة وجود رؤية واضحة لاستراتيجية التعليم للسنوات ال 25 المقبلة وتنمية الكوادر البشرية المستقبلية” .

لماذا 25 عاماً؟ لأن ما سيتم فيها ستظهر نتائجه في ال25 عاماً التي تليها، فإذا لم يتم الاستعداد لمواجهة التحديات، وطرح الحلول، والتفكير بطريقة استراتيجية مستقبلية خلال العقدين والنصف القادمين، فإن المرحلة التي ستليها لن تكون في مأمن، خاصة أنه من المتعارف عليه، وحين يتحدثون عن الأجيال، فإن ال25 عاماً تعتبر جيلاً واحداً، أي أن الأجيال تخدم بعضها بعضاً، فهذا الجيل الذي سينشأ خلال ال25 عاماً المقبلة، سيخدم الجيل الذي سيليه، وكأنها معادلة محكمة، أو منتجٌ يدخل عناصره ومكوناته من هذا الباب، ليخرج المنتج بعد معالجته من الباب الآخر، والطالب هو مُنتج في معنى من المعاني، ومحصلة كل الخبرات والمعارف والممارسات المحلية والعالمية، وخلاصة للمهارات والعلوم وطرائق التفكير ومكونات الثقافات، فبعد خمسين عاماً، سيكون العالم مختلفاً في بيئته وإنجازاته العلمية والفكرية، وسيكون سوق العمل مختلفاً كلياً، ووسائل الإنتاج ستكون مختلفة ومتطورة بشكل لا يصدقه عقلنا الحالي، الذي يشهد بعض الإنجازات، لأن ما ليس في أيدينا هو أضعاف ما بأيدينا، وما تجري عليه التجارب في السر أكبر مما نراه في الجهر .

وشرح الفريق أول سمو ولي عهد أبوظبي، المسألة ببساطة فقال: “رهاننا الحقيقي في الفترة المقبلة هو الاستثمار في التعليم . نحن نعيش فترة لدينا فيها خير، ويجب أن نستثمر كل إمكاناتنا في التعليم، لأنه سيأتي وقت بعد خمسين سنة، ونحن نحمّل آخر برميل نفط للتصدير، وسيأتي السؤال: هل سنحزن وقتها؟ إذا كان الاستثمار اليوم في مواردنا البشرية صحيحاً، فأنا أراهن أننا سنحتفل بتلك اللحظة” . لا شك في أن هناك تحديات كثيرة في التعليم، ولكن لابد أن تكون هناك رؤية واضحة للقيادة العليا لمخرجات التعليم، والتخطيط لمواردنا البشرية لأكثر من 25 سنة مقبلة .

مخرجات التعليم إذن، هي المقياس والمحك، وسموه يلفت الانتباه إلى التحديات التي تواجه المخرجات التعليمية، ولا شك في أن سموه اطلع على التقارير التي تتحدث عن ميل نسبة كبيرة من الطلاب للتخصص في الدراسات الأدبية والإنسانية، ونسبة قليلة تتخصص في المجالات العلمية . وسموه مدرك تماماً لمعطيات العصر المقبل، الذي سيعتمد على العلم والتكنولوجيا الرقمية، والابتكارات الطبية والهندسية والفيزيائية والبيئية، وإنه يوجه الطلاب بشكل غير مباشر للتخصص العلمي، مع التأكيد على عدم إهمال المجالات الفكرية والإنسانية .

التنمية البشرية مفهوم شامل، ووحده الاستثمار في التعليم على نحوٍ جاد ومتطور سيؤدي إلى إنجاح السياسات التنموية في المجالات جميعها، ولدى دولة الإمارات العربية المتحدة مؤسسات تعليمية متقدمة ومتطورة ذات معايير عالمية، تتوزع في مدن الدولة كافة، وما على قيادات التعليم والمخططين للموارد البشرية سوى القيام بحملة إرشادية توجيهية لشرح ما تفضل به الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ومناقشة ماذا يجب أن يتحقق في ال25 عاماً المقبلة، وذلك بأسلوب إدارة الأزمة، ومنطق مواجهة التحديات، وبإحساس من يواجه عصراً جديداً قد يكون له أسلوبه الخاص في الحياة . فبعد خمسين عاماً لن تكون هناك ثروة نفطية، وإنما ثروة بشرية ذات كفاءة عالية تحاكى متطلبات المستقبل وتحدياته، والأمر ليس غريباً ولا مستحيلاً أبداً، وهناك شواهد عديدة لبلدان متفوقة اقتصادياً وعلمياً وليس فيها ثروة نفطية، بل ليس لديها ثروات طبيعية من أي نوع قادرة على أن تشكل مصدراً واحداً لحياة شعب، مثل اليابان، التي تعتمد كلياً على مواردها البشرية في تسيير اقتصاد متقدم . ولا ينقص الإمارات ولا شعبها أي شيء كي تصبح دولة مثل اليابان، مستندة إلى مواردها البشرية، لكن العمل يجب أن يبدأ الآن، لتصبح الخمس والعشرين سنة المقبلة مختبراً حقيقياً لولادة دولة متقدمة، تعتمد على مواردها البشرية المواطنة وليس النفط .

عبدالله السويجي

نقلا عن الخليج

 

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق