هيكل وتخبطات الذاكرة والقيم

رغم كل ما قدمه محمد حسنين هيكل، من مقالات وكتب ودراسات بلغت المئات، إن لم تتجاوزها، طيلة عقود لا يبدو أنها ستنتهي كما ابتدأت. يصرّ الكاتب المصري، على إثبات وهن ذاكرته، على الأقل، إن لم يكن خرفاً سياسياً، أو تأجيراً لقلم لصالح من يدفع أكثر، طالما ادعى الدفاع عن العروبة والمشروع القومي، أو أنّه انكسار في قيمه لصالح مشاريع استعمارية، واستبدادية، وقطرية (بالمفهوم الوحدوي).

فلم يكن تصريحه الأخير بشأن هوية دولة البحرين والجزر الإماراتية، سوى جريمة فكرية ضمن سلسلة تتوالى منذ سنوات، تهدف إلى العبث بالتاريخ العربي (باعتباره شاهداً على الحقبة المعاصرة كلها)، وإعادة صياغته وتوجيهه وفقاً لذاكرته التسعينية وقيمه المتضاربة.

أن تكون البحرين دولة غير عربية، تابعة لإيران، لأنّ أكثرية سكانها من الشيعة، هو جريمة فكرية، لا يرتكبها حتى أولئك الذين لم يخوضوا في غمار السياسة أبداً، فهو بعبارة أخرى، يرى أنّ الشيعة لا ينتمون إلى القومية العربية، بل هم إما قومية مستقلة، أو أنّهم فرس لمجرد دينهم، وهذا ما كانت قد بنيت عليه النظرية الصهيونية في تبرير احتلالها لفلسطين، واستيراد أتباع الديانة اليهودية إليها.

وحيث أنّ الكاتب المصري، من رواد التيار القومي بتوجهه الناصري -الوحدوي العروبي-، فلابد له على الأقل، أن يقرأ التاريخ العربي، حتى يدرك حدود الدعوة الوحدوية التي آمن بها طويلاً، ومن ثمّ أن يُعرّف مفهوم العروبة في ذاكرته، إلاّ إن كانت تقتصر على فئات بعينها تتوافق مع مزاجاته المتقلبة. دون أن يعي نَسَب سكان البحرين الذين يعودون في غالبيتهم إلى قبائل عبد القيس وبكر بن وائل وتغلب وقضاعة وقبيص وتميم، ضمن تحالف قبلي أطلق عليه تنوخ، وهي أبرز القبائل العدنانية العربية.

بل إنّ إصرار هيكل، على إطلاق لفظ الفارسي على الخليج العربي، هو مغالطة أخرى للفهم التاريخي للمنطقة، إذ اعتبر الوجود الفارسي على الشاطئ الشرقي للخليج، وجوداً تاريخياً يُأَصِّل حقها فيه، متجاهلاً طبيعة سكان الضفة الشرقية منه (الأحواز)، والذين هم امتداد عربي لقبائل الجزيرة العربية، وما كان لإيران الحالية، أو الفرس عموماً، أن يطأوا مياه الخليج العربي، إلا بعد احتلال الأحواز برعاية بريطانية.

ويدعو هيكل، إلى التخلي عن الجزر الإماراتية المحتلة، بحجج الواقعية السياسية (المصالح والقوة)، باعتبار إيران دولة إقليمية قوية تفرض وجودها، بغية حفظ التوازنات في المنطقة. وإن كانت هذه هي القيم السياسية التي يحملها فكر الأستاذ –كما يحلو لمريديه أن يطلقوا عليه- فقد تنسحب ذات القيم إلى فلسطين المحتلة، عبر التخلي عن أية مطالب بها، تحت ذات الحجج والمنطق. كما قد تنسحب على كل من يقع تحت احتلال بحجج الواقعية، ولما رأينا دولاً وأقاليم استقلت بنضال أبنائها، مهما بلغت قوة المحتل.

وفيما ناهض هيكل، تيار الإسلام السياسي السني في مصر (الإخوان المسلمون)، وباعتباره أحد رموز العلمانية العربية، إلا أنّ علمانيته –ككثير من القوميين العرب- وجدت ضالتها في الإسلام السياسي الشيعي في إيران، وعبر ميليشياتها العابرة للحدود، المتسمة بالإجرام الدولي في العراق ولبنان وسورية واليمن، حين اعتبرها “قوة خير” للمنطقة.

ليست المرة الأولى التي ينعزل فيها هيكل عن محيطه وعن واقعه، ضمن برج عاجي، يعتقد فيه أنه وحده الأعلم، في زمن باتت فيه المعلومة متاحة للقاصي والداني. إذ أعاد التذكير على صفحة تحمل اسمه على الفيسبوك بمقال كان قد كتبه عام 1995 في صحيفة The Yomiuri Shimbun اليابانية، عن البحرين كذلك، أورد فيه “الاضطرابات والقلاقل والغضب الاجتماعي لا يقاوم بنيران الطائرات من طراز F-16 أو دبابات Abrams”، مكرراً في عدة مرات أن البلد يحكم من قبل أقلية سنية، أي العربية وفق تصريحاته الحديثة.

وتظهر هنا تخبطاته الفكرية، حين انبرى للدفاع عن المجرم بشار الأسد وميليشياته الإرهابية، دون أن يخطر بباله إجراء ذات المقارنة، بأن البلد يحكم من أقلية تدين بالولاء المطلق للمحتل الفارسي، وقد قدمت له البلاد يذبح من أهلها كما شاء. ولم يأتِ على ذكر طائرات ميج وسوخوي ودبابات تي T وصواريخ سكود، التي تقصف السوريين يومياً، والتي أودت بحياة ما يزيد عن 120 ألف سوري، ربما لأنها أسلحة مقاومة “روسية”، تحفظ للمشروع القومي هويته.

يعيش هيكل، منذ اندلاع الثورات العربية على أنظمة الفساد والإجرام، حالة انفصام كامل عن الواقع، فبعد أن صرف عشرات السنين من عمره ينتقد تلك الأنظمة، دون أن يطاله منها أذى، يعود مع نهوض الشعوب في هذه الدول، للدفاع عن تلك الأنظمة، وإنكار وجود شعوب حية تنتفض لمستقبلها، سوى تلك التي تقبع خلف نظرته “الواقعية”، أي تلك التي تدين بالولاء لإيران وميليشياتها في المنطقة.

لم يستطع هيكل، وجيله، القضاء على الفساد والاستبداد في كثير من الدول العربية، ولم يحرّروا ما احتُلّ من أراضٍ سُلبت في عهدهم، بل كانوا في كثير من الأحيان عرابي تلك الأنظمة، طيلة عقود خلت، واقتصرت فلسفتهم السياسية حول الفرد الحاكم الطاغية، القادر على التحكم بمصائر البلاد والعباد. ولم يعتد هؤلاء المفكرون على قراءة التاريخ السياسي عبر قوة التحرك الشعبي، والذي بقي خارج إطار تنظيراتهم الفلسفية، إلا فيما يخدم استمرارية دولة الفرد؛ لذا فمن البديهي أن يرى هيكل أن أي تحرك لقوى المجتمع هو حركة خارجية تسير ضمن مؤامرة لإسقاط الفرد.

لم تستطع أنظمة عربية بكل قواها الوقوف في وجه تحرك التاريخ العربي، عبر قواه المجتمعية، حتى يستطيع هيكل بقيمه المتضاربة، أن يفرض أوهاماً يرى فيها حقائق خالصة له وحده، ولم يعد وحده “يعلم” ما لا تعلمه المجتمعات العربية. كما أنّ العروبة تظل معطى أصيلاً في مجتمعاتنا لا يمكنه منحها أو انتزاعها متى شاء، أو بأوامر من يتحكم بذاكرته.

عبد القادر نعناع 

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث 

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق