هاجس اختطاف الخطاب الديني من العلماء

لم يكتشف العالم أن الخطاب الديني أصبح مختطفا، بل كان يأويه ويدافع عنه تحت ذريعة حرية الرأي، بل في بعض الأحيان كانت تلك الدول تحميهم بحجة أنهم معارضون سياسيون، لكنهم اكتشفوا أنه خطاب مختطف من العلماء، بعد معاناته وفشل في مواجهة موجة الإرهاب التي تضرب أوربا بشكل خاص.

 الإرهاب الذي ضرب أراضي أوربا بعدما كانت تعتقد أنها بمنأى وبمعزل عن خطره، بل أصبح هذا الخطاب المختطف من العلماء الربانيين هاجس يورق مضجعهم ومضجع الدول العربية والإسلامية، بعدما كانت السعودية على لسان الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله يحذر العالم من أن اللعب بورقة الإرهاب يمكن أن تحرق الجميع، لأن الإرهاب لا يفرق بين أحد، خصوصا وأن السعودية لديها تجربة ثرية في ملاحقة الإرهاب والإرهابيين بجميع أشكاله السني والشيعي، قد تغفل الدول الغربية الإرهاب الشيعي لأن قياداته نابعة عن ولاية الفقيه بقيادة الحرس الثوري الإيراني ويستهدف الدول السنية وحتى الشيعية لكنهم في الوقت الحاضر لا يستهدف الدول الغربية لكنه استهدف القوات الأمريكية في العراق وفي أفغانستان، بينما الإرهاب السني صادر عن جماعات، رغم أن هناك تلاقي وتعاون بين الارهابين، لكن الدول الغربية تبحث فقط عن الظواهر ولا تبحث عن الجذور والمسببات، لذلك فهي فقط تحارب الإرهاب السني، بينما السعودية تحارب الإرهاب بطريقة شمولية دون أي تفريق لأن الإرهابين الشيعي والسني يستهدف الدول العربية والإسلامية.

اختطاف الخطاب الديني هو متاجرة بالأديان، وهو متدثر بالأطماع والسياسية لخداع العامة، وإضفاء ضرب من ضروب القداسة على خطابه المختطف، وهو يشبه الخطاب الديني المختطف من بعض رجال الدين في العصور الوسطى وتسبب في حروب دينية مدمرة من أجل سطوة رجال الدين.

الخطاب الديني المختطف يتبنى رأيا دينيا وفكريا شاذا وهو يختلق الكذب والافتراء على آراء الدين الصحيح الذي يحمله العلماء، بل هو ينكر على العلماء ويعتبرهم علماء سلطة لا يجوز الأخذ عنهم، ويعتبرون أنفسهم البنيان المرصوص، ولكنهم استحلوا ما حرم الله روعوا الآمنين والمستأمنين وإهلاك الحرث والنسل، بل فعلوا ما لم تقبله الأديان والفطر السليمة من ذبح البشر وحرقهم والتنكيل بهم في موجات عنف لم تمت بصلة للإنسانية من قتل حتى أقرب الأقربين كالوالدين بحجة التقرب إلى الله، ودهس الأبرياء، وقتل الكهنة في كنائسهم، وتفجير الأماكن العامة.

أعمالهم التي أقدموا عليها أربكت الاستخبارات العالمية، وأشعرتها بأنها استخبارات فاشلة في تتبعهم، وأثبتت أنهم غير قادرين على تتبع الذئاب المنفردة والتفريق بينهم وبين الخلايا المنفردة، بل هي تبحث عن خلايا نائمة بينما هم في الحقيقة خلايا نشطة، ولكن تلك الاستخبارات لم تكن مستعدة لمثل تلك العمليات الإرهابية التي اختطفت الخطاب الديني تحت ذريعة الحرية، والدفاع عنها، واتهام الدول التي تحاربها بأنها دول مستبدة غير ديمقراطية.

 لذلك على كل دول العالم أن تنسق جهودها فيما بينها لمواجهة هذا الخطر المحدق بهم، لأن خطره عالمي والاستعانة بمركز الأمير نايف لمكافحة الإرهاب الذي يواجه هذا الإرهاب منذ فترة طويلة، ويمتلك من الخبرة ما يؤهله لتفكيك ومواجهة هذا النوع من الخطاب الذي لا يمكن فصله عن العمليات الإرهابية التي يقوم بها في جميع أنحاء العالم.

وقد حذر الدين الإسلامي من مثل هذا الخطاب المختطف المدمر وصيانة الأنفس وحمايتها من أي اعتداء ( بأي ذنب قتلت ) ( والفتنة أشد من القتل ) فمثل هذا الخطاب المختطف للمتاجرة بالأديان هو من الفتنة التي تتسبب في الدمار الشامل والذي يأكل الأخضر واليابس، لأن لديه قدرة على جر الشباب أو سياقهم إليه أو هم ينساقون إليه دون وعي ودخول من الباب الذي لا خروج منه أو إدراك لطبيعة هذه الجماعات الضالة التي اختطفت الخطاب الديني وفق مفاهيم ضالة ومنحرفة.

اختطاف الدين من علماء الدين المدققين وأهله المتخصصين لصالح فئات مؤدلجة لا تؤمن بوطن ولا بدولة وطنية، تؤمن بالولاء للتنظيم والجماعة باعتبار حكام الدول كفرة ملحدين لا يجوز مبايعتهم بل يجب محاربتهم بل الأخطر عندما يتم تكفير كافة الشعوب نتيجة التوسع في التكفير الذي لم يتنبه له العلماء في فترات مضت بأنه أداة خطرة وفتنة ليست لها حدود.

نحن نحتاج إلى استرداد الخطاب الديني المختطف لتحصين الشباب والناشئة، ولكن كيف؟ نحن نحتاج في البداية إلى تنقية كتب التراث ما علق بها من انحرافات عن قيم وتسامح الدين الحنيف، كما نحتاج إلى تأهيل الخطباء والدعاة وفق الفهم المستنير لهذا الدين، وأن تتولى هذه المسؤولية المراجع الدينية المعتبرة في العالم الإسلامي خصوصا الأزهر الشريف ورابطة العالم الإسلامي في السعودية.

استرداد الخطاب الديني المختطف لا ينفصل عن التوجه نحو تغيير الخطاب الديني الذي يتطلب ضرورة تجاوز الفقه الإسلامي القديم، لا سيما العلاقة التي تؤطر المسلمين بأصحاب الديانات الأخرى، تستمد تغيير خطابها من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما كان جاره يهودي ويزوره حينما يمرض، قد يرى البعض أن هذه مرحلة تبعتها مراحل أخرى عندما أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود من المدينة، ولكنه كان مرتبط بنقض العهود، ومما يثبت عدالة الرسول صلى الله عليه وسلم وسماحته رهن درعه عند يهودي قبل وفاته.

فالدعوات الدينية لمحاربة اليهود والنصارى وجعلهم غنيمة للمسلمين، والدعاء بتيتيم أبنائهم، خطاب لم يعد مقبول، ويخالف كافة النصوص الدينية المحكمة، حيث أرسل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وأرسل بشيرا ونذيرا، وما عدا ذلك فإن الدين الإسلامي يرفض قتل من لم يعتدي على المسلمين، بل دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السلم والتعايش والتفاهم بين جميع البشر بصرف النظر عن دياناتهم ومذاهبهم بسبب أن إشكالات العصر الكبرى المنتجة لظاهرة اختطاف الخطاب الديني هو التداخل المخل بين فهم حالتي الحرب والسلم، ومثل هذا التداخل الذي شكل مصدرا رئيسيا لاختطاف الخطاب الديني.

 أصل هذا الدين هو السلم والسلام (والله يدعو إلى دار السلام) والحرب استثنائية شرعت لرد العدوان والبغي (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا)، (وإن انتهوا فإن الله غفور رحيم). لكن الإصرار على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم على استمرارية الحرب (الجهاد ماض إلى يوم القيامة)، فهناك تداخل مخل في التفريق بين فهمي الجهاد والقتال، والجهاد أتى بمعاني كثيرة في القران الكريم حيث أتى في قوله تعالى (وجاهدهم به جهادا كبيرا) أي بالقران الكريم.

 وما أمر به القران الكريم المسلمين سوى إعداد العدة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل)، بل أمر الله سبحانه وتعالى بمعاملة من لم يقاتل المسلمين ولم يعتدوا عليهم معاملة البر (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم)، واستثنى الله سبحانه وتعالى من يقاتل المسلمين بعدم ولائهم (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).

فكيف يقبل المهاجرون والمغتربون في الغرب أن يتنكروا لخيرات دول المهجر بعد أن فتحت لهم أبوابها، وهذا لا يعني الانسلاخ من هوية بلدانهم الأصلية أو الانسلاخ من عقيدتهم، بل هم رسل لنشر سماحة دينهم، مثلما انتشر الدين الإسلامي في جنوب شرق آسيا، وفي أنحاء العالم، بينما انضمامهم لداعش ولبقية الجماعات الإرهابية مناقض لأصول وسماحة الدين الإسلامي، الذي يؤكد على الوفاء بالعهود والمواثيق، بل هم يقدموا خدمة لليمينيين الذين يدعون إلى الإسلامفوبيا لطرد المهاجرين والمسلمين من بلدانهم والتضييق عليهم في دول الغرب، بينما دولة المغرب حمت اليهود ورفضت تسليمهم للنازية لحرقهم.

يجب تبني خطابا دينيا معتدلا متسامحا قادر على كبح جماح الشباب المندفعين نحو الإرهاب بإيعاز من الخطاب الديني المختطف الذي يتبنى خطب نارية متعصبة، فالخطاب الديني المعتدل هو تيار مضاد لتلك الموجات القادمة من عدة جبهات ولا تهدف إلا لرسم صورة متشددة ومتعصبة لهذا الدين تكون محصلتها انخراط الشباب في أحد التنظيمات الإرهابية ويتحولون إلى أدوات تنفيذ بيد هذه الجماعات الإرهابية سواء في البلدان الأصلية أو في بلدان المهجر.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق