وهم النمو: معوِّقات الاقتصاد الإيراني بعد رفع العقوبات

 

تتّجه الأنظار إلى التغيّرات التي ستطال البنى الداخلية الإيرانية عقب توقيع الاتفاق النووي، وإلى الأثر الذي سيتركه رفع العقوبات والإفراج الدولي عن الأرصدة الإيرانية المجمّدة في البنية الاقتصادية الإيرانية. إذ ترى العديد من التصوّرات الغربية أنّ إيران ستنخرط في مسار العولمة، ربّما على غرار النموذج الصيني، بحيث تحافظ على النظام السياسي –مع بعض التعديلات المحدودة-، مع إطلاق عمليات تنموية بمستويات مرتفعة، في حين ترى أخرى أنّ هذا الأثر لن يمكن تحقيقه قبل سنوات وربّما عقود، للخروج من الإنهاك الاقتصادي الذي تعاني منه إيران، عدا عمّا سيخلّفه ذلك في المستويات الاجتماعية التي تشهد إنهاكاً هي الأخرى.

غير أنّ مقاربة التغيّرات التي قد تطال البنى الإيرانية، بالنموذج الصيني تبقى غير دقيقة، إذ احتاجت الصين إلى عقود من عمليات البناء الاقتصادي الاشتراكي، قبل أن تنفتح تدريجياً على مسار العولمة، كما أنّ انفتاحها جاء في ظروف دولية سلمية، عقب نهاية الحرب الباردة، بناء على ما راكمته من رأس مال خلال ما يقارب نصف قرن، دون أن تنخرط الصين فعلياً في أيّة حرب دولية أو إقليمية منذ قيام النظام الشيوعي فيها، وعدا عن ترسخ الاستثمارات الأجنبية فيها لأكثر من عقدين، وهو بالمجمل ما حقق نمواً بلغ في أعلى حالاته 9%.

ورغم أنّ النموذجين قد يتشابهان نوعاً ما في البنية الاجتماعية، لناحية الفقر والإنهاك والاستبداد السياسي، وتقارب سياسات النظامين تجاه إثنيات الدولة، إلّا أّن النموذج الصيني استطاع أن يحافظ على ولاء غالبية الجماعات البشرية للدولة، في حين تشهد إيران منذ نشأتها رفضاً من غالبية إثنياتها (غير الفارسية). عدا عن أنّ الحالة التي وصل إليها المجتمع الإيراني، عقب عقود من العقوبات الدولية، والمغامرات العسكرية الخارجية التي استنزفت الخزينة الإيرانية، ربّما تحتاج بدروها إلى عقود من عمليات الإصلاح والانسحاب العسكري حتى يمكن البناء عليها لاحقاً.

إنّ عملية الانفتاح الاقتصادي المرتقبة في إيران، والتي سينبني عليها انفتاح اجتماعي آخر، لن تكون بالسلاسة التي يتصوّرها القادة الإيرانيون، حيث ستؤدّي إلى إعلاء تطلّعات الشعب للخروج من حالة الفقر والإنهاك التي يعايشونها منذ أكثر من ثلاثة عقود، غير أنّ بنية الفساد المستشري في البنى الرسمية الإيرانية، توحي بنموذج انفتاحي شبيه بالنموذج السوري عقب عام 2000 على سبيل المثال، حيث أدّت سياسات النظام الانفتاحية المترافقة بفساد واسع إلى تضخيم مداخيل فئة ضيقة تحيط بالنظام في مقابل زيادة إفقار الشعب، وصولاً إلى الحالة الثورية.

وخاصّة أنّ بنية النظام الإيراني لم تشهد منذ الثورة الخمينية، تحديثاً في هيكلياتها ومؤسّساتها وآليات عملها، في ظلّ تحديات داخلية وإقليمية ودولية، أدّت في المجمل إلى أضرار جسيمة بالاقتصاد الإيراني، وأتت على مصداقية مبادئ ثورة 1979، وعزّزت خطوط الفصل بين الشعوب المنضوية في الدولة الإيرانية.

ولن تطول الفترة التي سيتعرّض فيها النظام الإيراني لاهتزازات عنيفة، كارتدادات طبيعية لنهجها. وهو ما أقرب ما يكون إلى وضع الاتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن العشرين، وربّما شكلت سورية لإيران ذات النتيجة التي شكلتها أفغانستان للسوفييت، لناحية تعجيل انهيار الدولة.

وتترافق التطلعات الإيرانية بإحداث نمو يتجاوز 5% سنوياً وصولاً إلى 8% بعد عدة سنوات، بانهيار أسعار النفط، والذي يُعتَبر الركيزة الأساسية للاقتصاد والدخل الإيراني، ما يعيق عمليات النمو المرتفعة، والتي لا تتجاوز إطار الوهم الاقتصادي أو الوهم التنموي لدى المخطِّط الإيراني. وخاصّة أن إيران تحتاج إلى إنتاج ما يتجاوز 6 مليون برميل نفط يومياً، حتى تستطيع بيع قرابة 4 مليون منها، وبسعر يتجاوز 100 دولار طيلة السنوات العشر القادمة، حتى تستطيع الخروج من أزماتها الاقتصادية، ربما بعد عقد من الزمن، وليس لإحداث انتقال اقتصادي على غرار دول جنوب شرق آسيا، إنما ستذهب هذه العوائد بالدرجة الأولى إلى إصلاح 37 عاماً من الدمار الاقتصادي.

غير أن الحديث عن رفع الإنتاج النفطي الإيراني، مع رفع أسعار البرميل، يبدو متناقضاً في الفترة القائمة، وخاصة أن أسواق النفط تشهد فائضاً من المعروض، تتصدّره روسيا، والتي تتطلع هي الأخرى إلى ذات المخرجات لإنقاذ الاقتصاد الروسي، وأية زيادة في الإنتاج العالمي، ستؤدي حتماً إلى تآكل القيمة المالية المروجة منه، ما يعني مزيداً من انخفاض أسعار النفط عالمياً. وهو ما دفعها إلى الاتفاق مؤخراً مع السعودية على تجميد الإنتاج النفطي لكلا الطرفين، بغية الحفاظ على الأسعار ومنع مزيد من انهيارها، على أمل عودة انتعاشها قريباً.

يضاف إلى تلك الإشكاليات النفطية، عودة بعض المنتجين إلى السوق النفطية، وأبرزهم ليبيا، في حال إحداث استقرار سياسي وعسكري في البلاد، عدا عن تطلعات العراق برفع مستويات إنتاجه، في حين أن ارتفاع أسعار النفط، سيشكل تحفيزاً إضافياً للمستثمرين في مجال النفط الصخري، لضخ المزيد منه، وهو عبء آخر على مستويات الأسعار.

وعليه ربما تحتاج إيران، إلى إحداث أزمة كبرى في منطقة الخليج العربي، بشكل ينعكس سلباً على إمدادات السوق العالمية من النفط الخليجي من جهة، وإحداث إرباك وتخوّف في تلك السوق (إرهاب نفطي)، يدفع الأسعار إلى الارتفاع من جديد. وإن كان هذا السلوك غير مستبعد عن إيران، إلا أنّ عدّة عوائق تحيط به، سواء على مستوى القدرة الإيرانية على إحداث تلك الأزمة، وخصوصاً عقب الإنهاكات العسكرية الكبرى التي لحقت بمشروعها في سورية والعراق واليمن، وعدا عن احتمال ارتداد آثار أية أزمة على إيران، على مستويات الإنتاج والتصدير. في وقت تتطلّع فيه إيران إلى اجتذاب المستثمرين الدوليين، وخاصة في مجال الصناعة النفطية، بغية إعادة تأهيل حقولها وقدراتها الإنتاجية المتهالكة والتي يتجاوز عمر بعضها أربعة عقود، دون أن تشهد أية تحديثات فنية، وأية أزمة في المنطقة، تعني أيضاً عامل طرد للاستثمار الأجنبي، والذي يشترط بداية توفر بيئة آمنة للضخ المالي وعوائده.

فالبحث عن مخارج للانهيارات الاقتصادية الكبرى في إيران، عقب العقوبات من جهة، وتحويل المال العام إلى صناعة السلاح، سيدفعها كما دفع الإمبراطورية السوفييتية إلى عملية بروسترويكا (إصلاح داخلي)، أودت بالاتحاد كله. ولا يمكن تأجيل عمليات التحديث على المستوى الاقتصادي-الاجتماعي، فإمّا قيام تلك العمليات، أو تحمّل نتائج توسّع مخرجات الفقر والفساد والنقمة الناتجة عنهما في البلاد، وفي كلتا الحالتين، فإن ضغطاً سيتولد على النظام، يدفعه جبراً إلى المهادنة أو المواجهة مع الشعب، وهو ما سيتّسع مع كل عملية ضغط جديدة. وكلا الاحتمالين سيء بالنسبة للنظام الإيراني، فالمهادنة تعني تحجيم تغول النظام ومؤسساته، تقديم تنازلات قد تطال البنى الرئيسة داخل النظام، في حين أن المواجهة ستكون ذات ارتدادات أكثر سلبية.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق