هل ستخفف مشاركة إيران في جنيف من سياساتها المزدوجة

الدولة المؤسسة على الأيديولوجيا، علمانية كانت أو دينية، لا تقود سياستها الخارجية كسائر الدول. فالأيديولوجيا، والدين في حالة إيران، حاضرة دائما كسبب أو كنتيجة، كهدف أو كحجة.

مشاركة إيران في محادثات جنيف في فيينا من أجل خطة سياسية انتقالية في سوريا تعكس بعض نتائج الاتفاق النووي على النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط الذي يراد إرساءه، وتعبّر عما آلت إليه سياسة باراك أوباما الشرق أوسطية في تحويل الساحة الدولية إلى الثنائية القطبية أو أكثر. هذه المشاركة تترجم السياسة الأميركية التي صارت تعتبر أن إيران عامل استقرار في المنطقة.

منذ توليه الحكم عمل أوباما على اعتماد إيران كعامل توازن في وجه السيطرة العربية – السنية على الإقليم، وعلى تحويلها قوة إقليمية عظمى. تتحول إيران من دولة معزولة ترزح تحت ضائقة اقتصادية كبيرة، إلى مركز استقطاب للدول الغربية المتهالكة على السوق الإيراني. لكن إيران لم تفعل شيئا يجعلها تستحق هذا الانفتاح، بل على العكس لا تزال سياساتها تتسم بالازدواجية؛ ولقد عبرت تجربة الصواريخ البالستية في أكتوبر الماضي عن سلوكها المزدوج، ما جعل الولايات المتحدة تعتبر الأمر إخلالا بقرار مجلس الأمن الذي يمنع طهران من تصنيع صواريخ بالستية.

ولا يزال محمد جواد ظريف، وزير خارجية إيران، يعلن “أن الشعب السوري هو الذي يحدّد مستقبله، ولا يحق لنا الحديث نيابة عنه، وأن اجتماعنا يهدف إلى مساعدة السوريين والدفع باتجاه الخيارات السياسية”، مضيفا “أكدنا ضرورة مواجهة الإرهاب، إضافة إلی أن الشعب السوري هو الذي يحدّد مستقبله ولسنا نحن الذين يحق لنا تحديد مسؤولية النزاع في سوريا”. هذا فيما “مستشاروه” يرتعون في سوريا، وفيما لا تزال طهران تستقبل جثث قتلاها المتزايدة من سوريا. هذا ناهيك عن مفاوضة إيران المباشرة للمعارضة السورية حول مصير الزبداني والقريتيْن الشيعيتيْن ضاربة عرض الحائط برأي الرئيس “الشرعي” و”ممثل” الشعب السوري الناطقة باسمه على ما يبدو.

تتبع إيران منذ 1979، كقوة إقليمية، سياسة خاصة. فعلى الصعيد الإقليمي تندرج سياستها الخارجية في استمرارية السياسة التقليدية الإيرانية، أي المحافظة على النفوذ وتدارك أي تهديد من جانب منافسيها التقليديين: روسيا وتركيا والمملكة العربية السعودية وباكستان. فتضع دبلوماسيتها الحذرة في خدمة بلدها المعزول، وهذا ما يفسر الاحتراس الذي يبقى هدفه الأول الأمن الداخلي والخارجي للبلاد والاستقرار على حدودها، لأن إيران متعددة الإثنيات والقوميات والأديان، تقوم نواتها على أكثرية شيعية وفارسية، إلى جانب عدد من الأقليات الوطنية غير الشيعية ومن قوميات أخرى ذات ميول انفصالية تنتظر فرصة للإفصاح عن نفسها. وهذا ما تعتبره تهديدا لأمنها قابلا للاختراق من الأعداء.

نقطة الارتكاز الثانية تبدو معكوسة، فإيران التي تتشدد في حماية نفسها داخليا، تطمح لأن تهيمن على العالم الإسلامي عبر تأدية دور قائد عالمي للثورة الإسلامية، باسم “الجامعة الشيعية”؛ لهذا نجدها عززت الخارطة الشيعية مقابل الخارطة عبر – الإيرانية، لأنها تفضل الاعتماد على الطوائف الشيعية غير الإيرانية، الهزارة في أفغانستان والشيعة العرب في لبنان والبحرين والعراق، أكثر منها على جماعات إيرانية عرقيا، كالأكراد والطاجيك. تخدم هذه الجامعة الشيعية، الدبلوماسية الإيرانية.

هناك صلة أكيدة بين نقطتي الارتكاز هاتين: “الجامعة الشيعية” تفرز مواقع للدولة الإيرانية كعامل إقليمي عبر استغلال الشيعة العرب؛ فتعمل على إقناعهم بأنها ملاذهم وحاميتهم، وهذا كي تتقوى بهم من أجل إرادتها في ما تطلق عليه ظاهريا “هداية” العالم الإسلامي إلى الشيعية؛ فيما هي تقصد الهيمنة وتخريب الدول العربية.

درج بعض المراقبين على عدم الاهتمام بالعامل الأيديولوجي في السياسة الخارجية الإيرانية. فمنهم من يرى فيه كلاما منمقا ومزايدة تخفي سياسة تقليدية للمحافظة على النفوذ الإقليمي، ومنهم من يرى العكس: وراء هذه السياسة التقليدية إمبريالية شيعية.

هذه السياسات تذكرنا بممارسات الاتحاد السوفييتي الغابرة. فهي تمارس سياساتها على عدة مستويات، المستوى الأول مستوى الدولة ومؤسساتها الأمنية والتنظيمات المتعددة التي أوجدتها للإمساك بمقاليد البلاد، إلى جانب سلطة الولي الفقيه الدينية المطلقة على الدولة.

ونجدها هنا كالاتحاد السوفييتي في مرحلة “الاشتراكية في بلد واحد”. هذه المقارنة بالاتحاد السوفييتي لا تعني المحتوى الأيديولوجي إطلاقا، بل وجود قطاع مزدوج من الحوافز في الحالتين، أحدهما سياسي سلطوي، والآخر أيديولوجي.

اتبع الاتحاد السوفييتي خلال 70 عاما من عمره، سياسة يدفعها محرك بثلاث سرعات: الأولى تقضي باعتماد الوسائل الدبلوماسية التقليدية، باعتبار أن الاتحاد كما يعرّف نفسه، في خدمة الثورة العالمية. السرعة الثانية تعمل على تشجيع قيام نظام حكم شيوعي كلما كان ذلك ممكنا، بواسطة التخريب أو الانقلابات. أما السرعة الثالثة ففي تحصيل فوائد الانتصار الشيوعي في البلد المعني لتقوية الدولة السوفييتية ونظامها. هذا المنهج، المتبع ضمن “دائرة جدلية” بسرعات تتنوع بتنوع أهمية الأوضاع وأولويتها، يُظهر أن دولة مؤسسة على الأيديولوجيا، علمانية كانت أو دينية، لا تقود سياستها الخارجية كسائر الدول. فالأيديولوجيا، والدين في حالة إيران، حاضرة دائما كسبب أو كنتيجة، كهدف أو كحجة.

فدبلوماسية الدولة تجهل، أو تتجاهل، وسائل التخريب والإرهاب التي قد تضطر أجهزة المخابرات الإيرانية خاصة إلى اعتمادها خدمة لأهدافها في الشرق الأوسط، في أوروبا أو في أجزاء أخرى من العالم. وفي الوقت نفسه يندمج الجهازان على مستوى القرار. أما ما يمكن تعديله فهو التوقيت ودرجة التواتر في هذا القطاع أو ذاك.

في الاتحاد السوفييتي لم يكن يوجد إلا سلطة واحدة مسؤولة هي الحزب، الذي كان قادرا على إقامة علاقات دبلوماسية سليمة بأسوأ أعداء الشيوعية، كما كان في وسعه أن يقوم بالتجسس والتخريب وإنشاء خلايا لهذه الغاية في البلدان الرأسمالية. وفي إيران يبدو الوضع مشابها مع تعقيد إضافي في وجود الولي الفقيه المقدس وظل الله على الأرض. ولقد قامت بزرع خلايا وتنظيمات وأحزاب بين الشيعة في البحرين والعراق ولبنان واليمن حيث هناك إدارة رسمية واحدة برعاية حسن روحاني المنتخب “بديمقراطية” بعد إقصاء غالبية المرشحين، لكنها تأتمر بأمر السلطة المطلقة للولي الفقيه. هذا التقسيم يجعلها قادرة على أن تقيم، بواسطة الدولة، شبكة علاقات دبلوماسية مع أكثرية بلدان العالم، لكن دبلوماسييها لن يترددوا في حث الأقليات الشيعية، حيث وجدت، على القيام بأي عمل تخريبي. فإيران لا تتصرف كدولة، بل كدولة وكحزب في آن معا وكمرجعية مقدسة من الملزم الخضوع المطلق لها.

وآخر منجزات الدولة الأمنية الإيرانية على هذا الصعيد اعتقال خبير الاتصالات اللبناني نزار زكا وإخفاؤه لمدة شهر ونصف الشهر، قبل اعتراف السلطات باعتقاله بعد أن جاء إلى طهران بدعوة رسمية من نائب الرئيس الإيراني لشؤون المرأة؛ وحتى الرئيس الإيراني شكا مؤخرا من أن وسائل إعلام إيرانية تعمل مثل “شرطة سرية”.

يعيدنا هذا إلى ممارسات الشيوعية العالمية التي شكلت آفاق السياسة الخارجية السوفييتية خلال ثمانين عاما. لكن بخلاف الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، الذي كان بإمكانه الاعتماد على دعم الأحزاب الشيوعية في مختلف مناطق العالم، فإن إيران لم تكن لها جماعات شيعية تدعمها، بل عملت على إيجادها عبر استغلالها للأوضاع السائدة من استغلالها لقضية فلسطين التي اكتفت بدعمها ديماغوجيا عبر ممانعة لفظية، إلى استغلالها احتلال الجنوب اللبناني الذي تحرر من إسرائيل ليقع تحت قبضة إيران، إلى استغلالها احتلال العراق وتجييره لنفوذها، ناهيك عن انتهاك سيادة البحرين واليمن ومحاولاتها في الكويت، بحيث صار بالإمكان مقارنة نفوذها مع الأحزاب التي أوجدتها للأقليات الشيعية في البلدان العربية بالأحزاب الشيوعية زمن المنظومة الشيوعية.

نقلاً عن العرب اللندنية

منى فياض

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق