أمن الخليج: مقاربات أكثر شمولية (2)

الإستعداد الجيوبولتيكي

يأتي الاستعداد الجيوبولتيكي من سؤال بسيط تطرحه الدول على نفسها مفاده: ما هو محددات مجالي الحيوي الإقليمي أو العالمي وما هو موقعي منه؟ أي كيف سيكون شكل الدولة مستقبلياً ودورها في تشكيل النظام الإقليمي والعالمي. لتتسلسل من وراءه مجموعة من الاستحقاقات المتعلقة بالأمن والرفاه والنمو الإقتصادي فضلاً عن مكانة الدولة وهيبتها، وتأثيرها في المجال الحيوي الذي تعرفه لنفسها وفق اشتراطات تقليدية تتعلق بالموقع والمساحة وعدد السكان.

إلا أن هذه الاشتراطات لا تحدد على نحو حاسم الناتج النهائي لمصفوفة قوة الدولة ومدى تأثيرها بل أضيفت لها عناصر أخرى تغير من حسبة المصفوفة. فلم تعد كل دولة في عالم التكنولوجيا الفائقة وتطور وسائل الإتصال قادرة على التفرد بسياساتها واستراتجيياتها بشكل أحادي أو القيام بأنشطة أمنية داخل حدودها على سبيل المثال أو خارجها، من دون مراعاة تأثير ذلك على النظام الإقليمي أو الدولي، وغدت علاقات القوة الجديدة مبنية على التعاون والاعتماد المتبادل أكثر مما كان يتوقع صناع القرار في القرن الماضي على أقل تقدير. ويجد الكثير من المنظرين والفلاسفة أن بعض المعاني التأسيسية التي كونت مفاهيمنا حول السيادة مثلاً تقلصت إلى درجة كبيرة، إذ لم يعد معنى السيادة كما ألفناه في كتب وأدبيات الأيديولوجيات الوطنية والقومية بل أصبحنا أمام المواطن العالمي الذي تتوسع انتماءاته من بلد الولادة إلى الشركة المتعددة الجنسيات إلى فضاء الإختصاص الذي لا يعرف وطناً.

 مع ذلك تبقى حتى هذه اللحظة الدولة هي العنصر الأساسي المعترف به عالمياً وهي التي ينبني عليه النظام الدولي ولا يمكن التخلي عنه في المنظور القريب لتصبح مدخلات عناصر القوة الجديدة التي نستعرضها لاحقاً تضاعف من قوة الدولة أو تقلل منها.

عناصر قوة دول الخليج:

أثناء قياس قوة الدولة لا بد من أن نضع في ذهننا مجموعة من الاعتبارات المهمة وهي: أن قوة الدولة ذات طبيعة نسبية وليست مطلقة، كما أن قوة الدولة ذات طبيعة مؤقتة وليست دائمة، بالإضافة إلى أن قوة الدولة ظاهرة علائقية مترابطة متشابكة ومركبة وأخيراً لابد من القول بأن قياس قوة الدولة يختلف من وقت لآخر ومن حالة لأخرى.

ولتحديد هذه العناصر – المدخلات الجديدة في قوة الدولة فإننا نجملها في خمس مجموعات هي

1. الإعلام: يحتل الإعلام مكانة متقدمة في عناصر قوة الدولة والتأثير على الرأي العام وصولاً إلى صناعته، وقد قدمت دول الخليج نماذج بارزة في هذا المجال حيث سنجد أن أهم محطتين تلفزيونيتين إخباريتين موجودتان في الخليج العربي وهما محطة العربية وشبكة الجزيرة، وينسب إليهما أكبر نسبة مشاهدة ومتابعة من الجمهور العربي فضلاً عن متابعة وسائل الإعلام العالمية لما تبثه هاتين المحطتين واعتمادهما كمصدرين رئيسيين للأخبار، هذا فضلاً عن عدد كبير من الصحف المهمة والمواقع الإلكترونية لنكون أمام إمكانيات إعلامية كبيرة مقارنة بالدول الإقليمية المجاورة في توجيه وصناعة الرأي العام

2. كفاءة الموارد البشرية: عندما يكون الكلام عن قوة الدولة فإن المورد البشري يتربع على قمة السلم في مدخلات عناصر القوة، ولعل كفاءة هذه الموارد وتأهيلها في دول الخليج آخذ بالنمو بشكل متسارع حيث سجلت دول الخليج إرتفاع نسبة الإختصاصيين والمهنيين والفنيين في مختلف الإختصاصات والقطاعات العلمية والصناعية والزراعية ترفدها إرادة سياسية قوية، مما ادخل احدى أهم الجامعات الخليجية في أول خمسمائة جامعة على مستوى العالم

3. الإدارة ونظام الحكم: يصبح نظام الحكم عنصراً من عناصر القوة عندما يكون متساوقاً في مسارين متوازيين: المسار الأول يتلخص بفعالية النظام والإستجابة للتحديات والتهديدات بالسرعة والدرجة المناسبة والتي تستتبع بقرارات واضحة محددة وحاسمة، أما المسار الثاني فهو دينامية النظام وتفاعله مع بيئته المحلية وتجسيد الإرادة الشعبية عبر العملية الديمقراطية

يعتبر المسار الاول بالمعنى الجيوبولتيكي على درجة غاية في الاهمية نظراً لتماسك مخرجات النظام واستجابته للتحديات، وقد أثبتت دول الخليج استجابة حاسمة للتحديات الجيواستراتيجية عبر بناء منظومة دفاع مشترك في مواجهة الأخطار المحدقة، اما المسار الثاني فمازالت الخطوات حثيثة نحو تمكين العملية الديمقراطية وتطوير صيغة تمثيلية ربما تكون دولة الكويت المثال الأوضح لذلك، علما أنها من أهم دواعم المسار الأول وقاطرة بالغة الأهمية في تمكين صانع القرار من تجسيد إرادة المواطنين في إطار عملية تشاركية لتكوين المنظور المتكامل للأمن القومي لدول الخليج

4. النمو الإقتصادي: قد لا تتوفر في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الاوسط تلك الملاءة المالية التي تتوفر عند دول الخليج العربي التي يجب النظر إليها كرأسمال استثماري، واستبعاد صفة الفوائض المالية عنها لحاجتها الكبيرة في توسيع قطاعات الإنتاج والبنية التحتية والخدمات. وقد خطت العديد من دول الخليج كالإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية خطوات واسعة في هذا المجال حتى بتنا نتكلم عن ممكنات قوة اقتصادية لا يستهان بها مندمجة ومتعاونة مع الإقتصاديات العالمية

5. الأمن المعلوماتي: أصبحت الثورة المعلوماتية والتكنولوجيا اليوم هي أساس كل شيء، حيث يعتبر الخط الفاصل في ميزان في العلاقات الدولية من حيث تصنيف الدول بين عالم متقدم وعالم متخلف، كما ساهم التقدم التقني في زيادة القوة العسكرية حيث أصبحت تقاس قوة الدولة بمدى قدرتها على حماية منظوماتها المعلوماتية. فضلاً عن أنها ساهمت في ارتقاء نوعية الحياة، ومن ناحية أخرى أثر العامل التكنولوجي على الدبلوماسية وأضحت ميكانيزمات اتخاذ القرارات على مستوى الدول والمنظمات أكثر وضوحاً، وبتنا امام مصفوفات ذات أبعاد ومدخلات كبيرة تساهم فيها البرمجيات على نحو واسع في دعم القرار السياسي والإستراتيجي

لقد أصبحت حماية شبكة الإنترنت ووسائل الاتصالات وتوفير بيئة أمنة لتبادل المعلومات وتجهيز البيئة التشريعية والقانونية التي توصف جرائم الأنترنت والخرق المعلوماتي على رأس أولويات الدول ووضع السياسات الأمنية المعلوماتية للدولة وفقا للمعايير الدولية، وهذا ما تحقق بالفعل في دول الخليج التي أصبحت من الدول المتقدمة فيما يخص الأمن السيبراني وتعتبر دولة الإمارات من أكثر البيئات أماناً في هذا المجال من مجالات الأمن على مستوى العالم

الاستعداد الجيوبولتيكي لدول الخليج العربي

تتظافر المجموعات الخمسة السابقة مع العوامل التقليدية لقوة الدولة في منطقة الخليج العربي الذي يشكل فضاءاً متكاملاً بالمعنى الجيوبولتيكي لتكسب الميزة النسبية (للموقع والمساحة وعدد السكان) ميزة مضافة من خلال دور الإعلام والموارد البشرية النوعية ونظم القرار الفاعلة المستندة على دعم شعبي واقتصاد يعتبر من أهم اقتصاديات الرفاه على مستوى العالم ونسب دخل هي الاعلى عالمياً ولا ننسى الأمن المعلوماتي، ليبقى أمامنا تشكيل منظور جيوستراتيجي علمي وفاعل لدول هذه المنطقة وإدارته على مستوى الإقليم وتأثيره في السياسة الدولية

لقد انبنت الإمكانات الجيوبولتيكية للدول المطلة على الخليج العربي على عنصر المورد النفطي بشكل رئيس وتمحور التنافس عليه دون أن تملك أي دولة حتى الآن أو بالمدى المنظور إمكانية الاستئثار به فلا إيران ولا العراق استطاعوا ترجيح الكفة لصالحهم عبر عقود من التنافس والحروب على ثروات الخليج. لكن الآن وبعد الأخذ بالاعتبار عناصر القوة الجديدة المتظافرة في منطقة الخليج فإننا أمام تنوع في مصادر القوة واستعداداً جيبوبولتيكياً منبعه عناصر القوة التقليدية وأهمها هن الموقع الاستراتيجي البالغ الحساسية تدعمه عناصر- مدخلات القوة الجديدة

عندما يتمعن المرء بخريطة منطقة الشرق الأوسط فإنه يقف على منطقة تعج ببؤر الأزمات الإقليمية وتولد لدى الباحث أسئلة حول مستقبل هذه المنطقة بعد تأكده من صعوبة استمرار الخريطة السياسية على ما هي عليه اليوم، والإنتقال باتجاه رسم مستقبلها على المدى المتوسط والبعيد

لا يفوتنا تأثير الروابط التاريخية والثقافية التي تحفز الدول الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط التي تظل حاضرة ومؤثرة في المشهد الذي يفاعل بين الدول الكبرى في المنطقة وهي إيران وتركيا والدول العربية التي اختبرت انزياحات كبرى في التاريخ عبر سقوط وصعود الإمبراطوريات وتداول ميزان القوة وتمركزه عبر أحقاب زمنية متنقلاً بين إيران وتركيا والمنطقة العربية لفرض كل منها هيمنتها ونموذجها في الحكم والثقافة لنكون أمام عامل بالغ الأهمية في تجاوز الحدود على ما هي عليه اليوم وهو العامل الثقافي، ولعل لدول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ونظراً لمكانتها وحجمها تكتنز استعداداً ثقافياً بالغ التأثير على دول المحيط العربي والإسلامي بما فيها إيران التي تحوي على مكون ثقافي وأثني قابل للتأثر بسياسات مجلس التعاون الخليجي وهنا تظهر إمكانية التأثير في الشعوب البلوشية والآزرية المتنازعة مع السلطة المركزية الإيرانية على سبيل المثال لا الحصر، وطبعاً الفئة العربية المضطهدة في إيران، مما يرفع من الاستعداد الجيوبولتيكي الخليجي العربي درجة على سلم الممكنات الجيوبولتيكية التي يمكن أن تلعبها دول الخليج. أما بالنسبة للدولة التركية التي تقلصت مساحتها عن الإمبراطورية العثمانية بأقل من صف مساحتها تقريباً فهي قوة إقليمية تملك ممكنات أن حليفاً قومياً محتملاً بمنطق الإعتماد المتبادل أمام المنافس الإيراني.  

يبقى أن نلتفت مجدداً إلى العمق العربي للخليج في المشرق ومصر على حد سواء فسوريا ودول بلاد الشام تعتبر جسراً جغرافي يصل بين الدولة التركية الحليف الإقليمي المحتمل والخليج العربي لتتوسع الشريحة التي تمتد عليها الامكانات الجيوبولتيكية للخليج وتضاعف من مفاعيلها وفق الممكنات التالية

1. إيجاد مانع جغرافي للوقوف أمام المد الإيراني في منطقة المشرق العربي ووقف النزيف الإستراتيجي عند العراق مبدئياً

2. حرمان إيران من الولوج إلى البحر المتوسط عبر افقاده حليفاً في المشرق العربي سهل هيمنته أثناء رسم خيارات إسترايجية تسقط البعد والعمق العربي من حساباتها لصالح إستراتيجية البحار الأربعة

3. إدراج منطقة الخليج في حسابات المعادلات الجيواقتصادية التي تربط بحري العرب والأحمر بالبحر المتوسط

4. بناء شبكة من الخطوط ضمن إطار جيو-سياسي جديد يكثف من الحضور الخليجي في بلاد الشام

5. كما يمكن توسيع دائرة المجال الحيوي في ضوء العلاقات المتميزة مع الباكستان ضمن خط جغرافي يصل بين الباكستان وأفغانستان وتركمانستان بهدف خلق تواجد سياسي واقتصادي على بحر قزوين

بذلك يتحقق فضاء باستطالات جيوسياسية تتناسب مع الامكانات الجيوبولتيكية الخليجية ويكون التواجد على حافة المنطقة الأوراسية على مربع يصل قزوين بالخليج بالبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط. وبذلك يتحقق للخليج حلفاء محليين متعاونين في النظام الإقليمي (موسعاً) بمقابل التهديد الشرقي في المستوى الإقليمي

يتبقى على دول الخليج جعل الدول الإقليمية والعالمية أن تحسب على نحو دقيق إمكانيات تأثير وقوة الخليج العربي في مصالحها وأمنها الإقتصادي، لتفكر بشكل جدي أن لا تتجاوزها في صياغة الخريطة الجيوقتصادية وبالتالي التحالفات الإقليمية، كما ومن ناحية أخرى على دول الخليج أن تفتح خياراتها الإستراتيجية على احتمالات إضعاف وتثبيط إمكاناتها الجيوبوليتيكية. آخين بالإعتبار الوجود العسكري الأمريكي في مناطق مختلفة من العالم ومن ضمنها منطقة الخليج التي مازالت تحافظ عليه في إطار تثبيت مكانتها وهيبتها العالمية والمحافظة ما أمكن على استقرار الوضع الراهن دون أن تمانع من حدوث بعض الإنزياحات المضبوطة أو القابلة للضبط مستقبلاً كتكتيك لا يخل بتحولها الاستراتيجي على نحو جذري، وهذا يجعلها بحل من التزاماتها التقليدية. لذا كان لابد على دول الخليج أن تبتكر في الإدارة الإستراتيجية لمصالحها في ضوء الاستعداد الجيوبولتيكي لموقعها وإمكاناتها.  

 

مازن محمود علي 

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث 

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق