ملامح غير واضحة لسياسات ترامب: غموض وارتباك وإثارة معاً

يعود الفضل لباراك أوباما الذي عول عليه العرب بأنه نصير لهم خصوصا بعد خطابه الذي ألقاه في القاهرة، لكن تقاربه مع إيران قلب الطاولة على العرب، وخصوصا على دول الخليج التي نحت ولأول مرة نحو الاعتماد على قدراتها الذاتية، وقادت لأول مرة في تاريخ العرب عاصفة الحزم بقيادة السعودية وشكلت تحالف إسلامي عسكري أقلق الغرب بأن العرب لديهم قوى كامنة إذا ما تم استغلالها يمكن أن يكون لهم موقع مهم على الخارطة العالمية وسيهدد أمن إسرائيل رغم أن الصراع ظاهري بين السعودية وإيران لكنهم يبنون قوتهم في مقابل قوة إسرائيل.

كما عانى أوباما من إرث بوش الابن الذي تسبب في الأزمة المالية في 2008 نتيجة مغامراته الخارجية في أفغانستان والعراق جعل أوباما ينكفأ نحو الداخل وحقق لأمريكا في الداخل نمو اقتصادي وخفض نسب البطالة، لكن أعاق هيبة أمريكا نتيجة سياساته في الخارج كان من أهمها صعود دول الخليج بقيادة السعودية التي تضطر أن تضعها إدارة ترامب ضمن استراتيجيتها الجديدة وإصلاح إرث أوباما.

لذلك العرب لا يعولون كثيرا على ترامب وخصوصا دول الخليج بقيادة السعودية التي تقود تطوير منظومة العمل العربي المشترك رغم الصعوبات التي تعترضها خصوصا بين اكبر دولتين في المنطقة هما السعودية ومصر، لكنها حققت مراحل متقدمة، خصوصا وأن ترامب لا يزال متذبذبا، فسياسته الخارجية غير واضحة وكذلك سياسته الداخلية مشوشة ويعتريها غموض، وأكبر مثال على ذلك دخوله في صراع داخلي مع حزبه ومن عتاة الجمهوريين في مجلسي النواب والكونغرس أمثال السيناتور جون ماكين ونظيره ليندسي غراهام ومع الاستخبارات والإعلام قد يكون ضغط على ترامب من أجل التزام ترامب بسياسات الولايات المتحدة التي يرسمها له الكونغرس ومجلس النواب، وعليه أن ينفذ تلك السياسات ويعتبر ما يدور في واشنطن اغتيال معنوي لترامب، خصوصا وأنه أتى من أركان الدولة الأميركية وأن فوزه كان مرفوضا ليس فقط من قبل الديمقراطيين بل وأيضا من الجمهوريين وأكثر من نصف المجتمع الأمريكي اختاروا كلينتون ولولا المجمع الانتخابي الذي أعلن فوز ترامب لكانت كلينتون هي الفائزة،  ويعتبر البعض أن المجمع الانتخابي لا يمت بصلة للديمقراطية، لكن استراتيجية من أجل ابتزاز الرئيس خصوصا وأن تقرير الاستخبارات لم يظهر زمن الانتخابات الذي كان سيصب في صالح كلينتون رغم ان رئيس الاستخبارات ينكر أن التقرير صدر من الاستخبارات الأميركية.

رغم أن ترامب اختار فريقا سياسيا تتماشى آراؤهم مع الاستراتيجية الجديدة التي سيتبعها ترامب في المرحلة القادمة لتصحيح مسار الولايات المتحدة واستعادة هيبتها، على رأسهم نائب الرئيس مايك بينس الذي يدعو إلى ضرب النظام السوري ويدعو إلى وجود قوات أمريكية في العراق ويعارض الاتفاق النووي، ومايكل فلين مستشار الأمن القومي أيضا يعارض الاتفاق النووي ويؤكد أنه لو لم يتم غزو العراق لما ظهر داعش، وجيمس ماتيس وزير الدفاع يتهم إيران بمحاولة اغتيال عادل الجبير في واشنطن ودعم نظام الأسد ويرى أن الغضب العربي الإسلامي من الدعم الأمريكي لإسرائيل يضر بالمصالح الأمريكية، ومايك بومبيو رئيس الاستخبارات يدعو أيضا إلى إلغاء الاتفاق النووي ويعتبرها راعية للإرهاب، ريكس تيلير وزير الخارجية له علاقة قوية مع دول الخليج وينوي بعد ترشيحه التركيز على التحالفات مع التركيز على المصالح المشتركة، وريك بيري وزير الطاقة يرى أن الفشل في إدارة أزمة سوريا والعراق يعود إلى إدارة أوباما.

أيا يكن هذا العرض وهذه الآراء التي يمكن أن تتغير وتبقى أراء شخصية، لكن المحصلة أن استراتيجية الولايات المتحدة الخارجية قد تغيرت يمكن أن استخلصها في ثلاثة نقاط إيمان ترامب العميق في التعاون مع روسيا، ومحاربة الإسلام الراديكالي يتوافق مع بوش الابن، وتجفيف نفوذ إيران في المنطقة.

رغم ذلك تبقى سياسة غير واضحة وغامضة، وأميركا دولة عظمى ومشكلة عظمى، يشكو العالم من حضورها الطاغي، ويشكو من الفراغ الذي ادعى أوباما أنه انسحب تجاه الشرق.

رغم ذلك استراتيجية ترامب هي عكس استراتيجية أوباما الذي حقق تقاربا مع إيران لتفكيك التحالف بين إيران وروسيا، ونجح أوباما في التخلص من الأسلحة الكيماوية في سوريا بتعاون إيراني لمصلحة إسرائيل، لكن بعدما كانت دمشق مهددة بالسقوط في يد المعارضة أي أن إيران وحزب الله تلقيا هزيمة في سوريا غضت أمريكا الطرف عن استنجاد بشار الأسد ببوتين الذي قلب الطاولة الإستراتيجية وأنقذ إيران وحزب الله ووجد فرصته في عودة العالم نحو مرحلة الثنائية القطبية، لكن لقاءات كيري لافروف لم ينجح لافروف في الحصول على موافقة أمريكا في دخول العلام مرحلة الثنائية.

 وروسيا وإيران دولتان متنافستان يتنافس العالم حولهما إذ يمتلكان الغاز، وأرادت أمريكا بتقاربها مع إيران لتوريد الغاز الإيراني عبر سوريا وتركيا إلى أوربا لمحاصرة روسيا، لكن هذه الإستراتيجية فشلت بعد التعاون التركي مع روسيا، ونجحت روسيا في إقامة علاقة مع تركيا من أجل تصدير غازها عبر تركيا إلى أوربا، ونجحت روسيا كذلك في تنسيق سياساتها مع السعودية حول تخفيض الإنتاج لرفع أسعار النفط التي بعدما حيدت النفط الصخري المرتفع التكلفة.

لكن إستراتيجية ترامب ستكون مواجهة إيران التي هددت المصالح الأمريكية في العراق وسوريا والشرق الأوسط، وستتعاون مع روسيا من أجل تخفيض السلاح النووي حيث تملك روسيا 1769 رأسا نوويا، بينما تملك أمريكا 1367 رأسا نوويا خصوصا وأن أمريكا تعول على تقدمها التقني والتكنولوجي في تطوير أسلحة تقليدية لا تمتلكه روسيا خصوصا بعدما فشلت روسيا في تجربة استخدام سلاحها التقليدي في سوريا.

وما تهديد ترامب أوربا بأن الناتو عفا عليه الزمن سوى مغازلة لروسيا لإنجاح إستراتيجيته في تخفيض السلاح النووي الذي توقف بسبب محاصرة إدارة أوباما روسيا في أوربا الشرقية بعد احتلال بوتين شبه جزيرة القرم بعد تشجيع أوباما أوربا على أن تتمدد تجاه الشرق، وهو ما أثار بوتين الحالم بعودة الثنائية القطبية، لكن تخفيض السلاح النووي سينهي هذا الحلم، فهل يقبل بوتين بتخفيض السلاح النووي، وهي الورقة الوحيدة التي يمتلكها بوتين، وتجريده منها يمكن أن ينقض الغرب عليه بسبب ضعف اقتصاد روسيا، بل ويعاني ركودا اقتصاديا، بينما هو فقط رأس حربة للصين التي هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، ولكن إذا حدث هناك توافق بين الولايات المتحدة والصين يمكن أن تتخلى الصين عن روسيا.

 وعلاقات روسيا مع تركيا والسعودية ورعايتها اتفاق أستانة هو نتيجة الغياب الأمريكي بسبب تقاربه مع إيران لكن وقف التقارب مع إيران يمكن أن يقلب المعادلة وتتغير الإستراتيجية الأمريكية.

نظرة ترامب كانت قاصرة عندما دعا مصر وروسيا للاشتراك في محاربة الإرهاب، فيما مصر تعاني أزمة في محاربة الإرهاب ولولا السعودية ودولة الإمارات لما خرجت مصر من أزمتها باعتبار أن مصر عمق استراتيجي لدول الخليج وانهيارها انهيار لدول الخليج، خصوصا وأن العراق وسوريا يعانيان انهيار استراتيجي يهدد أمن دول الخليج، وهي تركز على استعادة الأمن في اليمن بعد استعادته في البحرين رغم ذلك لا يزال الوضع حساس ومتوتر في المنطقة الشرقية من السعودية والبحرين لكن هناك سيطرة تامة عليهما.

أعتقد أن الإدارة الجديدة لن تتخلى عن منطقة الشرق الأوسط التي تمتلك مقومات إستراتيجية وخزان نفطي، لذلك لن تقبل بوجود إيراني لا في العراق ولا في سوريا وستعود القوات الأمريكية إلى العراق وحتى في سوريا والخليج وستردع إيران التي أهانت أوباما في نهاية ولايته بالتحرش بالسفن الأمريكية، وكأن إيران تنتقم من أوباما الذي أهان إسرائيل بعدما سمح بتمرير مشروع يدين الاستيطان في فلسطين لأول مرة في ولايته.

لكن سيصطدم ترامب بالاستعداد العربي والأوربي لدعم حل الدولتين الكبير وغير مسبوق لأن الكل يشعر أن حل النزاع تأخر لأسباب غير وجيهة خصوصا بعد أزمة اللاجئين التي ضربت أوربا وساهمت في توسيع رقعة الإرهاب، أي أن العالم يريد تحريك ملف الشرق الأوسط خصوصا بعدما نجح في تعيين عون رئيسا للبنان بعد عامين من فراغ منصب الرئيس، وبدأ يضغط على إيران ويتهمها بأنها تدعم الإرهاب في الشرق الأوسط وهي تشعر أنها تريد تعزيز مكاسبها وهو ما جعلها تصطدم بروسيا الحليف الذي نجح في هزيمة المعارضة في حلب، لذلك حينما يطلب ترامب من باريس بأن تطوي ملف المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط بشكل جذري أصرت باريس على السير فيه الذي حضره 71 دولة لتحريك هذا الملف وطلب ترامب من بريطانيا أن تستخدم الفيتو ضد هذا الملف في مجلس الأمن.

من المهم ألا يثير ترامب العرب نتيجة جهله السياسي ومزاجيته العالية والمفاجئة فلقد أدرك الرؤساء الأمريكيين السابقين أن العرب شعب مسالم، لكن ترامب يتبع إستراتيجية بوش الابن الذي نفذ أجندة معهد راند وهو معهد صهيويني بابتداع الحرب على الإرهاب في مضمونها الحرب على الإسلام وقد يتبعه ترامب، فرانكلين روزفلت صنف العرب بدول نامية بتعبير اقتصادي مهذب بدلا من تسميتهم بدول متخلفة، وأنقذ داويت أيزنهاور مصر من غزو ثلاثي يتكون من إسرائيل وبريطانيا وفرنسا وأمرهم بالانسحاب من مصر وقناة السويس.

 وإذا ما أراد ترامب أن يحارب الإرهاب حقيقة فعليه التحالف مع السعودية التي شكلت تحالف عسكري إسلامي لمحاربة الإرهاب أيا كان شكله وهي مرجع مهم في محاربة الإرهاب ولم تسمح للإرهاب أن يستهدف أمنها الوطني والاجتماعي، ويظل الموقع الجغرافي للشرق الأوسط أمنا قوميا للولايات المتحدة باعتباره مفترق طرق قارية تستلزم مجموعة من المصالح التي يجب أن تصيغ الولايات المتحدة رؤيتها المستقبلية لمنطقة مليئة بالألغام التي يمكن أن تنفجر في وجه أي سياسة خاطئة يمكن أن يتبعها ترامب.

مزاجية ترامب لم تكن فقط مع العرب بل كذلك مع أوربا حيث اتهم ميركل بأنها سمحت لمليون مهاجر يدخلوا أراضيها وهو يغازل اليمنيين في أوربا وخاصة في ألمانيا لإسقاط ميركل في الرئاسة القادمة بدلا من شكرها على التعامل الإنساني في التعامل مع اللاجئين الفارين من الحروب في سوريا، ما جعل قادة أوربا ينتفضون ضد تصريحات ترامب ويدعون إلى وحدة الصف، بل صرحت ميركل بان انتقاد ترامب اللاذع ألا يثبط من عزيمتنا، بل مؤتمر باريس كذلك رسالة موجهة إلى ترامب، بل نجد حتى إدارة أوباما تحاول أن تضغط على ترامب من خلال تمديد العقوبات ضد روسيا من أجل أن يعقد مهمة ترامب في التطبيع معها.

يواجه كذلك ترامب أزمة مع الملف الكوبي والمكسيكي ومثلث أميركا الوسطى بالإضافة إلى فنزويلا كقضايا رئيسية، وهي الأقرب بحكم المكانة الجغرافية، فملف بناء الجدار الفاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك الذي يطالب ترامب بدفع تكلفته المكسيك، بينما الرئيس المكسيكي يرفض دفع التكلفة، ويريد ترامب بدفع أحزاب يسارية في المكسيك وأوربا بالوصول للحكم لمواجهة موجة الهجرة التي ضربت العالم.

وهو يرى أنها كانت السبب التي ستعيق توفير الوظائف في المستقبل، حيث قال سأكون أكبر منتج للوظائف في تاريخ الولايات المتحدة وسيتخذ تدابير عقابية ضد الصين والمكسيك تهدد حجم التجارة العالمية، ويخطط لخفض الضرائب تقدر ب6.2 تريليون دولار تضيف 33 في المائة إلى الديون الأمريكية.

 ويستعد الجمهوريون إلى إلغاء برنامج الرعاية الصحية ( أوباما كير) وهو يلغي الغرامات التي تفرض على الأمريكيين الذين يرفضون تأمين صحي إجباري قانونيا، وأعلن نائب الرئيس مايك بنس إلغاء الحرب على الفحم ومنح امتيازات استخراج الفحم وتحفيز إنتاج النفط، وموافقة ترامب على مد أنبوب كيستون بين كندا والولايات المتحدة الذي رفضه أوباما، وسيلغي ترامب على الفور دفع المليارات لبرامج الأمم المتحدة حول التغير المناخي وتحويلها إلى مشاريع البنى التحتية، وطرد نحو مليون مهاجر غير شرعي، بينما أوباما لم يتمكن من تحقيق هذا التوجه لكنه اتجه نحو تصحيح أوضاع 750 مهاجر غير شرعي.

 ويمكن أن يعلن ترامب انسحاب أمريكا من معاهدات تجارية خصوصا من الشراكة عبر المحيط الهادي التي استمرت 11 عاما مع 11 دولة، لكن الكونغرس لم يصادق عليها حتى الآن لكي يحقق أمريكا أولا وقد يتحول إلى أمريكا وحدها نتيجة سياسات ترامب الخاطئة.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق