واشنطن وموسكو .. صراع بين ضواحي كييف وضواحي دمشق

“إن الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي، يقفان جنباً إلى جنب مع الشعب الأوكراني في نضاله من أجل الانضمام إلى الإتحاد الأوروبي، والأمر الذي يساعده في تحقيق تطلعاته”. هذا ما صرح به وزير الخارجية الأمريكي جون كيري على هامش مؤتمر الأمن المنعقد في موناكو في الأول من شهر شباط/فبراير 2014،

داعماً الحراك الشعبي المناهض لسياسات الرئيس الأوكراني الهارب يانوكوفيتش الموالي لموسكو. تصريحات كيري تأتي بعد كلمته التي ألقاها في مؤتمر جنيف2 حول السلام في سورية، والتي تحدث فيها أيضاً عن دعم بلاده للمعارضة السورية والشعب السوري وتطلعاته في الحرية وبناء نظام ديمقراطي، وضرورة عدم وجود الرئيس بشار الأسد حليف موسكو أيضاً في المرحلة الانتقالية التي قد تأتي بها المفاوضات في جنيف.

إنّ قراءة محددات خطاب الخارجية الأمريكية، يعكس بصورة مباشرة حجم الاختلاف في المصالح والرؤى بين واشنطن وموسكو، وخاصة أنّ رئيس الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف، هو الآخر لا ينفك عن الإدلاء بالتصريحات التي تؤكد دعم بلاده المطلق للرئيس الأوكراني يانوكوفيتش. حيث ذهب لافروف إلى  أن ما يجري في أوكرانيا هو تدخل مباشر من قبل واشنطن وبروكسل في الشؤون الداخلية لكييف، أما موقف بلاده من الأزمة السورية فهو واضح وعلني ولايجادل فيه أحد.

إنّ حدة الخطابين الروسي والأمريكي تعود بنا إلى حقبة الحرب الباردة وإن بدرجة مختلفة عندما كانت واشنطن تحارب موسكو في بولونيا وأفغانستان معاً على جبهتين، اليوم تعود أدوات الحرب التقليدية من خلال الصراع بين القوتين في ضواحي كييف وضواحي دمشق. فما الأهمية الاستراتيجية لكييف ودمشق في معادلة الجيوبولتيك بين القوتين الدولتيين؟

بالنسبة لروسيا تُعتبر كييف بوابة موسكو من جهة أوروبا، وبالتالي تمثل العمق الجيوسياسي لموسكو، لاسيما أنّ غالبية سكان شرق أوكرانيا هم من الأرثودكس ويتكلمون اللغة الروسية، ناهيك عن وجود قاعدة أسطول البحر الأسود العسكرية الروسية فيها، والتي يُنظِّم وجودها اتفاقية موقعة بين موسكو وكييف تنتهي في نهاية عام 2017. إن موقع أوكرانيا الاستراتيجي المطل على البحر الأسود جعلها محطّ أنظار صانع القرار في موسكو، لاسيما أنّها تشكل معبراً لخطوط الطاقة، وتربط أوروبا بآسيا، وعلى الرغم من خروج موسكو منتصرة من الثورة البرتقالية التي وقعت في 2004، والتي أسهمت بشكل مباشر في توتر العلاقات بين موسكو والغرب، وخاصة بعد أن وصل الرئيس يانوكوفيتش للحكم بعد الانتخابات حيث تنفست موسكو الصعداء بذلك، ووقّع معها يانوكوفيتش سلسلة من الاتفاقيات في مجال الطاقة والتعاون الاقتصادي.

واليوم، يعود التنافس بين موسكو وواشنطن حول هذا الموقع الجيوسياسي، حيث ترى واشنطن في أوكرانيا الخاصرة الرخوة التي من الممكن محاصرة النفوذ الروسي من خلالها، وكفُّ يد موسكو عن البحر الأسود، وبالتالي عن التأثير في أوربا الشرقية، والتي هي اليوم هي جزء من منظومة الاتحاد الأوروبي الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة من جهة، والتي تغطيه مظلّة حلف شمال الأطلسي. وتظهر أهمية كييف بالنسبة لواشنطن في الثورة البرتقالية والدعم اللامحدود الذي قدمته لبيوشنكو، حيث أصبحت أوكرانيا حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة الامريكية، واحتلت كييف الدرجة الثالثة على سلم المساعدات المقدمة من واشنطن بعد كل من إسرائيل ومصر، إلا أنّ حروب واشنطن في أفغانستان والعراق والأزمة الاقتصادية العالمية أدت إلى تراجع الاهتمام بكييف، ولكن لايعني انتهاء التزاماتها في هذه المنطقة الحيوية الأمر الذي أعطى موسكو نقاط قوة فيها على حساب واشنطن وإن بشكل مؤقت.

أوروبياً، تعتبر كييف بمثابة الجسر الحيوي الذي يربط روسيا بأوربا الشرقية، والجدير ذكره أنّ مانسبته 80% من الغار الطبيعي الروسي الذي يمثل ربع استهلاك أوروبا يمر عبر  الجغرافية الأوكرانية، الأمر الذي يجعل من انضمام كييف للاتحاد الأوربي مصلحة أوربية بحتة؛ لاسيما أن انضمام كل من بولونيا ورومانيا وبلغاريا ومؤخراً كرواتيا للإتحاد الأوروبي يجعل من انضمام  الجارة كييف أمراً ذا أهمية حيوية أوربياً، لتصبح جسراً بين روسيا الاتحادية والاتحاد الأوربي، الذي يدرك صناع القرار فيه أنّ تحولات القوى في المشهد الدولي آخذة بالتغير السريع، وأنّ بناء شراكة أوربية في مراكز الثقل الجيوسياسية يجعل من الإتحاد الأوبي أكثر مقاومة وتحصيناً من هذه التحولات، لاسيما أنّ الأوروبيين يدركون جيداً أنّ مظلة الناتو لن تدوم للأبد، وأنّ بناء سياسية أمنية ودفاعية مشتركة ضرروة أوربية.

بالانتقال إلى شرق البحر المتوسط، تسعى موسكو جاهدة أيضاً في الحرب على الجبهة الاستراتيجة الأخرى، ألا وهي دمشق، التي تعتبر دولة سوق استهلاك للسلاح الروسي. حيث تشيردراسة صادرة عن معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن روسيا شكلت ما نسبته 78% من مشتريات سورية من الأسلحة بين عامي 2007/2012، حيث وصلت  المبيعات الروسية في نفس الفترة إلى 4.7 مليار دولار أمريكي، فضلاً عن العلاقات الاقتصادية الوطيدة بين البلدين  كان آخرها ما تحدثت عنه و وكالة الأنباء السورية (سانا)، من أنّ وزارة النفط والثروة المعدنية وقعت مع شركة سيوزنفتا غاز إيست ميد الروسية عقد عمريت البحري، للتنقيب عن البترول وتنميته وإنتاجه في المياه الإقليمية السورية في البلوك رقم 2، ويتضمن التنقيب عن البترول بين جنوب شاطئ طرطوس حتى مدينة بانياس وبعمق 70 كيلومترًا طولاً، ومتوسط عرض 30 كيلومتراً. مدة العقد، وهو الأول من نوعه للتنقيب عن النفط والغاز في المياه السورية، 25 سنة، وتموّله موسكو، حيث ترى موسكو في سورية فضاء استراتيجياً من ناحية تجمع الطاقة فيها، القادمة من إيران والعراق إلى البحر المتوسط، لذلك تحاول موسكو دعم النظام فيها، وتسعى جاهدة للبقاء في سورية التي تمثل واسطة العقد في الإقليم، وموطئ قدم للروس في مياه البحر المتوسط.

أما واشنطن، والتي تعتبر أمن منطقة الخليج العربي جزء من الأمن القومي الأمريكي، ترى ما يجري في دمشق محاولات من موسكو لكسب مواقع جيوسياسية في مناطق نفوذها، وتهديداً لمصالحها بشكل مباشر، وخاصة في العراق وإسرائيل؛ لذلك تحاول واشنطن دعم المعارضة السورية، لأنّ النظام القادم البديل سيقدم لواشنطن خدمات جلّية منها فكّ الارتباط بين دمشق وطهران من ناحية، والتخلص من حزب الله عدو اسرائيل التقليدي من ناحية أخرى، وضمان أمن الحليف الأساس لواشنطن في المنطقة إسرائيل. ولذلك سارعت واشنطن بالعودة إلى استخدام الأداة التقليدية والواقعية في إدارة العلاقات الدولية كقوة عظمي، ألّا وهي القوة و التلويح باستخدامها ضد دمشق، الأمر الذي اكسب واشنطن الجولة بالضربة القاضية، عندما اضطرت دمشق تسليم سلاحها الكيماوي، وإيجاد تسوية للملف النووي الإيراني، لأنّ كلاً من طهران وموسكو تدرك أنّ تهديد واشنطن كان جدياً وحاسماً، ويستمر الصراع بين واشنطن وموسكو على المصالح وإدارتها كل من خلال حلفاءه وعناصر القوة التي يملكها على الأرض، حيث يمتد هذا الصراع من ضواحي كييف إلى ضواحي دمشق.

أحمد قاسم حسين

باحث وأكاديمي فلسطيني

جامعة فلورنسا/ إيطاليا

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق