إشكاليات التنمية في إيران: (2) دراسة كمية مقارنة في المؤشرات التنموية

قدم الجزء الأول من هذه الدراسة، تحليلاً كمياً في المؤشرات السياسية الدالة على النظام الإيراني، بالمقارنة مع نماذج مختارة شكّلت عيّنات مختلفة من جوار إيران العربي والإقليمي (إسرائيل، تركيا، الإمارات، باكستان)، وعيّنات أخرى (كوريا الجنوبية، تونس قبل الثورة وبعدها).

وأوضحت تلك المؤشرات تخلّف إيران السياسي عن كافة النماذج المدروسة، وعن سلطوية نظامها السياسي، وتفشّي حالتي الاستبداد والفساد بنسب عالية جداً، جاوزت النسب التي شهدتها تونس قبيل ثورتها، والتي كان لها بالغ الأثر في تشكل الوعي الثوري في البيئة العربية والدفع مُثَقَّلة بالعوامل التنموية إلى الإطاحة بعدة أنظمة عربية متهالكة.

وإن كانت المؤشرات السياسية أكثر مرونة من سواها، بحيث تتجاوب مع المتغيرات بسرعة كبيرة، إذ يمكن أن تشهد صعوداً وهبوطاً خلال أشهر من السلوك السياسي الحكومي، ووفقاً لقرارات صادرة من الأعلى إلى الأسفل؛ فإنّ المؤشرات التنموية الاقتصادية والاجتماعية ذات مرونة محدودة بالمقارنة بها.

فانعكاس المتغيرات الداخلية والخارجية على الحالة التنموية لا يكتمل إلاّ بعد سنوات عدة، فلم تظهر آثار الحرب العراقية-الإيرانية واضحة في الناتج التنموي الإيراني بشكل جليّ إلاّ في نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي. كما أنّ نهاية تلك الحرب واستقرار إيران وإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية وانفتاحها الخارجي الجزئي، أحدث أثراً تنموياً في نهاية القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي.

لذا فإنّ التخبطات السياسية والاندفاعات العسكرية الإيرانية في المحيط العربي، عدا عن حالة التصعيد في المجالين الإقليمي والدولي طيلة العقد الفائت، وتوسّع الحظر الدولي عليها، أنتج مؤشرات تنموية متراجعة مع بداية هذا العقد، وليس لها أن تُعاود التقدّم إلاّ بعد سنوات من رفع الحظر المفروض عليها. في وقت تزداد فيه المعاناة المجتمعية داخل إيران.

ولابدّ أن ننوه إلى الآثار المترتبة على المؤشرات السياسية والتنموية، فللأولى دور في تشكل الوعي المجتمعي الدافع لفهم المحيط السياسي للمواطن الإيراني، أما الثانية فهي الدافعة للحراك المجتمعي، نتيجة اشتداد حالة البؤس الواقعة على المواطن، وعدم قدرته على التعايش مع النسق دائم التراجع.

وإن كانت النماذج المقارنة المدروسة، قد شكلت ضرورة لفهم موقع إيران على سلم المؤشرات السياسية، كما تمّ توضيحه في الجزء الأول، فإنّ هذه النماذج تكتسب بعداً إضافياً من خلال تصنيفها إلى المجموعات التالية:

1-  دول ذات تنمية عالية: الإمارات، كوريا الجنوبية، إسرائيل.

2-  دول ذات تنمية متوسطة: إيران، تركيا، تونس.

3-  دول ذات تنمية منخفضة: باكستان.

حيث تمّ اعتماد المؤشرات الصادرة عن البرنامج الإنمائي التابع لمنظمة الأمم المتحدة، منذ بداية العقد السابق إلى عام 2012. مع العودة إلى أعوام سابقة لتبيان حجم التطور في المؤشرات الإيرانية وفق العامل الزمني.

وسيتمّ ملاحظة تقدّم إيران على باكستان في غالبية المؤشرات التنموية، وتبادل الأدوار مع كل من تونس قبيل ثورتها، وتركيا. فيما ستتخلف عن نماذج الدول ذات التنمية العالية. عدا عن تراجع المؤشرات الإيرانية في المقارنة الزمانية. وذلك في المؤشرات التالية:

–      دليل التنمية البشرية.

–      مؤشرات الدخل القومي والفردي.

–      مؤشرات النفقات الحكومية.

–      مؤشرات التشغيل.

–      مؤشرات الصحة.

–      مؤشرات المعرفة.

–      مؤشرات الرضا المجتمعي.

على أنه سيتمّ تجاوز مؤشرات المساواة بين الجنسين، حيث نعمد إلى تخصيص دراسة مستقلة لاحقاً عن الأضرار الواقعة على المرأة الإيرانية، وباعتبارها إحدى أهمّ الشرائح المستضعفة في إيران، ويتجلى ذلك في تراجع المساواة مع الرجل، سواء بالمقارنتين الزمانية أو المكانية ذاتهما. كما سيتمّ استعراض المؤشرات السياسية الصادرة عن الأمم المتحدة، لإدراك ارتباطها بالمؤشرات التنموية، والأثر المتبادل فيما بينهما.

أولاً- في المؤشرات السياسية:

تؤكّد مؤشرات البرنامج الإنمائي لمنظمة الأمم المتحدة، ما ذهبت إليه المؤشرات السابقة في الجزء الأول من هذه الدراسة، على تراجع الأداء السياسي للنظام الإيراني، إلى مراتب متدنية عالمياً، وإن لم تكن بحجم التفصيل الوارد في سابقتها.

فعلى مؤشر انتهاكات حقوق الإنسان لعام 2008، سجلت إيران قيمة (4) نقاط، من أصل الحد الأشد لتلك الانتهاكات (5) نقاط. متخلفة عن كافة النماذج المقارنة، ولم تتساوى في ذلك إلاّ مع باكستان. فيما سجلت كوريا الجنوبية والإمارات القيمة المقارنة الأفضل (2) نقطتان.

ورغم التفوق العسكري الباكستاني في عدّة مجالات، إلا أنّنا سنلاحظ حجم الإنهاك السياسي والمجتمعي اللاحق بالدولة، والتي جعلتها في مصاف الدول المتلقية للمعونات، وخاصة من الإمارات. لذا فإنّ وضعها المقارن بإيران، يبدو طبيعياً. بل إنّ استمرار التراجع الإيراني، كما ستوضّح عدة مؤشرات، قد يُنبِأ باقتراب إيران من الحالة الباكستانية، وبالتالي قابليتها للتحول إلى دولة متلقية للمعونات في ظلّ الإنهاك الحكومي والمجتمعي معاً. كما إنّ مؤشرها هذا قد تجاوز مؤشر تونس قبل الثورة (3) نقاط، والذي كان دافعاً لتشكل وعي سياسي ثوري عابر للحدود.

index10

وقد سجلت إيران أدنى قيمة مقارنة في مؤشر احترام الحريات الصحفية لعام 2008، وذلك من خلال (104.1) نقطة. متخلفة عن كافة الدول الأخرى. فيما كانت كوريا والإمارات الأكثر احتراماً لتلك الحريات بقيمتي (15.7) نقطة و (21.5) نقطة على التوالي. ونذكر أنّ هذا المؤشر يشكل دليلاً على مقدار ثقة النظام السياسي بذاته وبالمجتمع، وقدرته على التجاوب مع ضغوط البيئة الداخلية. ومنه يمكن استشراف حجم شرعية النظام ذاته.

index11

فانعدام الديمقراطية، مع توسع انتهاكات حقوق الإنسان، وغياب الحريات الصحفية، هو ما يساعد على تشكيل نظام ديكتاتوري مطلق، قابل لمواجهة ثورة المجتمعية، في ظلّ مؤشرات اجتماعية واقتصادية منهكة بدورها. حيث سجلت إيران (0) نقطة من أصل (2) نقطتين على مؤشر الديمقراطية الصادر عن الأمم المتحدة لعام 2008.

index12

ثانياً- دليل التنمية البشرية:

وفي ظل هذا النظام السياسي الاستبدادي، يبدو منطقياً تراجع المؤشرات التنموية في الصعد الاجتماعية والاقتصادية. والتي يستدل عليها من خلال المؤشر العام للتنمية والمؤشرات الفرعية المشكلة له. فبعد أن شهدت إيران تقدماً في ترتيبها العالمي على هذا المؤشر من المرتبة (99) عام 2003 إلى المرتبة (70) عام 2010، عاودت تراجعها إلى المرتبة (76) عالمياً عام 2012. ويوحي مسار التنمية إلى إمكانية استمرار هذا التراجع في السنوات القليلة القادمة، في حال بقاء الأوضاع الإيرانية على حالها.

index13

حيث يشهد النمو الإيراني في مؤشر التنمية تباطأً كبيراً منذ عام 1980، اشتدت حدته بعد عام 1990. ورغم ارتفاع قيمة المؤشر من (0.433) عام 1980، إلى قيمة (0.742) لعام 2012، إلا أن هذا الارتفاع يأخذ منحى متراجعاً من متوسط سنوي بلغ 1.99% عام 1980، إلى متوسط سنوي لم يتجاوز 1.05% في الفترة 2000-2013. مع ميل نحو مزيد من التراجع.

index14

ولم تستطع إيران تجاوز موقعها التنموي المقارن طيلة الفترة الممتدة بين أعوام 1980-2012. وشهد هذا المؤشر أعلى نقطة له عام 2003، ليعود الانحدار ثانية. متساوياً بشكل تقريبي مع كل من تركيا وتونس، وإن كان يتقدم عليهما بفارق بسيط عام 2012، إلا أنّ مساره يوحي بتراجعه في مقابلهما في الأعوام المقبلة.

index15

ثالثاً- مؤشرات الدخل القومي والفردي

إن موقع الدول على دليل التنمية البشرية، يرتبط بشكل كبير بحجم الدخل القومي (المحلي) الإجمالي لها. لذا تصطف غالبية دول إفريقيا الفقيرة في ذيل قائمة التنمية البشرية. فيما تتصدر الدول الغربية الغنية هذه القائمة. لكنّ إيران تُعتبَر الاستثناء في هذه القاعدة. إذ رغم دخلها المرتفع (من عائدات النفط بشكل أساسي) والذي بلغ 765.2 مليار دولار عام 2011، إلا أنّ موقعها التنموي استمر في مرتبة متوسطة دون أن يرتقي إلى مصاف الدول ذات الدخل العالي. ورغم تقدمها على معظم النماذج المقارنة، إلا أنّ تأخرها في التنمية البشرية يؤكد على حجم الإنهاك المؤسساتي عبر آلياتي الفساد والاستبداد التي تتغلغل في بنية النظام الإيراني، بحيث لا ينعكس هذا الدخل المرتفع على أوضاع السكان.

index16

ويدل على ذلك مؤشر متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي. دون أن يعني ما يحصل عليه الفرد حقيقة. إذ غالباً ما يحصل الفرد على متوسط أعلى منه في الدول الغنية، وأقل منه في الدول الفقيرة أو ذات مستويات الفساد العالية. وهنا تعود إيران إلى مراتب متأخرة وفق النماذج المقارنة. بمتوسط نصيب لا يتجاوز 10695 دولار لعام 2012.

index17

وترتبط قيمة هذا المؤشر بحجم السكان في البلد، وعليه فإن الدخل المرتفع مع حجم سكان مرتفع، يؤدي إلى انخفاض متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي. ما يعني انخفاض قوة الدولة على هذا الصعيد. في مقابل ارتفاع هذا المؤشر في دول ذات داخل أقل بكثير من إيران. ليصل في الإمارات إلى 42716 دولار، أما تونس ذات الدخل المنخفض الذي لا يتجاوز 12% من الدخل الإيراني، فقد قارب المتوسط الفردي فيها المتوسط الإيراني بقيمة 8130 دولار.

وبعيداً عن تأثير حجم السكان على هذا المؤشر، فإن هذا المؤشر يشهد تراجعاً في إيران منذ عام 2010 من قيمة 11764 دولار إلى 10695 دولار، معاكساً حالة الارتفاع في الدخل القومي الإجمالي.

index18

وهو ما سينعكس بالتالي على حجم النفقات الحكومية في كافة القطاعات، والتي تشكل أساس العملية التنموية في الدولة.

index19

رابعاً- مؤشرات الإنفاق الحكومي:

شهد الإنفاق الحكومي على القطاعات المجتمعية الأساسية تراجعات تزداد باضطراد، بعد عقد التقدم السابق. وهو ما يطرح تساؤلات عن مصير الدخل القومي الذي تتحصل عليه الدولة من جهة، وعن حصة الدولة ذاتها من هذا الدخل، وتراجع نصيبها منه نتيجة العقوبات التي فُرِضت عليها من جهة أخرى، وعن حجم الفساد والاعتداء على المال العام من جهة ثالثة.

فعلى مستوى الإنفاق الحكومي على الصحة، لم تنفق الحكومة الإيرانية سوى 2.2% من الدخل القومي، متراجعة عن أفضل قيمة حققتها 3% عام 2007. كما تراجع الإنفاق على التعليم إلى 4.7% عام 2010، بعد أن سجل نسبة 4.9% عام 2002. فيما بقي الإنفاق على البحوث والتطوير أدنى من 1% طيلة العقد الماضي. وهي نسبة لا تتوافق مع التوجهات السياسية والعسكرية التي تعلن عنها الدولة.

وطالما قدم النظام الإيراني استعراضات عسكرية عن حجم التصنيع العسكري التقليدي، وعن ضخّ أموال هائلة في محاولة الانتقال بالبرنامج النووي إلى المرحلة العسكرية. عدا عن إعلانه المستمر عن توسيع صفقات السلاح مع روسيا والصين. عدا عن توسيع مساعداته لحلفائه وأتباعه في العالم العربي، والاشتراك مباشرة في العمليات العسكرية الداعمة لهم في المنطقة.

لكن ما يناقض تلك الوقائع، هو حجم الإنفاق الحكومي على الأغراض العسكرية كافة، سواء أكانت تسليحية أم لوجستية، إذ انخفض هذا الإنفاق إلى 1.8% لعام 2010، بعد أن بلغ نسبته الأعلى 3.8% عام 2003، وهو العام الذي بدأ يشهد تراجعاً مستمراً في هذا الإنفاق. وهو ما يؤكد حجم البروبوغاندا التي يعمد إليها النظام الإيراني، مقابل وقائع تؤكد توسع الانهيارات المؤسسية داخله.

إذ تفوقت كافة النماذج المقارنة (عدا تونس)، في تخصيص نسب إنفاق حكومي تتجاوز التخصيصات الإيرانية بشكل كبير، وبلغ في دولة الإمارات 6.9% من إجمال الدخل القومي.

index20

ولربما تتراجع مؤشرات دولة إقليمية كبرى في نسب الإنفاق الحكومي على المجتمع، لصالح توسيعها في المجال العسكري، وخاصة إن كانت في صدد مشروع توسّعي في المجال المحيط بها. لكن أن تتراجع كافة مستويات النفقات الحكومية، حتى في المجال العسكري، في نموذج مثل إيران؛ فذلك يشكل نقطة انفصال النظام عن مجتمعه من جهة، وعن واقعه الإقليمي من جهة أخرى، وعدم قدرته على البقاء بشكل القائم، في المديين المتوسط أو البعيد. ومن ذلك نذهب إلى أنّ شرعية النظام الإيراني لا تقوم إلا على عنصر العنف الموجه ضدّ المجتمع في قمع وسلب لكافة حقوقه الإنسانية. ويظهر ذلك واضحاً في الانعكاسات المجتمعية التالية.

 

خامساً- مؤشرات حجم التشغيل

تمثل أولى الانعكاسات المجتمعية للتناقضات الواقعة في دليل التنمية البشرية الإيراني، تلك المتعلقة بحجم البطالة ممن يحملون شهادة ثانوية أو أعلى، أي على المستوى المهني المتوسط والعالي. حيث سجّل هذا المؤشر نسبة 33.2% منهم في حالة بطالة في الفترة 2005-2011، بفارق كبير جداً عن أقرب نموذج مقارن لها وهو تركيا 22.4%.

فالأعمال اليدوية والشاقة وغير المرتبطة بمستوى التعليم هي المتوفرة للسكان في إيران أكثر من سواها، كحال الدول شديدة الفقر، عدا عن محدودية مردودها.

index21

ولا تشكل نسبة العاملين في إيران إلى مجموع السكان، سوى 46.1% لعام 2011، وفي حالة تراجع عن أعلى نسبة بلغتها 48.9% عام 2008. وهو ما يشكل ضغطاً على العامل المعيل لشخصين اثنين، في ظل دخل مالي متدنٍ أصلاً، ناجم عن أعمال لا تليق بمستوى تعليمه. أو إنّ نوعية ما تقدمه الحكومة على مستوى التعليم لا يتوافق مع ضرورات العمل في إيران.

index22

وهي بذلك تسجل أدنى مكانة بين النماذج المقارنة في نسبة العاملين إلى مجموع السكان. فيما سجلت دولة الإمارات نسبة مرتفعة جداً من التشغيل بلغت 83.4%. بل وتفوقت تونس قبيل ثورتها على إيران بفارق بسيط وبنسبة 46.3%. بل حتى إن باكستان التي تتأخر في معظم المؤشرات عن إيران استطاعت تجاوزها في هذا المؤشر وتحقيق نسبة تشغيل بلغت 55.4%.

index23

سابعاً- مؤشرات الصحة

ومن المؤشرات الأخرى الدالة على تراجع دور الدولة مجتمعياً، هي مؤشرات صحة الفرد، والتي تحدد قدرته على الإنتاج والإبداع. وتوضح مدى اهتمام الدولة بالمواطن. إذ سجلت إيران أدنى متوسط عمر متوقع عند الولادة بعد باكستان، وبعمر دون 72 سنة لعام 2010، وهو عائد لضعف الرعاية الصحية التي يتلاقها المواطن الإيراني إذ لم يتجاوز حجم الإنفاق الحكومي على صحة الفرد مبلغ 432 دولار للفرد الواحد لعام 2002، في ظلّ تراجع في الإنفاق الحكومي كما سبق في المجال الصحي.

index24

وهو ما أعلى من عدد وفيات الأمهات لكل 100000 ولادة حية، إذ بلغت عام 2008 حدود 140 وفاة، متقدمة على باكستان التي سجلت 320 وفاة. ومتخلفة عن كافة النماذج المقارنة الأخرى.

 

ثامناً- مؤشرات المعرفة

وطال التخلف الحاصل في البينة المؤسساتية الإيرانية مجال المعرفة والتعليم، إذ أدى انخفاض الإنفاق الحكومي على التعليم، إلى تراجع المردود التعليمي من جهة، وتدني جودته، واكتسائه بطابع تقليدي، في ظلّ أدلجة دينية-قومية. واقتصرت النسبة الإجمالية للالتحاق بالتعليم العالي في إيران على 42.8% من الطلاب في الفترة 2002-2011، في مقابل نسبة التحاق نظيرة لها في إسرائيل بلغت 62.5%، وفي كوريا الجنوبية 103.9% لذات الفترة.

كما تراجع مستوى خدمة الإنترنت التي باتت تشكل عماد البحث المعرفي، مع تزايد التضييق الحكومي عليها من جهة، وتدني جودة الخدمة المقدمة من جهة ثانية، وهو ما دفع إلى انخفاض عدد المستخدمين لهذه الخدمة من 32% عام 2008، إلى 31% عام 2010، في ظل تراجع مستمر. فيما حققت كوريا الجنوبية والإمارات أعلى نسبة مستخدمين، وأعلى نمو زمني فيها، إذ بلغت عام 2010، 82.5% من السكان في كوريا، و78% في دولة الإمارات.

index25

تاسعاً- مؤشرات الرضا المجتمعي

تنعكس جميع المؤشرات السابقة، على مستوى الوعي المجتمعي بشكل النظام والحقوق المتحصلة عليها، دافعة المجتمع إلى مزيد من الثقة في النظام السياسي، وتعزيز شرعيته في الحكم، أو انخفاض مستوى تلك الثقة وتراجع شرعية النظام السياسي، مشكلة وعياً احتجاجاً قد يتطور إلى حالة ثورية تطيح بالنظام السياسي ذاته. وهو ما حصل في إيران عشية ثورة 1979، وما حصل في عدد من الدول العربية منذ عام 2011، كنتيجة لاستمرار تراجع أداء النظام السياسي لفترات طويلة، مع حالة استبداد سياسي وفساد ممأسس.

ويمكن القول إنّ المجتمع الإيراني يدخل تلك الحالة منذ عام 2009 تحديداً، وهو مؤهل لفعل احتجاجي يتطور خلال السنوات القادمة. ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال تراجع مؤشر الرضا العام بالحياة، من (5.6) نقطة في الفترة 2006-2009، إلى (4.8) نقطة في الفترة 2007-2011. وهو ذات التراجع الذي شهدته تونس والدول العربية التي شهدت فعلاً احتجاجياً/ثورياً في الفترة نفسها.

index26

حيث بات المجتمع الإيراني أمام احتمالين إزاء هذه الإخفاقات المستمرة في أداء النظام السياسي، فإمّا أن يتجه إلى إعادة إنتاج النظام أو الإطاحة به على الشاكلة الثورية، أو أن يدخل متاهة الانفلات المجتمعي، وخاصة أنّ مؤشراتها هي الأخرى قائمة وتتوسع من خلال توسع حجم الجريمة وتعاطي المخدرات في إيران.

لكن رغم انخفاض مؤشر الرضا العام بالحياة، فإنّ الوعي الثوري لم يكتمل بشكل كلي بعد، إذ ما تزال بعض المؤشرات الأخرى تدّل على قصور في استيعاب الأوضاع التي بات فيها المواطن الإيراني. فرغم ارتفاع حجم البطالة وانخفاض نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي، وتدني مستويات العمل وظروفه، إلا أنّ الرضا بالوظيفة سجل في إيران نسبة 65% للفترة 2007-2011.

ورغم حجم الاستبداد الواقع على المجتمع وفق المؤشرات التي تم تناولها في الجزأين، إلا أنّ نسبة الرضا بحرية الخيار ما تزال مرتفعة نسبياً بحدود 57%، وبلغت نسبة الرضا بالمجتمع المحلي 76.3% لذات الفترة. فيما لم تتجاوز نسبة الرضا بمستوى المعيشة 55%.

ورغم وقوع إيران في بيئة مضطربة من جهة، وتوسع مغامراتها العسكرية خارج حدودها من جهة أخرى، وتراجع مستويات الأمان المستقبلي المعاشي ثالثاً، إلا أنّ الوعي المجتمعي الإيراني لم يستوعب كذلك الآثار المستقبلية المترتبة على ذلك، وسجّل نسبة شعور بالأمان 55% في تفوق ملحوظ على عدد من النماذج المقارنة.

أي إنّ المجتمع الإيراني يحتاج بعد لسنوات قليلة حتى يبلغ مستوى الوعي التونسي المقارن، والعربي عامة، ليعمل على إعادة إنتاج نظامه السياسية بأدواته الخاصة به، وليس شرطاً وفق حالة ثورية، لكن استمرار النظام الملالي على ذات الأداء والشكل لم يعد ممكناً في بيئة يضاف إليها نزاعات قومية ودينية تضيف على المؤشرات السابقة بعداً إنهاكياً آخر لإيران.

index27

ويلاحظ في هذه المؤشرات جميعها، تقدم دولة الإمارات على كافة النماذج المقارنة، وتسجليها نسب رضاً مجتمعية عالية، كدليل على استقرار الدولة ونمو ثقة سكانها بالنظام السياسي، وقدرة نظامها على التجاوب مع المطالب المجتمعية من جهة، وعلى تحقيق أعلى درجات الرفاه من جهة أخرى، وهو ما يعزز في المحصلة من قوة الدولة.

  

خاتمة:

إن القدرة على تشويه الوقائع القائمة في دولة ما، عبر كم كبير من الإعلام المسيس والمأدلج، لا ينتج في النهاية واقعاً مختلفاً، بل يعمل على الهروب من هذا الواقع إلى الأمام، وتأجيل معالجة الأزمات، حتى تتحول إلى إشكاليات يستعصي حلها على النظام السياسي، دافعة به إلى الزوال.

ورغم حجم البروبوغاندا الإيرانية خلال السنوات الماضية، عن قوة الدولة وتطورها وقدرتها على فرض ذاتها على محطيها، إلا أن الأرقام الواردة من المنظمات الحكومية وغير الحكومية، أثبتت في جميعها زيف تلك الادعاءات، وأنها لم تتجاوز البعد الدعائي، في ظل وجود وكلاء لإيران في المنطقة يعملون على ترويج تلك الادعاءات.

بل يمكن توصيف انخراط إيران العسكري المباشر في كل من سورية والعراق، وغير المباشر في لبنان واليمن والبحرين، بأنه بلغ حد العبء الاستراتيجي على الدولة والمجتمع معاً، وأن ارتدادات هذا العبء بدأت تصل إلى الداخل الإيراني، في عملية تحضير لانفلات أزماتي داخل إيران في السنوات المقبلة.

 

 عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

 

للاطلاع على مزيد من المؤشرات التنموية، انظر:

(1) تقرير التنمية البشرية 2013: نهضة الجنوب .. تقدم بشري في عالم متنوع (نيويورك: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2013).

(2) تقرير التنمية البشرية 2011: الاستدامة والإنصاف .. مستقبل أفضل للجميع (نيويورك: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2011).

(3) تقرير التنمية البشرية 2010 .. عدد خاص في الذكرى العشرين: الثورة الحقيقية للأمم مسارات إلى التنمية البشرية (نيويورك: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2010).

(4) تقرير التنمية البشرية 2005: التعاون الدولي على مفترق طرق .. المعونة والتجارة والأمن في عالم غير متساوٍ (نيويورك: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2005).

الوسم : إيران

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق