ما هي العوائد التي تجنيها السعودية من ربط الريال بالدولار؟

اتخاذ القرارات السليمة في السياسات النقدية من أصعب الأمور وأشقها، منذ فترة طويلة والحديث يتصاعد حول احتمالات فك ارتباط الريال بالدولار، أو لجوء السعودية إلى تخفيض قيمة الريال.

وهي في الأساس قضية فيها جدل يطول الخوض فيه، أقصد بين الاقتصاديين بين مؤيد للسياسات الحالية وبين معارض لها، هناك البعض الآخر يطالب ببعض المرونة في الربط الذي يكون أكثر فائدة للسعودية.

يدور الجدل الآن بسبب انخفاض أسعار البترول، لكن سابقا كان بسبب الانخفاض المستمر للدولار، خصوصا عندما انخفض الدولار عام 2003 مقابل اليورو بنحو 38 في المائة، وهو ما اضطر إلى تخفيض معدلات الفائدة إلى أدنى مستوياتها سعيا لتحفيز معدلات الاستثمار، لأن الاستثمار يتناسب عكسيا مع أسعار الفائدة، فانخفاض أسعار الفائدة يرفع من الإنفاق الاستثماري والاستهلاكي الذي يصب في مصلحة النمو الاقتصادي الذي يتحاشى التمويل عن طريق الادخار عند ارتفاع أسعار الفائدة.

سياسة تثبيت سعر صرف العملة سياسة اتبعتها الدول منذ السبعينات بعدما أوقفت الولايات المتحدة صرف الدولار بالذهب، ما جعل الاقتصادات الصغيرة أو الأحادية أو الاستهلاكية تربط عملتها بعملة الدولار بدلا من الذهب، بينما تتبع الاقتصادات الكبيرة تعويم عملتها وفقا لقوى السوق.

ارتفاع أسعار الدولار يؤدي إلى تراجع تكلفة الواردات المقومة بعملات غير الدولار، والعكس عندما تنخفض أسعار الدولار، فاتجهت السعودية قبل عام 2003 إلى رفع معدل الفائدة أكثر من الدولار، لكن بعدما توسعت القطاعات الإنتاجية محليا خصوصا قطاعي الأسهم والعقار اللذين كانا يشكلان أداتين بديلتين لتوحيد معدل الفائدة.

السياسات النقدية الناجعة هي السبيل الوحيد الذي من خلالها يمكن التعامل مع المتغيرات والسيطرة على مستويات التضخم العالية، خصوصا وأن اقتصادات دول الخليج تعتمد على نمو يحركه تصدير البترول واستهلاكا يحركه الاستيراد وهي استراتيجية تحاول دول الخليج تغييرها نحو إعادة موازنة النمو في دول الخليج.

بسبب انخفاض أسعار البترول وانخفاض العوائد هناك فرصة للهجوم الممنهج على السعودية وتصويرها بأنها دولة على حافة الإفلاس، رغم أن السعودية وجدت انخفاض أسعار البترول فرصة بعدم المراهنة على ارتفاع الأسعار، للتوجه من أجل إعادة هيكلة اقتصادها من خلال تحقيق التحول الوطني عام 2020 والرؤية 2030.

 ولا يمكن وصف السعودية بأنها على حافة الإفلاس لمجرد أن هناك مضاربات على عقود مستقبلية لسنة  يتلاعب بها وسطاء من أجل تحقيق بعض الفروقات المحدودة أو من أجل التحوط، لكن مؤسسة النقد تراقب الموقف عن كثب بسبب أنها تعتمد على عوامل أساسية إذ تصل الاحتياطيات السعودية بنهاية شهر يونيو 2016 2.14 تريليون ريال.

اتجهت الدولة إلى إصدار سندات حكومية لتغري المصارف السعودية بخفض استثماراتها الخارجية التي تصل عوائدها إلى 2.65 في المائة لأجل 10 سنوات مقابل 1.4 في المائة للسندات الأمريكية ما جعل البنوك تشتري منذ بداية عام 2016 وحتى منتصفه نحو 67.3 مليار ريال مقابل تخفيض استثماراتها الخارجية بنحو 33.5 مليار ريال أي بنسبة 19 في المائة لتبلغ استثماراتها الخارجية نحو 141.9 مليار ريال مقابل 175.2 مليار ريال عام 2015، حيث رفعت المصارف السعودية رصيدها من السندات الحكومية بنسبة 78 في المائة لتبلغ 153.5 مليار ريال.

سبق أن مرت السعودية بظروف مالية أكثر حدة، وفي ظل مستويات دين مرتفعة واحتياطيات منخفضة ومع ذلك لم تفك ارتباط الريال بالدولار، فلماذا يفك الريال هذه المرة، والظروف المالية أفضل حالا، وهي تمر بظروف شبه حرب إقليمية ضد الحوثيين في اليمن، وهي ليست ظروف مثالية للفك لا السياسية ولا الاقتصادية، ولا زالت فوائد الربط أكبر من تكاليف فك الارتباط.

وتستطيع مؤسسة النقد مواجهة المضاربين في العقود الآجلة على الريال، وقد واجهت الدولة موقفا مماثلا في عام 2009 عندما تراجعت أسعار النفط بحدة في أعقاب الأزمة المالية وتراجعت قيمة الريال أيضا في العقود الآجلة، فيما أخذت المضاربات العكس في عام 2007 في ظل ارتفاع أسعار البترول في المضاربة على الريال مقابل الدولار، ومن قبل عقب أحداث 11 سبتمبر عندما تصاعدت التكهنات بفك الارتباط لمواجهة الضغوط التضخمية الناتجة عن ضعف الدولار اقتداء بالكويت التي فكت الارتباط بالدولار وربطت عملتها بسلة عملات في نفس العام، لكن عملة الكويت لم تكن في الأصل ارتباطا جامدا، فسمح لبنك الكويت المركزي بالتحرك في حدود 3.5 في المائة ارتفاعا وانخفاضا حول معدل الصرف الأساسي، غير أن السعودية لم تفعل ذلك لأن اقتصادها لا يقارن باقتصاد الكويت.

نظرة السعودية لاستقرار الريال ليست آنية بل على المدى الطويل، وهي ترى في فك الارتباط آثار سلبية على المدى البعيد، كما أن خفض قيمة الريال بسبب أن الدولة لا زالت مستوردة ودولة استهلاكية فإنه يرفع من مخاطر التضخم مع تصاعد فاتورة الواردات.

وبالنظر إلى دولة بترولية كفنزويلا وهي تمتلك من الاحتياطيات النفطية ما تملكه السعودية بل وفي بعض الإحصاءات تضعها في المقدمة، رغم ذلك فهي تعاني ضغوطا تضخمية وصلت إلى 181 في عام 2015 وواصلت ارتفاعها إلى 480 في عام 2016 وفقا لبيانات صندوق النقد الدولي، وقد تصل إلى 1600 في عام 2017، لذلك رفعت فنزويلا الحد الأدنى للأجور 50 في المائة للمرة الثالثة كإجراء لحماية الدخل من معدلات التضخم المرتفعة، وعدد سكانها يقارب عدد سكان السعودية، ومساحتها أقل من نصف مساحة السعودية وهي عضو في الأوبك، حيث نجد الشعب الفنزويلي يتقاطر على الحدود مع دولة كولومبيا المجاورة لشراء السلع الرخيصة لمواجهة التضخم المرتفع المحلي.

لكن في المقابل نجد أن وكالة موديز العالمية للتصنيف الائتماني أكدت عن تثبيتها تصنيف السعودية السيادي عند ( إيه إيه 3 ) مع إبقائها النظرة المستقبلية مستقرة حيث اعترفت بأن الوضع المالي في السعودية قوي، والسعودية يمكنها الاستناد إلى احتياطياتها التي راكمتها خلال سنوات ما قبل انخفاض أسعار الطاقة.

وعلقت موديز على الميزانية السعودية لعام 2015 وموازنة 2016 بأنها تمتلك السعودية رؤية اقتصادية متمكنة، تستطيع من خلالها تجاوز الظرف الاقتصادي العالمي الحالي، وما تشهده أسعار النفط من تراجعات، وهي تتوافق مع رؤية الاقتصاديين المحليين والعالميين.

أي أن المضاربات التي تحدث على الريال تتم وفق تكهنات غير دقيقة ومراهنات خاطئة، بعدما قفزت العقود الآجلة للدولار أمام الريال لأجل عام إلى 680 نقطة مقتربة من أعلى مستوى لها في 16 عاما مقاربة بمستوى يقرب من 425 نقطة ما أثار مخاوف من ارتفاع تكلفة التمويلات الدولارية للسعودية، بينما لا يوجد مجال يذكر لتحريك الريال أمام الدولار في السوق الفورية للعملة نظرا لربطه بالعملة الأمريكية عند 3.75 ريال للدولار، ولذلك يلجأ بعض المضاربين إلى سوق العقود الآجلة للتحوط من المخاطر.

ولدى مؤسسة النقد الأدوات الكافية لدعم صرف الريال، علما بأن سياسة سعر الصرف الثابت والمتبعة منذ أكثر من ثلاثة عقود وهو قرار استراتيجي كان ولا يزال رافدا مهما لدعم الاقتصاد المحلي، ويشهد الريال خصوصا في موسم اقتراب موسم الحج ارتفاعا مستمرا أمام العملات في كثير من الدول العربية والإسلامية، متأثرا إيجابيا بارتفاع الطلب خلال فترة موسم الحج.

ولا تزال مؤسسة النقد السعودي تراهن على قوة الاستقرار المالي المحلي الذي يعتبر الركيزة الأساسية للاستقرار المالي وجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، وتنمية المدخرات، والمحافظة على أموال المودعين، وقد حققت الاستثمارات الخارجية عوائد وصلت إلى 68.17 مليار ريال خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2015، أي ما نسبته 1.75 في المائة من الأصول الإجمالية البالغة قيمتها 3.84 تريليون ريال، في حين بلغ عائد استثمارات الأجانب داخل السعودية نحو 20.89 مليار ريال، أي ما نسبته 1.99 في المائة من إجمالي استثماراتهم البالغ قيمتها 1.07 تريليون ريال، يستثمرون نحو 78 في المائة من إجمالي الأصول في استثمارات مباشرة أي تأسيس شركات أخرى تابعة أجنبية ( جريدة الاقتصادية، 16/2/)2016)، ووصل إجمالي العوائد لعام 2015 نحو 89 مليار ريال.

كما بلغت العوائد في نهاية الربع الأول من عام 2016 نحو 0.54 مرتفعة من 0.49 في المائة في نفس الربع من عام 2015 بقيمة 19.43 من أصول بلغت 3.6 تريليون ريال انخفضت من 3.84 تريليون ريال لعام 2015، بينما بلغت عوائد الاستثمار الأجنبي لنفس الفترة داخل السعودية نحو 0.59 في المائة من إجمالي أصول بلغت 1.135 تريليون ريال.

وتستثمر السعودية 6.7 في المائة من إجمالي أصول بالخارج كاستثمارات مباشرة بقيمة بلغت 242 مليار ريال، بينما يستثمر الأجانب داخل السعودية في استثمارات مباشرة نحو 74.6 في المائة من إجمالي الأصول كاستثمارات مباشرة من أصولها البالغة 1.135 تريليون ريال وهو مقياس لملكية الأجانب في الأصول الإنتاجية.

الأصول الاحتياطية السعودية شكلت 61 في المائة من إجمالي الأصول بقيمة 2.16 تريليون ريال مقارنة بنحو 65.7 في المائة عام 2015 بقيمة 2.62 تريليون ريال بنهاية الربع الأول من عام 2015، حيث تنقسم الأصول الاحتياطية إلى أربعة أقسام شكلت النسبة الأكبر من أوراق مالية بلغت نحو 1.26 تريليون ريال بنهاية الربع الأول من عام 2016 أي ما يعادل 40.4 في المائة من إجمالي الأصول، تليها عملية ودائع بقيمة 705 مليار ريال مثلت نحو 19.6 في المائة من إجمالي الأصول السعودية.

وتخطط السعودية إلى إنشاء أكبر صندوق ثروة سيادي في العالم قدره تريليونا دولار يتيح له بأن يكون له ثقل في الأسواق العالمية، وسيرتفع من 600 مليار ريال إلى 7 تريليون ريال وهو صندوق أنشئ عام 1971 ولكن لم يكون له أثر واضح على الاقتصاد المحلي، لكن الصندوق الجديد سيسهم في جعل الرياض قوة استثمارية عالمية، ويتصدر الصناديق السيادية في العالم، وأن يصبح أكبر من الصندوق السيادي النرويجي البالغ 852 مليار دولار.

بموجب هذه الخطة فإن عوائد الصندوق ستسهم في تعويض جزء من الإنفاق الحكومي الذي فقدته الحكومة جراء انخفاض  أسعار البترول، وتستخدم عوائد الصندوق أيضا في تنشيط الاقتصاد المحلي، وتوفير فرص العمل من خلال تطوير صناعات جديدة وتنمية مشروعات عملاقة، وتنمية قطاعات جديدة، حيث تمتد نشاطات الصندوق في قطاعات التعدين وبناء السفن وغيرها من الصناعات الثقيلة، وتطوير ست مدن صناعية، وتحريك المدن الصناعية الخاملة لمدة عقد من الزمن بسبب عدم تحمس المستثمرين المحتملين من الاستثمار في تلك المدن.

فتثبيت سعر الصرف مقابل الدولار بات أمرا حصيفا، خصوصا وأن الدولار آخذ في دورة جديدة من الصعود، وبالتالي بدأت قيمة الريال السعودي تتحسن مما يساهم في رفع القدرة الشرائية واستقرار الوضع المالي.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق