مراجعات في أمن الخليج (1)

مراجعة الإستراتيجية الأمريكية

لا يحتاج المرء إلى بذل جهد كبير في توضيح الدور والموقع الهام للولايات المتحدة الأمريكية في الأزمات الدولية. لكن لابد من التذكير بأن الولايات المتحدة بقيت حتى مطلع القرن العشرين منكفئة على نفسها غير مبالية بالتفاعلات الدولية الزاخمة في العالم القديم (آسيا، أوروبا، أفريقيا)، عندما كان ذلك متناغماً مع مفهومها لأمنها القومي الذي يعاد إحياؤه اليوم بتوصيات من أهم الباحثين والسياسيين الامريكيين بصيغة جديدة.

لقد كانت الحرب الأمريكية-الأسبانية عام 1889 أول حرب دولية تخوضها أمريكا وتحقق النصر فيها على ما يذكر (زبينغييف بريجنسكي) في كتابه “رقعة الشطرنج العظمى”، حيث كانت الأهداف الاستراتيجية مقتصرة فقط على تطوير المبادئ السيادية على الملاحة في المحيطين (الأطلسي والهادي).

وحتى عام 1939 عشية الحرب العالمية الثانية – بلغ تعداد جيش الولايات المتحدة الأمريكية (185000) نسمة ولم تتعدى ميزانيته السنوية (500) مليون دولار، بينما بعد مرور نصف قرن أصبحت القوات العسكرية النظامية الأمريكية براً وبحراً وجوّاً هائلة العدد وتعدت ميزانية وزارة الدفاع (300) مليار دولار، كما عقدت معاهدات تحالف مع خمسين دولة وأرسلت أكثر من مليون جندي وطيار وبحار ليعسكروا في أكثر من (100) دولة، وبلغت كفاءتها الهجومية حداً يمكنها من تدمير العالم (1)، مقتحمة بذلك صدارة الفاعلين السياسيين على المسرح العالمي.

كما أن النمو الصناعي السريع للولايات المتحدة – الذي طرح عليها تحدياً جيوبولتيكياً مدفوعاً بدينامية اقتصادية عالية الوتيرة، جعل الولايات المتحدة تنظر في بناء استراتيجية تلبي حاجاتها المتزايدة على مختلف الأصعدة، ترتبها وفق أولوياتها وعلى رأسها تحقيق ما يسمى بأمن الطاقة. الذي يندرج بشكل أعم تحت مفهومالجيوستراتيجيا وما يرافقه من قراءة متأنية للجيوبولتيك الأمريكي، محددة بذلك المجال الحيوي الجغرافي المنوط بمصالحها الاستراتيجية على اعتبار أن النفط كان وما يزال (على الأقل في المدى المنظور) أهم مصدر من مصادر الطاقة، وارتباطه الوثيق بالخارطة والجغرافية السياسية العالمية.

 

مؤشرات الإستراتيجية الأمريكية:

 

1- الحاجة الأمريكية للطاقة:

تظهر الحاجة عادةً عندما يكون هناك قصور في الوصول إلى درجة الإشباع التي تتطلبها, حيث أن حقيقة العرض لا تلبي تزايد الطلب, وفي التفكير الاستراتيجي يكون النظر إلى العرض من وجهة نظر أكثر شمولاً من العرض الحالي إلى توقعات العرض المستقبلي أو نمو الطلب المتوقع، وعليه يٌصبح بمقدورنا فهم كلام (سبنسر أبرهام) (2) وزير الطاقة الأمريكي السابق الذي قال عام 2000: “تشكل واردات النفط جزءاً هاماً من الطاقة المستوردة، كما يتوقع أن تكون منظمة “الأوبك” المَصدر الرئيسي للإمدادات الإضافية لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة. ومن المتوقع أن يتضاعف إنتاج الأوبك بحلول سنة 2025. كما أن نمو الطلب المتوقع يشير إلى سعر 27 دولاراً للبرميل الواحد، عام 2002. فإذا افترضنا – والكلام لسبنسر- زيادة في الاستهلاك الداخلي قدره حوالي 3% سنوياً خلال الفترة نفسها، يمكن أن ينمو مجموع الطلب الأمريكي على النفط من حوالي 20 مليون إلى 28 مليون برميل يومياً”.

يوحي كلام سبنسر بضرورة أن تقوم الولايات المتحدة بتبني استراتيجية بعيدة المدى فيما يتعلق بأمن الطاقة والحفاظ على واردات النفط، وإذا علمنا بأن الولايات المتحدة قد اعتبرت أن هذه المسألة تقف على رأس أولويات الأمن القومي الأمريكي فقد احتلت المنطقة العربية وخصوصاً منطقة الخليج العربي أهمية قصوى نظراً لامتلاكها أكبر مخزون نفطي في العالم على مدى القرن الماضي وتحديداً منذ السبعينات وتغيير نظام الحكم في إيران واندلاع الحرب العراقية الإيرانية (1980) وحرب تشرين /أكتوبر عام (1973) والتي لم تكن اخرها حرب الخليج الثانية عام (1990).

2- تفاقم الحاجة نحو الأزمة:

يتضح تماماً أن التقديرات والدراسات المستقبلية للحاجة هي التي يُقدّر بها حجم الأزمة الحالية أو المستقبلية الناتجة عنها، حيث يضيف وزير الطاقة الأمريكي: وكنتيجة لذلك قد تقفز الواردات الصافية للولايات المتحدة من النفط من 35% إلى 70% ، حيث يشكل النفط الوارد من الخليج العربي نسبة رئيسية من هذا الارتفاع، وإن الأنظمة والاعتبارات الاقتصادية التي تُقيّد قدرة تكرير المنتجات النفطية ستؤدي إلى أن تشكل المنتجات المكررة، كما هو متوقع، حصة أكبر من تلك الواردات لتبلغ ما يُقدر بـ 20% من مجموع كميات النفط المستوردة في 2025.

3- الإرادة والبحث عن حل الأزمة:

تتولد الإرادة الواعية لتجاوز الأزمات بمجرد الإحساس بتنامي الحاجات وتفاقمها في المستقبل، ومن هنا تبدأ الأهداف تأخذ صيغتها الجنينية لمواجهة التحديات، وفي حالتنا هذه فإن الإرادة الأمريكية كما عبر عنها (كولن باول) (3) وزير الخارجية الأمريكي السابق بأنها تهدف إلى جعل مستقبل أمريكا أكثر أماناً من ناحية الطاقة.

4- القدرة والموارد الأمريكية كبيرة:

تبقى الحاجة والأزمة المتولدة عنها والإرادة المنطوية على الهدف دون معنى في رسم الاستراتيجية ما لم تكن مبنية على اعتبارات القدرة والموارد المجيَّشة لها وفعاليتها لتحديد الأدوات المناسبة في تحقيق الاستراتيجية. ولعل الرصد الذاتي لهذه القدرة تبدأ من حقائق الجغرافيا السياسية للوحدة السياسية، حيث أن الموارد الذاتية- والموقع- والمساحة- والحدود- والثروات الطبيعية- والبشرية- والنشاط الصناعي- والتجاري- وثقافة المجتمع كلها مواضيع هامة تدرسها الجغرافيا السياسية التي في ضوئها توضع حدود القدرة. ينضاف إليها القوة العسكرية الذاتية، وطبيعة التحالفات، ومن ثم تتبلور الرؤية المستقبلية لتحديد المجال الحيوي للوحدة السياسية وفق المصالح، لندخل بذلك تحت علم الجيوبولتيك الذي يرى الدولة كما يجب أن تكون.

ولعل الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك من عوامل القوة الاقتصادية والمالية ما يتفوق على سابقاتها من الإمبراطوريات طوال التاريخ، وهي توظف لخدمة أهدافها أقوى وأكبر منجزات التقدم الإنساني في كافة المجالات. كما أنها عاشت حياتها بعيدة عن أي تهديد مباشر لأرضها وسكانها، وراكمت من أسباب القدرة والثروة مدداً وفيراً، وبالتالي قدراً ضخماً من المناعة والثقة بالنفس يزيد أحياناً عن الحد. وهذه الإمبراطورية تملك سطوة في السلاح لم تتوافر لغيرها من الإمبراطورات مع وجود توافق حرج بين التكنولوجيا العسكرية والتكنولوجيا المدنية. وقد استطاعت إلى جانب سطوة السلاح أن تعرض نوعاً من جاذبية النموذج يمهد لتوسعها وانتشارها، بغواية في أساليب الحياة تعززه وسائط القوة. وتمكنت من أسلوب جديد في السيطرة، يقوم على نظام شديد الجرأة والجسارة إلى درجة الاقتحام والاختراق لخصوصيات الدول والشعوب، والقدرة على خطف وعي الآخرين وارتهانه ـ أسير إعلام مصور وملون ـ مكتوب وناطق ـ يعطي لنفسه احتكار وضع جدول اهتمامات الرأي العالمي وسحب الآخرين وراءه أو جرهم مهرولين (4).

5- الهدف وتكثُّف الإستراتيجية:

تتحدد الأطر العامة للأهداف الاستراتيجية عادةً في ضوء الإرادة الراغبة في تجاوز الحاجات والأزمات، والتي تبدأ عادةً بصيغ مطاطة على نحو- الإدارة الأمريكية تهدف إلى جعل مستقبل الولايات المتحدة أكثر أمناً من ناحية الطاقة. إلا أن صياغة الأهداف الاستراتيجية تتكثف عادة لتأخذ صيغها من حقائق الجغرافيا. حيث يقول آلان لارسون(5)، وكيل وزارة الخارجية للشؤون الاقتصادية الزراعية والأعمال بأنه ثمة حقائق عديدة ترسم طريقة تفكيرنا بالنسبة لأمن الطاقة ولكيفية بناء إمكانية الاعتماد على إمداداتنا من الطاقة، ويحددها بثلاث نقاط:

– إن ثلثي الاحتياط العالمي المعروف متواجد في الشرق الأوسط.

– تؤمن الواردات تقريباً نصف كميات النفط و(15 %) من الغاز المستهلك في الولايات المتحدة بل وتؤمن حصة أكبر من حاجات بعض أهم حلفاء الولايات المتحدة وشركائها الاقتصاديين.

– إن الصدمات في إمدادات النفط في أي منطقة من العالم سيكون لها تأثير على اقتصاد الولايات المتحدة من خلال العمليات الفورية في أسواق النفط العالمية.

وهنا يمكننا أن نشير إلى ملاحظة مهمة من وحي النقاط الثلاثة لـ آلان لارسون: إن هدف أمن الطاقة بالنسبة للولايات المتحدة ينظر إلى الشرق الأوسط كمنطقة ذات أهمية استراتيجية كبرى يتواجد فيها ثلثي الاحتياطي العالمي أي حوالي (70%)، وهي كما يقول لارسون نفسه أنها منطقة تقع في بلدان ذات أنظمة سياسية تشكل تحديات أو في مناطق جغرافية عسيرة (6)، وقد صح تنبؤه مع تبدل النظم السياسية في المنطقة وتغير المزاج الشعبي لدول هذه المنطقة.

وعليه فإننا نستطيع القول بأن أمن الطاقة بالنسبة للولايات المتحدة كان مرتبط بالأوضاع الجيوسياسية لتلك المنطقة إلى حد كبير، ولذلك بنيت الاستراتيجية الأمريكية على التواجد في المنطقة والقدرة على التدخل السريع، لضمان استمرار تدفق البترول وعدم الوقوع في الرهانات التي سادت قبل حرب تشرين عام 1973 والتي أعطت الانطباع بأن الأمريكيون بحاجة للعرب وربما تفوق حاجة العرب إليهم (7).

6- المخططات الأمريكية وأدواتها:

تندرج الأدوات عادةً تحت بنود الخطط المرسومة في تحقيق الأهداف الاستراتيجية، فالخطة الاستراتيجية التي تأخذ شكل سيناريوهات متعددة بدءاً من السيناريوهات الدبلوماسية، مروراً بالإجراءات الاقتصادية العقابية، وانتهاءً بالسيناريوهات العسكرية، تقودنا إلى الطرق المتبعة في تحقيق الاستراتيجية ومن بينها التحالف مع القوى الإقليمية والدولية.

لقد اعتمدت الولايات المتحدة منذ أوائل السبعينات سياسة الاعتماد على القوى الإقليمية المحلية للحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، وبلورت ما عرف بمبدأ نيكسون الذي يقوم على استراتيجية “الدعامتين” المتمثلة في الاعتماد على إيران والعربية السعودية لضمان تلك الأهداف. غير أن الاستراتيجية الأمريكية ما لبثت أن تبدلت مع قيام الثورة الإيرانية في عام (1979)، كما ستتبدل اليوم نتيجة ارتفاع تكاليف هذه الاستراتيجية على الولايات المتحدة الأمريكية كما يراها الكثير من مراكز الدراسات الأمريكية.

نذكر مبدأ كارتر الذي ينص على التدخل الأمريكي المباشر وتسلم مسؤولية الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة وتدفق النفط منها من خلال التواجد العسكري الأمريكي المباشر في المنطقة وفقاً للحاجة. وفي سياق تلك الاستراتيجية الجديدة، تم تشكيل ما عرف باسم قوات التدخل السريع.

لقد أدرجت الولايات المتحدة معظم دول الخليج في ارتباطات معاهدات سياسية وعسكرية، ليست بالضرورة تصب كلها في صالح دول الخليج، لذا كان ولابد أن يظهر هذا اختلاف في المصالح عند مفاصل حساسة تمس الأمن القومي لكليهما ليكون عندها التباين ظاهراً في نقاط يصعب التراجع عنها. فقد يصدر عن إحداهما خطوات قد تتعارض مع رغبات الحليف الآخر، وهذا ما نلمحه بشكل واضح في التموضعات الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية في إدارة الرئيس باراك اوباما.

إن الولايات المتحدة الأمريكية وبالتزامن مع تطور تقنيات صناعة النفط والغاز الصخري المعروف بـ (الشايل) الذي رفع من مكانتها بين الدول المنتجة للطاقة تحاول تخفيف أعباء انفاقها العسكري الذي يستهلك من خزينتها ومن رجالها وعتادها، فضلاً عن الكلفة السياسية التي تخضع لاعتبارات انتخابية داخلية، مع ميل الرأي العام إلى وقف التدخل الأمريكي ما وراء البحار.

إن التراجع الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي سيترك تداعيات على الإقليم وصعود دور لاعبين إقليميين على رأسهم إيران التي سينفتح المجال لها أكثر في تمددها نحو الخليج والبحر المتوسط اعتماداً على الفراغ السياسي الجديد، والتفاهمات التي يمكن أن تجريها مع الولايات المتحدة الأمريكية والمجموعة الدولية وهذا ما سناول رصده في الجزء الثاني من هذه الورقة، عدا عن صعود أدوار للاعبين جدد كروسيا والصين وإسرائيل وتركيا.

مازن محمود علي

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

 

المراجع:

(1) ستيفن أمبروز: “الارتقاء نحو العالمية”, ترجمة: أ. د. ودودة عبد الرحمن بدران, المكتبة الأكاديمية, ط1، القاهرة, 1994, ص9.

(2) سبنسر أبرهام, وزير الطاقة الأمريكي, “التحديات التي تواجه أمن الطاقة” , موقع وزارة الخارجية الأمريكية: USINFO.STATE.GOV

(3) كولن باول, وزير الخارجية الأمريكي, “التحديات التي تواجه أمن الطاقة” , موقع وزارة الخارجية: USINFO.STATE.GOV

(4) محمد حسنين هيكل: “الإمبراطورية الأمريكية ـ الإغارة على العراق” , دار الشروق, ط4, القاهرة, 2004, ص11.

(5) آلان لارسون, وكيل وزارة الخارجية للشؤون الاقتصادية والزراعية والأعمال, “التحديات التي تواجه أمن الطاقة” , موقع وزارة الخارجية:

USINFO.STATE.GOV

(6) آلان لارسون, وكيل وزارة الخارجية للشؤون الاقتصادية والزراعية والأعمال, “التحديات التي تواجه أمن الطاقة” , موقع وزارة الخارجية:

USINFO.STATE.GOV

(7) ستيفن أمبروز, “الارتقاء نحو العالمية” , مرجع سابق ص346.

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق