2014: عام الردّة العربية

شكل عام 2011، حدثاً تاريخياً استردادياً، أعاد ضبط المسار السياسي والاجتماعي في عدد من الدول العربية، ضمن موجة ديمقراطية عالمية رابعة، وعربية أولى. من خلال عملية التأثرّ والتأثير التي أطلقها المجتمع التونسي بداية، وأكّد المجتمع المصري فعاليتها ثانياً، قبل إطلاقها كحالة ربيع عربي.

ومن الملفت، أنّ تونس كانت الأعلى بين نظرائها في كثير من المؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولعلّ ذلك ما أعطى أبعاداً تنويرية لعدد من المجتمعات العربية ساهمت في رفع الوعي الاحتجاجي/الثوري ساعتها، وخاصة أنّ غالبية المجتمعات التي أطلقت حراكاتها كانت تقبع خلف تونس في تلك المؤشرات، أو متقاربة معها.

في المقابل، شكلت ثورة 25 يناير المصرية، تأكيداً على نجاح النموذج الثوري عربياً، في مجتمع بحجم المجتمع المصري، وبحجم الإنهاكات التي لحقت به على مر نصف قرن من حكم العسكر. وخاصة أنّ الثورة المصرية انتظرت قليلاً حتى تستدرك نتائج الحدث الثوري التونسي. أما بعد إسقاط مبارك، فلم تنتظر المجتمعات العربية الأخرى أن ترقب إتمام الثورات بالتوالي، بل عمدت ليبيا واليمن وسورية بالأساس، إلى إطلاق حراكاتها معاً، مستلهمة النموذجين السابقين.

كانت تلك الحراكات عامل صدمة مرتفع الشدة لأنظمة الاستبداد، وخاصة بافتتاحها مع التونسي والمصري، مما ساعد على إزاحتهما عن المشهد السياسي سريعاً، لكن مع استدراك الأنظمة الأخرى لأبعاد الحدث، كان لابدّ أن تأخذ الثورة الليبية واليمنية أشهراً قبل إتمامها.

صحيح أنّ المجتمعات الثورية العربية كانت على قدر من الوعي بظروفها لناحية ضرورة إزاحة نظمها السياسية، وإعادة بناء الدولة فيها، لكنها لم تدرك تماماً حجم التأثّر والتأثير المتبادل فيما بينها. فتجاوز عدم إتمام الثورة السورية بالتناسق مع باقي الثورات العربية، ثمّ التحوّل إلى عنها إلى الأوضاع الداخلية، قبل الانقلاب الجزئي عليها حتى من النخب الثورية في تلك الدول، شكّل بدوره عامل دفع معاكس للمسار الثوري.

وإن كان مجتمعا تونس ومصر قد استطاعا “تصدير” الثورة باتجاه المحيط العربي، إلا أنّ نظام الأسد بدوره، وبتحالفاته، استطاع أن يطلق مساراً ارتدادياً قمعياً، وشكل مثالاً يحتذى لفلول الأنظمة الساقطة والمتساقطة، في آلية التعاطي مع الحراكات المجتمعية من جهة، وفي تجاوز المجتمع الدولي من جهة ثانية.

وكانت أولى نتائج هذه الارتدادات الاستبدادية، إسقاط أول حكومة منتخبة في مصر على مرّ تاريخها، عبر استغلال إخفاق تلك الحكومة من جهة، وتذمر شرائح مجتمعية منها من جهة ثانية، ليعمل العسكر من جديد على استعادة السلطة، وضبطها بالأدوات الأسدية.

لكن لا نهائية في التاريخ البشري، فهو حدث متواصل ومتغيّر بشكل حتمي، ولا يمكن اعتبار هذه الارتدادات نهائية قادرة على ترسيخ الاستبداد من جديد. حتى وإن شكل عام 2014 عام ردة عربية، تمثّلت بداية في انتخابات هزلية في الجزائر (نيسان/إبريل)، وانتخابات إقصائية مقبلة في مصر (أيار/مايو)، وأخرى طائفية استبدادية مقبلة في سورية (حزيران/يونيو).

إنّ تشبيه عام 2014، بعام الردة، كتلك التي حصلت بعد وفاة الرسول، ذو دلالة على محدودية قدرة الاستبداد على الاستمرار والعودة من جديد، نتيجة طبيعية لظهور وعي عربي مجتمعي جديد، ما زال في طور التشكل والتوسيع. بل إنّ التعويل على هذا الوعي هو نتيجة لقدرته على إزاحة أنظمة قارب بعضها نصف القرن.

يبقى على الوعي العربي المجتمعي، أن يدرك حجم الردة الاستبدادية، المصدَّرة من نظام الأسد إلى كل المحيط العربي، فلا مخلص له حالياً إلا من خلال ذلك، عبر تحالف غير معلن بين أنظمة الاستبداد الساقطة والمتساقطة، وخاصة أنّ تلك الأنظمة قد استوعبت المآلات التي تحيق بها، ولنا في تحالف بوتفليقة والمالكي مع الأسد أبرز مثال في ذلك.

هذا التوسيع المطلوب للوعي العربي، يتجاوز الأطر التقليدية المتهالكة للتيارات السياسية القومية واليسارية، التي هي في الأساس نتاج النظم الاستبدادية ورديفة له، وكيان عضوي منبثق عنه. وغير قادرة على استيعاب حرية الشعوب خارج البسطار السلطوي.

إن نتائج التي حصلت عليها الدول العربية في المرحلة 2011-2014، تشكل بدروها نتاج الموجة الأولى ضمن مجموعة موجات عربية ديمقراطية متتالية، فالديمقراطية لم تنتشر ولم تستقر دفعة واحدة في أوروبا الغربية، فيما لا تزال بعض دول أوروبا الشرقية وحتى أمريكا اللاتينية تشهد بعض الارتدادات عنها. وستطال هذه الموجات في محصلة الأمر كافة الدول العربية، وتمتد إلى محيطها شرق الأوسطي.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

الوسم : عرب

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق