مفتاح لفهم الأحداث

آخر حدث دولي يفصح عن اختلال خطير في عالم اليوم، هو ما جرى من كشف لفساد في الاتحاد الدولي لكرة القدم «الفيفا»، واتهام عدد من مسؤولي هذا الاتحاد الدولي العريق بتلقي رشاوى بخصوص استضافة بطولة كأس العالم، وتمرير صفقات تتعلق بالتسويق وحقوق البث التلفزيوني للمباريات.

الحادثة تشي بفساد دولي عابر للقارات. إنه فساد قيمي بالأساس، تشترك فيه قوى تتعامل على الصعيد السياسي بذات القدر من الفساد وشراء الذمم لقلب الحقائق والعبث باستقرار مجتمعات وشعوب ودول.

ولطالما ارتبطت الرياضة وأحداثها الدولية الشهيرة بالسياسة والاقتصاد، وبخاصة بعد تعاظم الأنشطة الرياضية العالمية عاماً بعد آخر. وسننتظر ما ستكشف عنه التحقيقات مع المسؤولين الستة في «الفيفا»، المتهمين في قضايا فساد، بعد اعتقالهم مؤخراً في سويسرا، غير أن الانتظار سيطول أكثر وقد لا يطلع الرأي العام قريباً على ما وراء فساد من نوع آخر يحدث على المستويات السياسية، عبر العبث الخفي الذي أسس في المشهد الدولي لكوارث قديمة وأخرى جديدة، كالذي يحدث في العراق وسوريا وليبيا، وإذا كانت «الفيفا» الرياضة ستنضبط بعد زلزال الفساد الأخير، فإن الفساد في «فيفا» السياسة الدولية سيظل خفياً ومعلوماً في الآن ذاته، أي معلوماً بما تترتب عليه من نتائج كارثية، ومستتراً خلف لعبة السياسة العالمية التي تجيد توظيف الصراعات دون أي شعور بتأنيب الضمير، حتى وإن أسفرت الصراعات عن ضياع مستقبل أجيال متعاقبة!

وعادة ما يغرق محللو وسائل الإعلام في التفاصيل الصغيرة أو الأعراض الجانبية المترتبة على ما يجري في المناطق الساخنة، لكن بالنسبة لعقلاء المتابعين أصبح هذا النمط من الأداء الإعلامي يثير السخرية، وبخاصة عندما يعتبر موضوعات النقاش مجالا لصراع الديكة لا أكثر، بينما تضيع الحقيقة وينعدم البحث الجاد. لذلك فما أشد الحاجة حالياً للتركيز على عوامل الصراعات وأسباب التطرف والانهيارات الاجتماعية والانقسامات الطائفية، وكيف أن فساد الضمير السياسي العالمي له دور خطير في صناعة كثير مما يجري، وهو أمر يتجاوز الفساد في إدارة الرياضة العالمية.

ولعل التأمل في جوهر الأحداث سيقودنا إلى ترشيد الخطاب الإعلامي وتنقيته من الشوائب، لإيجاد فهم أوضح لكل ما يدور في عالمنا، ولتحصين مجتمعاتنا من الوقوع في أخطاء ومزالق الآخرين، والتنبه لمواجهة العوامل المولدة للصراعات بعد أن أصبحت الشواهد والأمثلة حية وماثلة.

إن الاهتمام بالمسائل الجوهرية يقود إلى كشف العوامل الكامنة وراء ما يحدث من كوارث سياسية في المنطقة العربية، بما فيها انتشار جماعات التطرف والعنف الطائفي، وضعف كيان الدولة في الأقطار التي تشهد اضطرابات أمنية وحروب وانقسامات. وبالنسبة لنا في المنطقة العربية لن يكون حدث الكشف عن فساد «الفيفا» أخطر من ثبوت فساد السياسة الدولية ودورها في تدمير السلم الأهلي لعدد من مجتمعات المنطقة، حيث تنتشر الأذرع الإرهابية في العراق وسوريا. هذا الإرهاب المصنوع بكل أطيافه ومجموعاته يرتبط بصناعة الجحيم وتدمير مكتسبات الإنسان على الصعيد السياسي والاقتصادي.

وأعتقد أن كلمة السر في كل ما حدث ويحدث هو التجرؤ والتواطؤ على هدم الدول وهيبتها في الوعي العام، وبمجرد حدوث التفكيك الأولي على يد الخارج، كما جرى في العراق، انتقل منهج الهدم إلى أيدي الجماعات الطائفية في الداخل، وأخطرها تلك التي ترتبط بالولاء لأيديولوجيا انقسامية تقوم على نفي مبدأ المواطنة الفردية، واستبدال مفاهيم المواطنة والانتماء في الوجدان الشعبي بأخرى تتصل بالولاء للمذهب والطائفة، وهذا عنوان الكارثة الذي يفسر ما يجري في أكثر من بلد.

وسيكون على النخب العربية المثقفة دراسة أسباب القابلية أو الجاهزية العمياء لدى البعض للانسياق وراء المشاريع التدميرية، وعليها ألا تنشغل كثيراً بأصداء التحقيق الجاري بشأن فساد «الفيفا»، لأن الحاجة ملحة أكثر للكشف عن نوع آخر من الفساد الذي يشجع الإرهاب والفوضى في منطقتنا.

 نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

 بقلم: د.سالم حميد

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق