مجلس التعاون.. حصان الرهان

المتابع لنشرات الأخبار والصفحات الرئيسية للصحف السياسية، يدرك أن المنطقة تعيش حالة قلق، ورغم أن العالم سجّل في تاريخه حربين عالميتين مدمرتين، فإنه تجاهل تسمية ما مُنيت به المنطقة من حروب لأكثر من ثلاثة عقود «الحرب العالمية الثالثة».

فحلفاء حربي الأمس العالميتين، هم ذات حلفاء حرب اليوم، مع تغيير طفيف في شكل التحالف بعدما غابت الشمس عن الإمبراطورية العجوز، واختلفت أسلحة الأمس التي كانت تصنع للاستهلاك الذاتي والتوزيع المحدود، لتغدو مصانع الأسلحة كألسنة اللهب المتلهفة للوصول إلى كل مكان وإحراقه. غير أن متحاربي الأمس حول خيرات المنطقة، قرروا هذه المرة إدارة اللعبة بأسلوب مختلف يعتمد على الوفاق والاتّفاق والتقاسم، وأن تكون الحرب هذه المرة حرب ذات لا حرب استعمار خارجي، حفاظاً على الشعور النفسي لأبناء المنطقة.
ووفق هذه النظرية تدور رحى الحروب في كل مكان، وبكل وضوح تتحدث الأوساط المختلفة عن «سايكس بيكو» جديدة، وأبناء المنطقة وقع بعضهم في مصيدة الخطط الرامية للتفتيت، وبدأت الحرب الدينية لتشويه الإسلام الذي يشكّل رابطة وحدوية للمنطقة، كما بدأت خطط التفتيت بإنشاء منظمات تتعمّد تشويه صورة الإسلام ليضمن المخططون تأييد شعوبهم لما سيقومون به من خطوات قادمة، وفي ذات الوقت، تشويه الإسلام في عيون الأجيال المسلمة التي أرادت لها الخطة أن تنشأ وهي ترى بأمّ عينيها عظمة الفوارق بين المكتوب في الكتب وبين الواقع التطبيقي، ما يقودها لليأس التام من إمكانية التطبيق، وترتسم في ذهنها صورة سالبة لدين خيالي غير قابل للتطبيق. وقد انتبه المخططون الاجتماعيون المستهدفون لهذه الخطورة منذ ثمانينيات القرن الماضي عندما قاد بعض الوسطيين الإسلاميين السنّة حملات دعوية ناعمة عبر المناظرات الإعلامية المنطقية، أمثال الراحل الشيخ أحمد ديدات ومن عاصره من علماء وسطيين، وهو ما حرّك عند المستهدفين خطط صناعة الجماعات التشويهية للإسلام، واستغلال الجماعات التي كان الاستعمار البريطاني القديم قد أنشأها أصلا، وأفلحت في خداع أتباعها مثل جماعة الإخوان المتأسلمين التي أنشأها جهاز المخابرات البريطاني في مصر على يد المدعو حسن البنا الساعاتي.
وهكذا تحركت ماكينات الاستهداف بأذرع محلية هذه المرة، فانتفض الغبار عن جماعة الإخوان المتأسلمين التي كانت تعيش كخفافيش الظلام، وتنظيم «القاعدة» الذي نبت فجأة ومن دون أدنى مقدمات لمناصرة حركة «طالبان» التي تمت رعايتها وهي في المهد، فتم تشويه الإسلام في فهمها، واستبدل المخطط تفسير القرآن بتفسيرات أخرى، وبذلك يكون قد أفلح في خداع الرأي العام في دول المنطقة والعالم، ويمضي في لعبة الشطرنج، مستخدماً قادة الفصائل الجهادية التي أراد لها المخطط أن تساهم في تشكيل خريطة المنطقة الجديدة، وتعطيل حياة المجتمعات، وإضاعة أعوام من أعمار الطلاب الذين أُغلقت مدارسهم وجامعاتهم بفعل ما تفتعله من قلاقل.
ولا تقف الجرائم التي يرتكبها منفذو ذلك المخطط البائس لتفتيت المنطقة عند هذا الحد، بل تمتد لمن يعيشون حالات رعب دائمة في مناطق القصف، ولضحايا الذلّ والجوع والعطش والترقب والقلق في المناطق المحاصرة، أو التي تشهد شائعات بقرب مقدمهم تلك التنظيمات، حيث أصبح قدوم هؤلاء المتأسلمين الجدد، كما أراد مخطط اللعبة الذي يدعمهم في وسائل إعلامه، خبراً يبثّ الطاقة السلبية في نفوس الطرف الآخر. فما أن يتم إعلان زحف «داعش» مثلا إلى مدينة من المدن، حتى نجد آلاف السكان يفرون منها. وهو «انتصار» مبكر يربك الجيش الذي يفترض أن يدافع عن المناطق. وهو نصر يصنعه الإعلام ضمن أهم أدواره التي تم تأطيره من أجلها وفق المفاهيم الجديدة التي أبقى فيها المستهدِف أساس الحرب إعلامياً، وذلك لخبرته في الإعلام وامتلاكه كل خيوطه. فالأقمار الاصطناعية وأجهزة النقل والبث كلها غربية، والإنترنت والتكنولوجيا أيضاً غربيان، وقد قضت الخطة باستخدام تلك الوسائل لكسب المعارك المفترضة.
وتدعم هذه القراءة العديد من التقارير الأميركية التي تثبت تورط أميركا في فوضى ليبيا، وتورط روسيا في أزمة سوريا. فالطبخة قاربت على الاستواء، ولابد لكل مشارك أن يثبت دوره حتى لا يفقد نصيبه منها.
ورغم ما تعانيه المنطقة من وطأة المخطط، فإن بعض الدول أدركت حجم الخطر المحدق، ووقفت الموقف المفترض منها لإنقاذ المنطقة من المخطط الجهنمي الذي أراد إقعادها لقرون، وبات مجلس التعاون الخليجي هو الأمل الوحيد المرتجى لإنقاذ الدول والشعوب من دمار محتمل، رغم أن المجلس يعاني من جنوح إحدى دوله نحو المعسكر الآخر، ويواجه محاولات استهدافية متواصلة لضرب تماسكه، غير أن تحركاته كان لها أثرها الذي يصلح أنموذجاً لإفشال المخطط. فتحرّك المجلس ساهم في وقاية اليمن السعيد من خراب محقق، وتحرك بعض دوله ساعد على حلّ الأزمة المصرية وكان له أثره الواضح في وحدة واستقرار مصر بعدما بدأ التنظيم الإخواني المتأسلم جرفها نحو سيول المخطط التخريبي الجهنمي. كما أن تحرك بعض دول المجلس في مشكلة البحرين حفظها من حرائق ذلك المخطط.
ويبقى للإعلام في الفترة القادمة دوره الفعّال في توعية شعوب المنطقة بما يحيط بها من مخاطر، فوعي الشعوب هو الضامن الأكبر لحفظ الأوطان، وقد قدّمت دولة الإمارات حينما استهدفتها خلايا التنظيم الإخواني المتأسلم وخلايا تابعة لـ«القاعدة»، مثالا رائعاً، حيث أبناؤها وبناتها فخاضوا على ساحات الإعلام معارك شرسة، تمكّنوا عبرها من تفنيد حجج البغاة المستهدفين، وردوا عليهم منطقاً بمنطق وحجة بحجة.
وهكذا أثبتت الدول الخليجية قدرتها على هزيمة المخطط، سواء بالمنطق أو بالقدرات العسكرية القتالية غير العدائية. وقد وجدت دول الخليج نفسها أمام مسؤولية كبيرة، خاصة بعدما قضمت «داعش» جزءاً كبيراً من أرض العراق، وأعلنت «دولة الخلافة»، ما يعني بدء تنفيذ الجزء الثاني من المخطط بكل مفاهيم التوسّع الذي يسبق التقسيم على أساس طائفي بغيض.

 د. سالم حميد

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق