مناهضة الفساد وتجرع السم

إذا كان لنا أن نصف اليوم أخطر المهلكات للدول والمجتمعات، فلا شك أنها الفساد بكل أنواعه، سواء في ذلك الفساد المالي والاداري -والذي غالبا ما يستأثر باهتمام العموم- أو الفسادات الأخرى السياسية والأخلاقية!

لكن المصيبة تكون مضاعفة حين نفشل في مواجهة هذا الغول الذي لا يستسلم ويواصل خنقه لمقدراتنا الوطنية، وقد لاحظت مؤخرا، أن فشل مواجهة هذا الهدام لا تتعلق بالوسائل والآليات فقط، بل بالنظر الفقهي والقانونى لهذه الملمة، سواء من حيث التوصيف والتكييف، أو من حيث تحريك المسؤولية وحتى الجزاء، وما أكتبه هنا يظل ملاحظات لإعادة النقاش حول هذا الموضوع الهام، وليس قراءة قانونية بالمفهوم العلمي والدقيق.

حين استشار بعض الناشطين والمدونين الوطنيين، بعض أساتذة القانون حول الإمكانية المتاحة في قانوننا الوطنى للأفراد الذين يمتلكون أدلة دامغة على وجود عمليات فساد، تحريك دعاوى أمام القضاء؟! جاء الجواب والاستشارة باردا وجامدا ومخيبا للآمال! لقد كان  الرأي -بمفهوم المخالفة للغاية- سقراطيا، فلنتجرع السم ويبقى القانون ويعيش المفسدون! ورغم عدم تخصصي في القانون الجزائي، إلا أننى أعتقد أن هذه الفتيا لا يمكن الأخذ بها، لأن التحدي يتعلق غالبا باستحضار الرؤية الكلية والمقارنة وبالتطبيق والتنفيذ والتفعيل للنصوص القانونية، وليس بقصور القانون الموريتاني نفسه في كليته وشموله، خصوصا إذا استحضرنا المرجعيات والمصادر المختلفة لهذه المساطر والمدونات!

ولكن قبل هذه المناقشة التى لا تدعي التخصص، وإنما تطمح للمراجعة والتنبيه، لابد من التعريج على قصتنا مع الفساد، لعل خطورة الواقع ومدلهمه ينعش ذاكرة العقل القانوني لدينا فيستعيد ردعه لهذا الغول.

قصة بلدنا مع الفساد قصة طويلة وحافلة من المعاناة مع هذه الآفة الخطيرة، فمنذ بدأت تسيطر على المشهد الرسمي تلك السياسات العشوائية والتوجهات الارتجالية من أواخر السبعينيات، بدأت أنواع الفساد تطل برأسها، لكن الفساد ظل مختلف الدرجات والمساحات من فترة إلى أخرى، فعقد الثمانينيات كانت أوجه هذا الفساد تتعلق أساسا بممارسة النفوذ وبالزبونية والمحسوبية، بناء على اعتبارات خاصة تتعلق بالمركز في السلطة والقرب من هذه المراكز، لكنه لم يكن فسادا ماليا واضحا بالمعنى المتعلق بالاختلاس أو الرشى أو غيرها، وإنما ظل الفساد المالي محصورا في السياسات القاصرة التى أدت إلى التبعية والهدر والتبذير والفشل في التدبير المالي والاقتصادي، غير أن التسعينيات ستكون واسطة عقد الفساد حيث سنشهد ولعقدين متتاليين تكريسا ممنهجا وشيوعا لا مثيل له في انتشار الفساد، حيث أصبح الفساد ثقافة وأسلوب حياة، وأصبح مؤسسة تبتلع الدولة والمجتمع له خطابه ورجالاته وأساليبه، حقا إن “الديموقراطية شيء لعين باهظ الثمن”، ولم يعد هناك مجال للنكران أو ذرة من حياء، لقد تواترت النخب وارتضيت -إلا من رحم ربك- الفساد طريقة حياة، سواء في ذلك النخب العسكرية الحاكمة، أو المدنية المحكوم بها، أو الاجتماعية والمالية المحكوم لها، أو الاعلامية والحزبية الطامعة في المغنم، لقد أصبح الفساد ميكانيزم لتثبيت الوجود والمصالح وتعظيم المكتسبات الشخصية.

لكننى أزعم مع كثيرين أنه مع تغيير 2008، أن إعلان الرئيس محمد ولد عبد العزيز قراره مكافحة الفساد، وتبنيه لخطاب يُوَصِّف بشكل دقيق حقيقة الفساد والنهب المنظم، الذي تتعرض له الثروات الوطنية والميزانيات والقروض والمساعدات، هذا القرار وهذا الخطاب مثل عاملا أولا ورئيسا في دعم الناخبين للرئيس، وهذه الرغبة والنية لدى الرئيس هي ما جعلته وبدعم من الناس يتخطى عقبات حقيقية وخطيرة في مسيرته السياسية، لكن وجه الحقيقة الآخر أن الناس أنفسهم الذين انتخبوا الرئيس يلفتون عنايته اليوم لمسائل الفساد.

فالفساد مؤسسة حربائية متلونة بحسب ظروف الزمان والمكان والحال، لقد أصبح الكل ينادي بتفعيل الشعارات الجميلة والأهداف النبيلة، لأن هؤلاء الناس أحسوا أن مؤسسة الفساد تحاول الالتفاف على تلك الإرادة السياسية المعلنة، ومن يتابع توجهات الرأي العام الوطنى يرى تلك الحسرة التى ولدتها اختراقات الفساد المتتالية، فرغم المحاكمات للبعض وسجن البعض وتجريد البعض واسترداد الأموال من البعض، وحملات التفتيش من وقت لآخر، إلا أن الفساد يبدو أوسع نطاقا، فلم يرعوي أبدا، بل طور مناعته وأساليبه وحواضنه من أجل البقاء، ليظل يفتك بالدولة والمجتمع، غير معني بالقرارات وبالسياسات. بل إن الرأي العام تزداد حيرته حين تنجح مؤسسة الفساد في إعادة تكرير شخوصها، فلم يعد مستغربا أو مفاجئا أن يعود من جرد من مهامه، أو من تعرض للسجن والمقاضاة والملاحقة بتهم الفساد إلى مناصب أكثر أهمية وحساسية من ذي قبل، بل إن المشهد النفسي للمواطنين ستطاله القتامة، حين نرى المفسدين يتصدرون المشهد السياسي والوعظي، بل ومنتخبون يمثلون الناس، وحين تصبح المعارضات والقوى الحزبية نوادي وأجنحة لمؤسسة الفساد المنتشرة في كل مكان، هذا الواقع الأليم والتسلل المكشوف، أكد وجوده التزام الرئيس في خطاب القسم مواصلة مواجهة الفساد، وهو ما ندعوا لتفعيله وتسريع وتيرته. لقد أصبح مطلبا ملحا ليس على أساس سياسي بل على أساس وطني عام، فلم يعد مستغربا أن نجد الندوات والحملات التى تضم معارضة وموالاة تدعو لمواجهة الفساد.

وهو تطور محمود للوعي الجمعي، حيث يصطف السياسيون والنشطاء والمدونون على دعوة سواء من أجل الوطن، بغض النظر عن مواقعهم ومواقفهم السياسية، ينادون بصوت واحد بتفعيل المؤسسات والقانون وتطويره، لمحاصرة وباء الفساد. فلقد أصبحت أساليب استخدام المنصب، والهدر والتبذير، والاختلاس المباشر، والتحايل على القانون، مصادر قلق حقيقي للسواد الأعظم من الناس.

لقد أصبح لزاما على الحكومة ترجمة سياسة الرئيس فعلا لا قولا عن طريق:

  • اتخاذ الأساليب العملية في الحد من استخدام النفوذ والذي هو واقع يقف وراء عمليات الفساد المشاهدة.
  • تفعيل مؤسسة مكافحة الفساد.
  • مراجعة النصوص القانونية المتعلقة بالفساد حتى تضيق أقنيته ومنابعه.
  • سن قوانين تحرم المفسدين من حقوقهم السياسية في الترشح للمناصب أو التعيين …إلخ.
  • تكثيف حملات التفتيش في مختلف القطاعات، وإطلاق يد القضاء وإشراكه في مكافحة الفساد.
  • مراقبة العلاقة بين المجال العام والخصوصي من قبل أجهزة التفتيش.

وأصبح لزاما على المواطنين أن يشجوا ويتضامنوا مع كل جهد يحاول تعرية الفساد المالي والسياسي والاخلاقي في بلدنا، على أن يكون هذا الجهد من أجل الحقيقة فقط، ومن أجل حماية المال والمصلحة العامة للمجتمع، وأن ينبني هذا الجهد على الأدلة والبراهين حتى لا تكون التهم جزافا، وأن نبتعد عن منطق التسييس وألا نسمح بركوب المتسيين لموجة التنديد بالفساد، بل نحثوا في وجوههم التراب، لابد من الضغط على الإعلام حتى يكون إعلاما وطنيا ملتزما، وعلى البرلمان حتى يقوم بدوره في المراقبة والمساءلة والتشريع، وعلى الحكومة حتى تعمل واجبها في المواجهة والحد من الفساد.

يظل من واجب القضاء والمحامين والحقوقيين، توسيع مداركهم النظرية وأن يغتنموا كل الفرص الممكنة لمكافحة الفساد سواء على مستوى النص أو على مستوى الممارسة، وخاصة محاولة بناء اجتهادات فقهية (قانونية) تتيح لمن يمتلك أدلة  دامغة التقدم للقضاء حماية لمصلحته الشخصية وللمصلحة العامة، وهذه إحدى القواعد الهامة والأصلية للقانون “المصلحة العامة”، وعلينا بالمقارنة وبأعمال النظر في المرجعيات والنصوص، أن ندرك أن الشريعة الإسلامية والتي تعتبر مصدرا رئيسا للتشريع وسقفا للقوانين في موريتانيا (نصوصا وتأويلا) تنيط مسؤولية مواجهة الفساد بالحاكم (الرئيس الحكومة …) لكن بالمحكومين أيضا (المواطنين)، فمواجهة الفساد والإفساد تعتبر مسؤولية عامة سياسية واجتماعية، يستشف ذلك من القواعد الكلية والتطبيقات المختلفة للنص الشرعي، إذ تشدد الشريعة النكير على الفساد والتواطؤ عليه، من هنا مشروعية فضح الفساد ورفعه للحاكم (الجهات الرسمية “الولائية” أو من يمثلها)، ولا مشاحة أن الحقوق لا تفتك باليد، إذ إن التحفظ الشرعي يتعلق بتوقيع الجزاء فهو منوط بالسلطة مطلقا لا بالمواطن.

كما أن الوثيقة الدستورية التى تجعل من الشريعة مصدرا، ومن الشعب سيدا (السيادة)، تتساوق مع منطق حماية الناس لمصالحها بواسطة القضاء وأن يتم ذلك بحرية التقاضي.

ولا مراء في أن المئات من المواثيق والاتفاقيات والبروتكولات والمؤسسات على مستوى القانون الدولي، تعاضد وتساند أصولنا ومرجعياتنا القانونية الوطنية بهذا الخصوص.

والأدلة والبراهين في هذا الموضوع تصعب على الحصر، سواء بذكر الآيات والآثار، أو بذكر النصوص والمواد الدستورية، أو بذكر مسميات وتفاصيل مفردات الشرعة الدولية في هذا الإطار، سواء على المستوى الأممي أو الإفريقي أو العربي، وخلاصة النظر أن المسألة فيها سعة ونظر ومرونة وفرصة لم يلمحها كثير من القانونيين حول مسؤولية وحق المواطن في حماية حقوقه ومصالحه، على المستويين الفردي والجماعي باللجوء إلى القانون وتحريك المسؤولية ضد المفسدين.

السعد بن عبد الله بن بيه

كاتب ودبلوماسي موريتاني

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق