هل تتمكن التيارات الإسلامية الجديدة من تجديد الخطاب الإسلامي حول مفردات الدولة الحديثة؟

بعد وصول القوى الإسلامية إلى السلطة في كل من مصر وتونس والمغرب بعد الثورات العربية، ولكنها فشلت في الاحتفاظ بالسلطة في مصر وتونس.

 هناك قناعة بأن التيارات المعتدلة على استعداد لبلورة خطاب جديد حول مفردات الدولة الحديثة استعدادا لمرحلة مقبلة للانخراط في العملية السياسية على اعتبار أن الدولة في الإسلام دولة انفتاح لا دولة انغلاق، دولة شعارها الأكبر حيثما كانت المصلحة، ومن ثم فان المفاهيم حول الدولة ستكون مرنة ومفتوحة للنقاش.

 هناك تفاؤل مبني على التعامل العقلاني ما بعد الثورات العربية، والتكيف مع متطلباتها، وترك التمسك بالشعارات الأيديولوجية التقليدية والقوالب الجاهزة السابقة، خصوصا بعدما خسرت جماعة الإخوان المسلمين أكبر قاعدة شعبية لها في مصر.

التيارات الإسلامية بحاجة إلى التجمع حول أهداف سياسية ووطنية جامعة تجمع حولها كافة التيارات الاجتماعية بجميع أطيافها، إلى جانب الفهم المتوازن للمعادلات الداخلية والإقليمية والدولية، والتعاطي مع المعطيات الجديدة السريعة بديناميكية ورؤى واضحة.

 التيارات الإسلامية بحاجة إلى أن تنسى معاناتها السابقة في ظل الأنظمة الاستبدادية ما تسمى بالمظلومية، وهي نفس المظلومية التاريخية للشيعة التي أدخلتهم في صراع مع السنة الذي تقوده إيران لتوسيع نفوذها الذي يقوم على التدمير بأداة الطائفية عبر التاريخ ولولا الدولة العثمانية التي أخرت تمدد النفوذ الإيراني حتى وجدت الفرصة مواتية بعد احتلال الولايات المتحدة العراق وتسليمه لإيران.

 الدولة العميقة في مصر استطاعت بدعم شعبي سعودي حرم جماعة الإخوان المسلمين من الاستئثار بالسلطة دون بقية فئات المجتمع الأخرى.

 عندما تولت جماعة الإخوان المسلمين السلطة في مصر لم تسرع إلى تجديد خطابها إزاء العديد من المسائل المتعلقة بالدولة بسبب أنها لم تتمكن من تطوير مثل تلك المفردات في ظل حرية مفقودة في العهود السابقة.

 التيارات الإسلامية عليها أن تنبذ شعار الدولة الإسلامية كهدف للتيارات، لأن الدولة ليست لها هوية (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده)، والشريعة الإسلامية مرجعية للمسلمين، وتعميق القبول بالديمقراطية ليست كآلية فقط بل كثقافة وكنظام سياسي، والمشاركة الجادة في صياغة عقد اجتماعي جديد قادر على صياغة دستور يحترم جميع الهويات داخل الوطن الواحد لتتحقق المساواة بين جميع المواطنين بما فيها الهوية الإسلامية، والتحول من فكرة الجماعة أو الحركات الإسلامية إلى أحزاب سياسية مدنية يتجه إلى بناء نظام تعددي عادل ينبذ العنف ويتسع الوطن لجميع الهويات.

 التيارات الإسلامية عليها أن تفكر في إعادة صياغة جديدة لمصطلح أهل السنة والجماعة الذي تبلور أواسط القرن الثاني الهجري باعتبار أن القسم الأول منه يمثل الدين، والقسم الثاني يمثل الدنيا، والمقصود في الجانب الأول اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بأركانها التعبدية عقيدة وفقهاً، أما القسم الثاني ينصب على مشاركة جماعة المسلمين في إدارة شئونها الخاصة والعامة التي تخضع لتدبير المصالح العامة.

 تعامل العلماء مع القسم الأول اعتقادا واتباعا وتعلما، بينما تعامل العلماء مع القسم الثاني اجتهادا، وظل هذا التقسيم طوال العصور الماضية باعتبار أن الإسلام كدين هو المرجعية لهذين القسمين.

 لكن شهد القرن العشرون تغيرات على يد الجماعة الإسلامية والإخوان المسلمين حول مفهوم الجماعة للوصول إلى تدبير ذي شرعية لشؤون المسلمين انتهى بهم الأمر إلى القول بمرجعية الشريعة وليس الجماعة في إدارة شؤون العامة أو شؤونهم، فأصبح الدين والدنيا كل لا يتجزأ.

بذلك انتهى عهد الثنائية، فبرز على الفور تناقض ومواجهة ما بين الدين والدنيا والشريعة والجماعة، وأصبحا على طرفي نقيض بعدما كانا يسيران جنبا إلى جنب، ومن هنا بدأت بعض المجموعات المتشددة في اتهام المسلمين بالخروج عن الدين تارة، وصل الأمر في بعض المتشددين إلى تكفير جماعات من المسلمين، وبالأخص الحكام قبل الإطاحة بهم في الثورات العربية في عام 2011، بسبب أنهم كانوا لا يطبقون الشريعة الإسلامية.

 من هنا برزت فكرة الحاكمية (حاكمية الشريعة) أي الاتجاه نحو الاستيلاء على السلطة من أجل فرض تطبيق الشريعة الإسلامية، مثل داعش التي سمت نفسها الدولة الإسلامية، وأتت لملئ فراغ تركته الثورات العربية نتيجة صراع إقليمي ودولي في المنطقة خصوصا في سوريا وتسببت في تشكيل تحالف دولي لمحاربتها.

مثل تلك الجماعات لم تدرك بأن عدم تطبيق الشريعة لا يعتبر كفرا أكبر بل هو كفر دون كفر قال به جهابذة العلماء الكبار (ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون) وفي آية أخرى فأولئك هم الظالمون، مما أدخل هذه الجماعات منذ فترة طويلة في صراعات مع حكام مجموعة من الدول قبل الثورات العربية وبعدها مع المجتمعات.

أصبحت الدول والمجتمعات هدفا لهم خصوصا في تركيا منذ زمن أتاتورك أو في الدول التي كانت ترزح تحت السيطرة الروسية، لذلك اتجهت بعض الدول إلى إضعاف مثل تلك الجماعات من قبل ثوريي الدول الحديثة باعتبارهم عقبة أمام أي تحديث.

لم يدرك المتشددون أن الأولوية في قول الله سبحانه وتعالى (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)، وهذا يعني أن تطبيق شريعة الله تأتي وفق توفر ظروف تطبيقها يتوافق عليها الجميع من دون إكراه لأن الرسول نهى الخروج على الحاكم وكان يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (ما أقاموا فيكم الصلاة) رواه مسلم، في حين يجب نصحهم دون الخروج عليهم إن لم يستجيبوا للنصيحة، لأن الإسلام يرى في الخروج على الحاكم فتنة أعظم من عدم تطبيق الشريعة الإسلامية.

لا يوجد مسلم يؤمن بالله ورسوله ولا يرتضي أحكام الله سبحانه وتعالى، ولكن في ظل الدولة الحديثة التي تعترف بالتعددية وبحقوق الآخرين غير المسلمين الذين يشاركونهم من أجل أن يتعايشوا في وطن واحد وبحقوق متساوية دون استئثار فئة من المجتمع في السيطرة على إدارة الشأن العام مع إقصاء بقية المكونات المخالفة لها بحجة أنهم المؤتمنون دون غيرهم في تطبيق الشريعة وما يدعونه يعارض ويخالف وثيقة المدينة التي أقرها الرسول الكريم التي كانت تعترف بحقوق وشريعة الآخرين الذين يشاركون المسلمين في العيش المشترك من يهود ومن مشركين.

على عكس الدول الأخرى ما قبل الثورات العربية كانت المؤسسة السياسية في السعودية باعتبار أن للسعودية لها خصوصية، المؤسسة السياسية داعمة للمؤسسة الدينية ووسعت من نشاطها، وأصبحت المؤسسة الدينية طرفا في المساهمة في عمليات التحديث، أدى إلى بروز طائفة متشددة ترفض مرجعية المؤسسة الدينية، وحجيتها بسبب ارتباطها بالمؤسسة السياسية وهناك حجج أخرى فيما يخص الولاء والبراء.

 حاولت هذه الفئة الحصول على شرعية إضافية من أتباعها مستفيدة من نزوعها الاحتجاجي أطلقت على نفسها (السلفيون الجهاديون) وهي لا تؤمن بنموذج البيعة الذي تتبعه السعودية في اعتمادها على أهل الحل والعقد أي تتجه من الخاص نحو العام معتمدة على قول الله سبحانه وتعالى (فاسأل به خبيرا) (وشاورهم في الأمر) (وأمرهم شورى بينهم)، وهي آيات واسعة ليس لها حدود حتى لا تقفل الباب أمام أي حاكم من أن يستعين بنظم حكم أخرى يتناسب تطبيقها مع مجتمعه، ولا يؤمنون كذلك بالديمقراطية الغربية التي تتجه من العقد الاجتماعي نحو الخاص، وهي نماذج حكم بشرية قابلة للتجربة بما فيها من الخطأ والصواب وهي جميعها قابلة للتصويب.

رغم أن البيعة عقد اجتماعي بشقيه الإيماني والأدائي، بينما الديمقراطية هي عقد اجتماعي بشقه الأدائي، لذلك لا تتعارض الديمقراطية مع البيعة خصوصا في شقها الأدائي رغم عدم تطابقهما، وعند تطبيق الديمقراطية يمكن تعزيزها بالقيم الدينية والأخلاقية وتطعيمها بمبادئ العدل والمساواة التي تدعو لها الشريعة الإسلامية وبقية الديانات الأخرى وحتى منظمات حقوق الإنسان.

أما في باقي الدول الأخرى ما قبل الثورات العربية فإن التيارات الإسلامية كانت تريد من حكام دولها تطبيق الشريعة الإسلامية، وكفرت هؤلاء الحكام وقسمت العالم إلى فسطاطين، اعتمدت في ذلك على التراث وعلى تطبيقات سابقة، رغم أنه مخالف لأصول الدين الحنيف، وهذا الواقع بحاجة إلى مراجعة وتنقيح من قبل المؤسسات الدينية لإعادة مثل تلك الجماعات إلى التوازن العقدي والاجتماعي والسياسي.

كما أن على الأنظمة الجديدة عدم اتباع سلوك الإقصاء والإلغاء بالكامل خصوصا لمن لم يشارك في العنف مثل التنظيم السري لجماعة الإخوان المسلمين، وأن تعطى لهم الفرصة بالمشاركة السياسية بعد تبني مراجعات جدية خصوصا لفئة الشباب منهم، لأن الاصطفاف لا يؤدي إلا إلى تغذية الصراع والنزوع نحو الاحتجاج وإلى ظهور جماعات ثائرة وعنيفة جديدة.

 د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

 أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق