مداخل إيران لاختراق المعارضة السورية

لم تستطع المعارضة السورية طيلة أعوامٍ قاربت الأربعة، من إنجاز استحقاق الإطاحة بنظام الأسد، والبدء بعملية تحوُّلٍ ديمقراطي، تعيد فيه إنتاج الدولة السورية وفق أطرٍ حداثيةٍ قادرةٍ على استيعاب كافة المكونات المجتمعية للبِنيَة السورية، ووفق أطر عدالةٍ انتقاليةٍ على النمط الذي يجري عقب الثورات الكبرى.

ودفعت تباينات الأجندات السياسية إلى إحداث شروخٍ بينيّةٍ في الكتل المعارضة، أعاقت عملها، ودفعت كثيراً من أطرافها إلى البحث عن إسنادٍ خارجي، قادرٍ على تمويل برنامجها غير المكتمل أساساً. وهو ما ينساق على الأطراف السياسية منها والعسكرية على السواء، بدفعٍ نحو القوى الغربية والولايات المتحدة، أو بدفعٍ عربيٍّ نحو دول الخليج العربي، أو بدفعٍ هُوِيّاتيٍّ خاصٍّ بها، من خلال الإسناد التركي.

وفيما شكّلت إيران (بالإضافة إلى روسيا) الإسناد الخارجي لنظام الأسد، والمقابل للإسناد الدولي لأطياف المعارضة السورية، إلّا أّنها هي الأخرى لم تستطع إنجاز مشروعها في إقصاء الكلّ السوري لصالح استمرارية الأسد ونظامه على الشاكلة السابقة، وترسيخ مشروع الهيمنة الفارسية كما تسعى في بيئاتٍ أخرى، رغم حجم التوظيف السياسي والعسكري والمالي الذي دفعت به إلى سورية، ضمن الإطار الديني المذهبي.

وحيث تمّ إقصاء إيران دولياً، عن كافّة الأطروحات التي تحاول البحث في مخارج للمسألة السورية ومنه المشرقية، وخاصّةً عقب إقصائها عن التحالف الدولي الذي تستدرك منه تهديداً مستقبلياً لمصالحها في البيئة العربية، خاصّة إن سار وفق النهج المرسوم له؛ فإنّها في المقابل تُعدِّل من أدواتها التدخلية بما يصون تلك المصالح على المديين المتوسط والبعيد، من خلال اختراق بعض الأطراف المعارضة، والتي توسَم بالمعتدلة دينياً، أو المعتدلة سياسياً، أو حتّى المستقلة ذات الحاضن الشعبي المتدين.

ويبرز في الواجهة المستهدَفَة إيرانياً، الإسلامِيَّان المعارِضَان: أحمد معاذ الخطيب ومحمد حبش، الذين بدءا بتقديم طروحاتٍ تنساق مع السعي الإيراني في استدراك المصالح في البيئة العربية، من خلال خطابٍ تهادني، أو تصالحيٍّ مع الخطاب الإيراني، يتقاطع فكرياً معهما لناحية ضرورة إشراك إيران في إدارة الملفات العربية.

إذ أوردت قناة الميادين المحسوبة على إيران، أنّ أحمد معاذ الخطيب، وهو الرئيس السابق للائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة، قد سلّم إيران مشروعاً للحلّ في سورية، ويسعى إلى إقناع أطراف عربية ودولية بضرورة حضور إيران في هذا المشروع، وتمّ ذلك من خلال تواصله مع عدّة مسؤولين إيرانيين أو مقرّبين منهم. كما أوردت قناة الميادين أنّ اجتماعاً عُقِد في بيروت لمناقشة هذا الطرح، ورجّحت حضور حزب الله له، كشريك آخر فيه.

ورغم أنّ الخطيب قد سبق له وأن انتقد الإسنادات الخارجية التي تتحصّل عليه أطيافٌ أخرى في المعارضة السورية، إلّا أنّه لا يرى في الإسناد الإيراني الذي يبحث فيه حرجاً، باعتبارها أحد أطراف الحرب المستمرة. وهو بذلك يقدّم طرحاً من منطق التسليم بقوة وإيران وضرورة صيانة استمرارية وجودها المشرقي، ومن منطق العاجز عن الفعل في موقع الأضعف.

وقد سبق وأن قدمت قناة أورينت السورية المعارضة، مجموعة تقارير حول تواصل الخطيب مع شخصياتٍ إيرانية، أو مطالباته المتكرِّرة بضرورة صياغة تفاهمات مع إيران، حتى تقدّم تسوية من طرفها، يقبل بها الخطيب وتياره السياسي. ما يعني عجزه عن إدراك ماهيّة العقلية الإيرانية الرامية إلى استعباد المنطقة كاملة، وأنّها غير معنيّةٍ بعمليةٍ اعتماديةٍ متبادلة، يتمّ من خلالها تقاسم المصالح بما لا يضرّ بأطراف المسألة على السواء. عدا عن تغاضيه المطلق والنهائيّ عن دورها الإجرامي في سورية والمنطقة ككل.

أما محمد حبش، فقد قدّم بدوره دراسة أقلّ ما توصف به، أنها لم تراعِ أيّة معايير للدقة فيها، إذ جعل في هذه الدراسة نسبة الشيعة في الخليج العربي والمشرق العربي، باستثناء مصر منها، تقارب نصف السكان. وذلك عبر خلطٍ في الأرقام واستعارة من مصادر غير مؤكّدة. وركزّ في دراسته تلك، على العلاقة “التاريخية” بين إيران وبلاد الشام، وهو ما يعتبر استحداثاً لما هو غير موجود، وبناءً على مزاعم فارسية، من حيث الدفع بأنّ مصر وحلب كانتا في الأصل شيعية، وتم تغيير مذهبهما بالقوة منذ عدة قرون، في وقت كانت فيه إيران تتبع المذهب السني، وتمّ تغيير مذهبها وفق ذات منطق القوة.

يرى حبش أنه: “في العراق وبلاد الشام يعيش قرابة 82 مليون إنسان، يزيد عدد الشيعة فيهم عن 36% وإذا استثنينا الكرد الذين لهم همّ قومي وليس مذهبياً، فالشيعة هنا تقارب نصف الناس، هذا إذا لم نتحدث عن الامتداد جنوب العراق صوب الكويت والاحساء والبحرين والأحواز والامتداد العلوي في تركيا العلمانية بواقع يزيد عن عشرة ملايين تركي .. هذه الكتلة البشرية الهائلة تتألف تقليدياً من 178 مليون سني ونحو 123 شيعي وستة ملايين مسيحي ونحو ستة ملايين من اليهود”.

هذا الخلط الفكري الذي يسعى حبش لتقديمه، يقدم –من حيث يقصد أو لا يقصد- أدواتٍ تبريريةً للنظام الإيراني في سلوكه العنفي تجاه اختراق البيئات العربية، وإخضاعها بقوة السلاح للهيمنة الفارسية. وينساق مع ذات الخطاب الإيراني في إعادة صوغ تاريخٍ مزيّفٍ للمنطقة بأسرها، علّه يقدِّم شرعيةً للاحتلالات الإيرانية المتّسعة عربياً. وحيث يدفع بتقديم إحصائياتٍ تجعل من الشيعة كلاًّ متكاملاً عرقياً، فإنه يعود ويُفصِّل في الهُوِيّة السنية وفق التقسيمات العرقية، بما يُطِيح أكثر فأكثر من وجودها الأكثري.

لا يعتبر هذا الاختراق الإيراني لمفكرين عرب، الأول من نوعه، بل سبق وأن قدّم محمد حسنين هيكل قبل قرابة عام، طروحاتٍ مشابهة لما طرحه حبش، باعتبار مملكة البحرين، ذات أغلبيةٍ شيعية، ما يعطي الحق لإيران في المطالبة بها، بغضّ النظر عن الانتماءات العرقية التي يراها فارسية عبر خلط بين الهُوِيّة الفارسية والهُوِيّة الشيعية، أو باعتبار كلّ الشيعة فرساً من حيث العرق.

إشكالية تلك الطروحات، أنّها تكرس الحالة دون الوطنية، من خلال تعزيز المفهوم الهُوِيّاتي الديني أولاً على حساب الوطني، وتُسلِّم بالأطروحات الإيرانية من باب الاستسلام لمنطق القوة والاحتلال ثانياً، وأنّها عدا ذلك، تربط الهُوِيّات المذهبية بدولٍ بعينها، ما يبرر لدى أصحابها إشكالية التدخّلات الهُوِيّاتية الخارجية في الشؤون العربية.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

الوسم : إيرانسورية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق