وحدة الشعوب ما بين التعايش والتسامح

تعاني بلداننا العربية خصوصا بعد قيام ما تسمى بثورات الربيع العربي وباء فقدان الهوية، وصراعا حول مفهوم تحديد الهوية، وضلت الشعوب العربية في تشكيل أحزاب لإنتاج هويات بدلا من تفعيل الهوية.

فلا زالت بلداننا العربية غارقة في متاهات الهوية، خصوصا بعد استخدامها أدوات ووسائل الغرب الديمقراطي والمستقر في تفعيل هوياتها، بينما الديمقراطية ليست مسؤولة عن إنتاج الهوية في دول الغرب بل ساهمت في تفعيل الهوية التي أنتجتها المجتمعات.

كما أن هناك مقارنة ظالمة بين الإسلام دين وحياة وبين المسيحية الكهنوتية الرهبانية، بجانب إصرار ثلة من المتشددين ومن غير المتشددين الإصرار على تطبيق نظام حكم آحادي وهو الخلافة، بينما القرآن والسنة ذكرتا العديد من مسميات الحكم من مسمى الملك إلى مسمى الأمير إلى السلطان إلى ولي الأمر وغيرها من مسميات.

أصبح العالم بين طرفي نقيض بين تطرف من المسلمين وتطرف من الغرب في الدول العلمانية، بسبب تطرف وانحراف حدود الحرية المسؤولة في الغرب التي تحولت إلى حرية منفلتة تتبناها بشكل خاص الأطراف اليمينية مما تثير حفيظة المسلمين وبالذات فيما يتعلق بالرسوم المسيئة للنبي الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه.

بينما في الدين الإسلامي ينهى عن سب المخالف للعقيدة الإسلامية (ولا تسبوا الذين كفروا فيسبوا الله عدوا بغير علم) وهذا الرسول الكريم الرحمة المهداة للعالمين ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال (قيل: يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: أنا لم ابعث لعانا، وإنما بعثت رحمة) صحيح مسلم.

كما يركز الدين الإسلامي على وحدة الأمة الإنسانية كما في قوله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) أي أن الجميع ينتمون إلى أصل واحد، وعن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الناس لآدم وحواء كطف الصاع لم يملؤه، إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس ولا يحتملون فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس: عليكم بآدم (فيعتذر ويمرون على كل الأنبياء فيعتذرون إلى أن يأتوا إلى رسولنا الكريم) فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه، فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي عز وجل ثم يفتح الله علىّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب أمتي يا رب فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وخيبر أو كما بين مكة وبصرى) فحينما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم أنا سيد الناس يوم القيامة دليل على وحدة الأمة الإنسانية وهو الرحمة للعالمين، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

لكن هناك فئة متشددة يتبنى فكرها متطرفون يؤكدون على أحاديث وآيات مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) ولكنهم لم يقتنعوا بأن هذا الحديث أثناء القتال وليس وقت السلم، وحديث (من تشبه بقوم فهو منهم) وحديث (لا يحب رجل قوما إلا حشر معهم) وقول الله سبحانه وتعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)، لكن لا يعيدون تلك الأحاديث وهذه الآية إلى الآية المحكمة التي فرقت بين الأمة المحاربة والأمة المسالمة، (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).

غاية رسالة الإسلام مثلما عبر عنها الصحابي الجليل ربعي بن عامر عندما دخل على رستم فسأله من الذي ابتعثكم فرد عليه قائلا: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن ضيق الدنيا لسعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

جوهر رسالة الإسلام العدل والحرية (فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر) (لا إكراه في الدين) (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، لذلك كان صميم صحيفة المدينة ما تسمى اليوم بالدستور (وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون إثم) أي أن هناك هويات عدة يتعايشون في وطن واحد ما يسمى اليوم بالدولة الوطنية التي ليست لها هوية سوى القانون والعدل والمساواة لكافة الهويات والكيانات أي يعيش في ظلها عدة هويات (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لكم ما علينا وعليكم ما علينا أي الحقوق المتساوية، والوثيقة ليست تكتيك سياسي كما يعتقد بعض المتشددين بل هي تشريع ورسم صيغة للدولة على مر العصور التي يتشارك فيها الجميع وفق تعايش مشترك بدلا من ترك ملوك الطوائف يتوهمون تنفيذ أحكام وفق الشريعة الإسلامية بسبب أنهم لم يستوعبوا مفهوم الهوية بل هو مضطرب لديهم.

المنهج يقتضي الإحالة على الواقع العملي وعلى الممارسة النبوية مع غير المسلمين بدلا من التوقف فقط على أحاديث نبوية قد يساق بعضها مساق المجاز، وقد أوضح عبد الله بن عباس رضي الله عنه في صحيح البخاري أنه قال (كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين، كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه).

لقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما توفي كانت درعه مرهونة عند يهودي، وكيف يرهن سلاحه عند يهودي لأنه كان مسالما لا يقاتل المسلمين، بل روي عن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما) رواه البخاري، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من آذى ذميا فقد آذاني ومن آذني فقد آذى الله) رواه الطبراني، وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي معاذا بأهل الكتاب في اليمن ألا يفتتن يهوديا عن يهوديته، وفي حجة الوداع قال صلى الله عليه وسلم (ألا أخبركم بالمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب) رواه النسائي.

 قبل الرسول صلى الله عليه وسلم هدايا غير المسلمين مثل عظيم القبط بمصر وغيره، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يسمح للوفود غير المسلمة أداء صلواتهم بالروضة الشريفة، مثلما سمح لوفد نصارى نجران باستقبال قبلتهم والصلاة في الروضة الشريفة، وكان يزور جاره اليهودي عند مرضه، وقام لجنازة يهودي، وعندما سئل عن سبب قيامه صلى الله عليه وسلم قال: أليست نفسا، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم رمزا للتسامح.

لقد استوصى الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة عند فتحهم لمصر فقال: (إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيهم القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما) رواه مسلم، فهاجر عليها السلام كانت أما لإسماعيل عليه السلام، وأما ماريا القبطية فكانت أما لإبراهيم ابن نبينا الكريم، بل روت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عند وفاته فقال: (الله الله في قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل الله وقال: استوصوا بهم خيرا فإنهم قوة لكم وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله).

ممارسات رسولنا الكريم تخالف فتاوى كثيرة تجعلنا نرفض كل الآراء المتشددة خاصة إذا ترتب عليها إحداث فتنة وشقاق بين طوائف الأمة لأنه من باب الإحسان والبر والمرؤة والمعاملة بالمثل المجاملة في مناسبات غير المسلمين وتبادل التهاني وهو يعتبر من فقه التيسير وفقه التدرج في الأمور ومراعاة تغير الأوضاع التي تصب في فقه الواقع حتى ولو خالفت فتاوى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله،حتى لا نقدم الإسلام بصورة المتحفز إلى إباحة قتل كل الناس.

 د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق