هل صحيح أن عالم اليوم متعدد الأقطاب مما يجعل الخيار صعباً أمام الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟

يبرر كيري وزير خارجية أمريكا في إحدى الأمسيات بمدينة نيويورك، عندما كان يتحدث عن السياسة الخارجية لبلاده، بأن السياسة الخارجية للولايات المتحدة زمن الحرب الباردة ثنائي القطب، بأن الخيارات المتاحة كانت واضحة تماما، بينما عالم اليوم متعدد الأقطاب، ما يجعل الخيار صعبا.

من يتتبع سياسة أوباما منذ تولية الرئاسة عندما عين السيناتور جورج ميتشل كمبعوث سلام للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني بل تباهى أوباما عندما قال (عندما نلتقي العام المقبل ستكون هناك دولتان: واحدة إسرائيلية والثانية فلسطينية)، لكن بعد مرور سبعة أعوام، نجد أن طموح أوباما يتحول إلى عبارات فضفاضة وغير شاملة، كما كانت من قبل، مثل (نحاول أن نقلص العنف حول الحرم الشريف في القدس).

 وحتى داعش الذي تعهد أوباما قبل 18 شهرا من هزيمته وتدميره، بدأ كيري يعتبر أن داعش يعبر عن تقاليد روحية وأخلاقية تعود جذورها إلى تلك الأراضي القديمة التي يمكن أن تؤثر تلك التصورات في جميع القارات، لأن الناس يتأثرون بالتقاليد الروحية والأخلاقية، أي أن كيري يحاول الالتفاف على الحقائق، بل في تصريحاته تلك تضمينات واتهامات خطيرة، أي أن كيري يحمل دول المنطقة، خصوصا السعودية مسؤولية مواجهة داعش التي ترفض مواجهة داعش قبل إسقاط نظام الأسد.

رغم ذلك يبرر كيري بأن الولايات المتحدة قامت بجهود جبارة في مواجهة داعش من خلال شن أكثر من 7300 غارة جوية أجبرت داعش على تقليص عملياتها العسكرية، التي أمنت الحدود التركية السورية شرق الفرات، التي تمثل 85 في المائة من الحدود التركية، ويعتقد كيري أن الولايات المتحدة أكتفت في إعادة تزويد داعش مقاتليها بالمؤن في الرمادي.

الاتفاق الوحيد الذي يتباهى به كيري، وهو توقيع الاتفاق النووي الإيراني بوصفه إنجازه التاريخي الوحيد في منطقة الشرق الأوسط، لكن رفض أوباما ربط التوقيع بمنع إيران من التوسع في المنطقة العربية، أي أن أوباما يترك تلك المسؤولية لدول المنطقة، ولم يتبقى في دول المنطقة دول متماسكة سوى السعودية وتركيا، مما يحمل تلك الدول مسؤوليات تفوق طاقتها بين وقف التمدد الإيراني في اليمن والبحرين والعراق وسوريا.

همّ أوباما الوحيد مواجهة توسع الصين الجريء الذي يشغل مراكز التفكير في واشنطن، نفوذ الصين المتزايد جعل واشنطن تأخذ على محمل الجد احتمال الضغط عليها للخروج من منطقة بحر الصين الجنوبي التي يمر منها 50 في المائة من التجارة العالمية، بعد الموجة المحمومة في بناء الجزر، جاءت بعد إعلان الصين عام 2013 أنها بصدد إنشاء منطقة دفاع جوي في بحر الصين الشرقي، محور إدارة أوباما بالنسبة لآسيا، الذي كان مصمما جزئيا لكبح جماح الصين، لكن طموحات الصين توسعت بدل أن تتقلص، وبدأت واشنطن تصف نهج الصين فيما يتعلق بالنزاعات البحرية بأنه استراتيجية الملفوف، أي تراكم بطئ متعمد لمرافق جزر جديدة، ووجود بحري يقوم تدريجيا بتحويل التوازن العسكري في بحر الصين الجنوبي.

الولايات المتحدة قلقة من ارتفاع نسبة التبادل التجاري بين الصين والاتحاد الأوربي الذي ارتفعت نسبته من 7 في المائة عام 2002 إلى 14 في المائة عام 2014، بينما انخفضت نسبة التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي من 24 في المائة عام 2002 إلى 15 في المائة عام 2014 لصالح الصين.

بعد سقوط الطائرة الروسية في سيناء، وأحداث باريس، بينهما عامل مشترك، أدخلت العالم في حرب ضروس ضد داعش، لكن بين المزاج والجد خيط رفيع، خصوصا وأن الولايات المتحدة تود أن يعتمد العالم على نفسه دون الاعتماد الكلي عليها كما كان من قبل، وتود منه التفاهم فيما بينه وهو ما جعلها ترفض تضمين الاتفاق النووي بين الغرب وإيران منع إيران من التدخل في المنطقة.

يتساءل البعض لماذا لا يشكل العالم تحالفا واسعا على غرار ذلك التحالف الذي طرد قوات صدام حسين من الكويت في عام 1991، وهي نفس دعوة هولاند إلى توحيد القوة العالمية، ويدفع باتجاه تحرك في مجلس الأمن الدولي، لكنه يرفض نشر جنود فرنسيين على الأرض.

لكن داعش ظاهرة وعرض لمشاكل أكبر، والجميع أهداف محتملة على غرار ما حدث في باريس ما دامت الحرب في سوريا مستمرة والأسد باق، لذلك فإن الإرهاب الذي استهدف باريس، سيستهدف مناطق أخرى، وسيطيح باستراتيجية إيران وروسيا في سوريا والمنطقة بأسرها.

سياسات إيران في سوريا هي التي أنتجت ونشرت متطرفي القرن الحادي والعشرين، وقبل اقتلاع داعش، على العالم أجمع اقتلاع الأسباب الرئيسية التي أدت إلى إنتاج داعش.

الوجود العسكري للحلف الأطلسي في الشرق الأوسط، خصوصا بعد وصول حاملة الطائرات شارل ديغول إلى شرق المتوسط، والتي بدأت في شن غارات على داعش، وكأن أميركا وروسيا وتركيا وإيران نقلت صراعاتها في سوريا في قلب المنطقة العربية، لكن صاروخ تركي غير معادلة الحرب بعد إسقاط تركيا طائرة روسية ومقتل طياريها، وسبق أن أسقطت تركيا في 16 أكتوبر طائرة روسية من دون طيار، لكن روسيا أنكرت أنها طائرة تابعة لها.

اضطر روحاني إلى إلغاء زيارته الرسمية إلى باريس، وإلغاء لافروف زيارته لتركيا، وهي نهاية المناورة التي تتبعها كل من إيران وروسيا، خصوصا بعد الزيارة التي قام بها بوتين لإيران، وأصدر على إثرها قراراً بتسليم طهران مواد وتجهيزات تكنولوجية لتحديث المنشأتين النوويتين، وأصبحت صفقة منظومة صواريخ أس 300 سارية المفعول، أقلقت الغرب، خصوصا من جانب الولايات المتحدة التي تبدي اهتماما متناميا بالتعاون مع طهران ما يعني بداية مرحلة جديدة.

بدأت ملامح منطقة آمنة من جرابلس وصولا إلى اعزاز تسعى تركيا لإقامتها في الشمال السوري باشرتها فصائل معارضة سورية تنضوي تحت لواء الجيش السوري الحر ضد تنظيم داعش بدعم جوي ومدفعي تركي، اتخذت تركيا قرارها الحازم قبل قمة العشرين  التي استضافتها عجلتها أحداث باريس، بعدما كانت الولايات المتحدة تريد من تركيا التريث إلى ما بعد القمة.

 يمكن أن تستخدم فرنسا القواعد التركية الجوية، فيما تواصل في الوقت نفسه الولايات المتحدة إرسال المزيد من الطائرات إلى قاعدة إنغرليك العسكرية في تركيا ما يوحي بأن التواجد الغربي بالقرب من روسيا حتى لا تترك بمفردها تصول وتجول في المنطقة.

في المقابل تسعى الولايات المتحدة إلى تنسيق أوسع مع حلفائها العرب لتوفير الشروط اللازمة لإنجاح التسوية السياسية في سوريا والتي وضع أسسها لقاء فيينا الأخير بإعلانه تشكيل حكومة انتقالية خلال ستة أشهر تتولى الإشراف على الانتقال السياسي خلال 18 شهرا.

جاءت زيارة كيري إلى أبو ظبي هدفها تشيع الإمارات والسعودية على إقناع الفصائل المعارضة السورية لوقف إطلاق النار مع قوات نظام الرئيس بشار الأسد، تلك الزيارة أتت لتلين الموقف السعودي المتشدد من الحلول المتاحة في الأزمة السورية نتيجة التدخل الروسي المؤيد للموقف الإيراني الداعم للأسد، وكذلك الأجندة التركية المرتبطة بالموضع السوري، والاعتبارات السياسية الأخيرة من الأكراد في تركيا.

تلك الزيارة من أجل إنجاح مؤتمر وفد المعارضة السورية المقرر أن يعقد منتصف ديسمبر في الرياض، خصوصا وأن هناك صراعا خفيا بين وفد المعارضة في القاهرة الذي يرفض الضغوط التركية التي لا تقبل بأي شئ يأتي من القاهرة، فيما طلبت تركيا استبعاد كذلك قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من قبل واشنطن، والتي تتلقى أسلحة أميركية لمحاربة داعش، التي تتشكل نصف جبهة قوات سوريا الديمقراطية من شخصيات كردية تسعى إلى تأسيس حكم ذاتي في شمال سوريا.

تحاول أبو ظبي إلى دفع الأطراف المختلفة إلى الوصول حول تشكيل الوفد السوري المعارض إلى حل وسط.

د.عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق