الأسد ما بين روسيا وإيران

تسعى روسيا إلى تصدر المشهد شرق الأوسطي من جديد، عبر محاولة طرح مبادرة هشة تخترق المسألة السورية وتؤسس لمسارات سياسية جديدة، من خلال التقارب مع شخصيات تعتبر نفسها معارضة لنظام الأسد، وعبر الإيحاء بعدم تمسك موسكو باستمرارية الأسد في السلطة، بل والبحث عن بدائل تقوم على المزاوجة بين نظام الأسد ومعارضين “معتدلين” له. بمعنى إعادة إنتاج نظام الأسد عبر البناء عليه دون استبدال يذكر، سوى في رأسه، وباعتماد ذات العلائق البينية داخله.

وكأن المشكلة هي شخص الأسد ذاته، وليس في طبيعة نظامه الطغياني الذي يمتد لقرابة نصف قرن، والمُمَأسَس أصلاً على القمع المجتمعي، وعلى الذهنية العصبوية الطائفية والمصلحية والحزبية، والتي لم تكتفِ بتدمير الدولة السورية فحسب، بل تجاوزتها إلى تدمير البنيان الاجتماعي التوافقي، عبر تعزيز خطوط الفصل الهوياتي بين مكونات المجتمع من جهة، قبل الانتقال إلى تفكيك القيم المجتمعية واستبدالها بقيم تكرس حالة الطغيان الأبدي، وهو ما أنتج حالة مرضية ما تزال آثارها قائمة حتى في الأوساط الثورية.

وعلى فرض أنّ المسعى الروسي جاد هذه المرة -وهو ليس كذلك- في إحداث اختراقات تسمح بتخفيف حالة الاحتراب القائمة في سورية، وعلى فرض جدية الأطراف المساهمة في المسعى الروسي، فإن جملة تساؤلات تبقى مضادة لهذا المسعى.

إذ هل تسمح روسيا بحالة تهدئة حقيقية، تؤسس لإعادة إنتاج الدولة وفق أطر ديمقراطية، فيما هي ذاتها تعمل على إعادة إنتاج دولة على النمط الاستبدادي السوفييتي داخل روسيا؟

وهل تتخلى روسيا عن المكاسب الدولية التي تحرزها عبر انخراطها القوي في إعادة تشكيل النظام الدولي، من خلال إحداث حالة من التهدئة في أكثر بقاع العالم سخونة اليوم، فيما هي تحتاج إلى توسيع تلك البؤر بغية مزيد من الضغط على الولايات المتحدة المنهكة دولياً هي الأخرى؟

وإن كانت مستعدة لتجاوز التساؤلين السابقين فعلياً، فهل ستمنح أدواراً لمنافسيها في الشرق الأوسط، لاختلاق مسارات التهدئة تلك، عبر السماح للولايات المتحدة وتركيا بلعب أدوار وسائطية لدى الجهات المعارضة؟

وهل تملك روسيا ومنافسوها القدرة على ضبط كافة الأطراف المشاركة في حالة الاحتراب، أم أن الخروج عن المسعى الروسي، سيتم تأطيره في الحرب الدولية الجديدة على “الإرهاب”؟

وحتى لو افترضنا أن جميع التساؤلات السابقة كانت ذات نتائج إيجابية، فهل يعني تخلي روسيا عن الأسد، تخلياً إيرانياً في المقابل عنه كذلك. وخاصة أنّ إيران تعتقد أنها باتت اللاعب شرق الأوسطي الأهم حالياً، وأنّها هي من يحدد مسارات المستقبل السياسي، في المشرق العربي واليمن، بل وحتى بامتدادات داخل الخليج العربي.

لا تحتاج إيران إلى الأسد أكثر مما كانت تحتاج إلى المالكي، فهو بالنتيجة أداة وظيفية ضمن مشروعها الامبريالي في البيئة العربية، لكنه أكثر أهمية من نظيره العراقي لناحية أنّ الملف السوري بات ملف الاشتباك الدولي الأول، وعليه تبني إيران ملفاتها الأخرى، ضمن عملية مساومة لانتزاع أكبر قدر من المصالح في البيئة الدولية، وربما يكون التخلي عن الأسد لصالح شخصية من داخل نظامه وبذات الانتماء العصبوي الطائفي، مرحلة لاحقة لمكاسب في الملف النووي أو في ملف الهيمنة في المجال العربي.

وعلى فرض أنّ روسيا وإيران، وبعد استحصال مكاسب كبرى دولياً، وهو ما يحتاج لأشهر أو سنوات من عمليات الضغط والمساومة، مستعدة للتخلي عن الأسد، فهل يعني ذلك بالمحصلة انتهاء الحرب القائمة في المشرق العربي؟

لا يحمل العام المقبل (2015) أية مؤشرات إيجابية لتلك التساؤلات، بل على العكس تماماً، فإنّ الأزمة التي ابتدأت بثورات الربيع العربي، اتسعت نحو أزمة إقليمية، وباتت إحدى الأزمات الحادة في بينة النظام الدولي ذاته، دافعة إياه نحو حالات تصادمية أوسع مما كانت عليه، لتشمل لاحقاً بؤراً جغرافية أبعد من سورية والعراق، بل لربما أبعد من المنطقة العربية بأسرها، كما برز ذلك بشكل أولي في أوكرانيا.

بالنتيجة فإن استبدال الأسد –إن حصل- بشخصية من داخل نظامه، وبموافقة إيرانية-روسية، لا يعني مطلقاً الإطاحة بنظامه ذي البعد الوظيفي لكلا الدولتين، بل محاولة لضخ دماء جديدة قادرة على المحافظة على حالة الاشتباك القائم دولياً، بما يعزز نفوذهما، وخاصة أنّ الوقت ما زال مبكراً لتنافر المصالح الروسية-الإيرانية.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق