ما بعد الانقلاب في تركيا: الأردوغانية

خلافاً للعديد من التحليلات المتفاجئة بمحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا، إلا أن هذا الانقلاب كان متوقعاً نتيجة عاملين رئيسين يحكمان الأوضاع السياسية التركية، وهما:

  • قيام أربعة انقلابات عسكرية ناجحة في الفترة السابقة لتولي حزب العدالة والتنمية الحكم، حيث ما تزال الديمقراطية التركية مقيدة بالأوتوقراطية العسكرية الحامية للقيم الجمهورية والعلمانية في الدولة التركية المعاصرة. ورغم المظاهر والإجراءات الديمقراطية التي تتمتع بها تركيا خلافاً لغالبية دول الشرق الأوسط، إلا أنه كان للجيش في كثير من المسائل كلمة الفصل الأخيرة، عدا عن دوره السابق –قبل حكومة العدالة والتنمية- في حل الأزمات السياسية والصراعات الحزبية على السلطة، من خلال حل تلك السلطات وتولي الحكم مؤقتاً، تحضيراً لتسلم سلطة سياسية جديدة منتخبة.
  • أما العامل الثاني في توقع هذا الانقلاب، وهو هنا أهم من سابقه، يعود لمخرجات إدارة العدالة والتنمية للدولة التركية، وتحديداً أردوغان، وذلك في المجال السياسي بالأخص. إذ بلغت تركيا قبيل الانقلاب بأسابيع قليلة، ومنذ تولي رئيس الوزراء علي بن يلدرم مرحلة حسم وصراع على شكل الدولة التركية. ففي حين يدفع أردوغان إلى الانتقال إلى الجمهورية الثانية وإحداث قطيعة نهائية مع الجمهورية الأتاتوركية العلمانية، وقد اعتبر بن علي يلدرم ذلك أهم المسؤوليات الملقاة على عاتقه في ظل حكومته. وعليه كان الطرفان بالنتيجة –الحكومة والجيش- يتجهان مباشرة إلى مرحلة صراع ليس على السلطة، بل على شكل الدولة ومآلات جمهورية أتاتورك. وكان الطرفان بالتالي بحاجة ماسة إلى أزمة كبرى تطيح بأحدهما لصالح تقدم المشروع الآخر.

لا يمكن إنكار الإنجازات التي حققتها حكومة العدالة والتنمية في المجالات الاقتصادية والتنموية طيلة خمسة عشر عاماً، إلا أنه مسار اقتصادي ابتدأ مع نهضة فكرية تعود جذورها إلى تسعينيات القرن الماضي، وأجاد حزب العدالة والتنمية توظيف معطياتها والبناء عليها، والارتقاء اقتصادياً واجتماعياً وتنموياً بتركيا إلى مصاف متقدمة على كثير من دول الجوار التركي.

إلا أن هذه الإنجازات، والمرفوقة ببعد أيديولوجي تم تنحيته مؤقتاً، أغرت العدالة والتنمية، وبالأخص أردوغان، بتوظيفها بالاشتراك مع المعطى الديني، لإحراز مكاسب حزبية وشخصية وأيديولوجية، بعد تحقيق إنجازات لصالح الدولة التركية. وبناء جمهورية أردوغانية تكون محور الإسلام السياسي السني في المنطقة، على غرار الجمهورية الشيعية –إيران-، وهو نكوص تاريخي إلى القرن الخامس عشر، فترة الصراع والتنافس وتقاسم المصالح بين الدولتين العثمانية والصفوية.

ورغم السيناريوهات التي تم طرحها حول حقيقة الانقلاب الذي أفشل، إلا أن ما يبدو أقرب إلى الواقع، هو أن الحكومة كانت على علم به قبل أيام أو أسابيع، وربما اخترقته، وسرعت من مساره، في حين كانت تنتظر حدوثه بكل ما أوتيت من قوة، وما يدل على ذلك حملة الاعتقالات والصرف الوظيفي والتوقيف، والتي طالت عشرات الآلاف من العسكريين والمدنيين خلال الساعات الأولى، وقبل إجراء أية تحقيقات متكاملة.

نذهب باتجاه هذا السيناريو، بناء على فكرة أن العدالة والتنمية –أردوغان- من جهة والجيش من جهة ثانية، كانا يسعيان إلى إحداث أزمة يستطيعان من خلالها تصفية أحدهما للآخر، وبالتالي كانت الحكومة التركية تتحضر لهذه الأزمة، وعمدت مباشرة، بالاستفادة من التأييد الشعبي وحتى من أطراف من المعارضة، إلى توظيف موضوع “الانقلاب على الديمقراطية”، بغية توسيع سلطتها إلى أقصى ما يمكن، وبالتالي التخلص من الخصوم الرئيسيين واللاعبين “الكبار” المنافسين، والذين قد يشكلون عائقاً أمام الانتقال إلى الجمهورية الأردوغانية Republic of Erdogan.

وهنا نذكر أهم الإجراءات التي سارعت الحكومة إلى اتخاذها بغية تعزيز سلطويتها، على أن هذه الأرقام ليست نهائية، بل هي في حالة ازدياد مستمر، ومنها:

  • فرض حالة الطوارئ لمدة 90 يوماً. والتي قد تمتد لعدة أشهر وربما تتجاوز ذلك، وخصوصاً أن تركيا كانت قد شهدت منذ عام 1990، حكم طوارئ لمدة 12 سنة.
  • اعتقال وتوقيف وإقالة 60 ألف موظف عسكري ومدني. منهم:
    • توقيف 47 إعلامياً.
    • صرف 211 من موظفي الخطوط الجوية التركية.
    • صرف 1112 موظفاً في الشؤون الدينية من أئمة ودعاة وخطباء.
    • توقيف 1500 موظف في وزارة المالية عن العمل.
    • توقيف 20 محافظ سابق.
    • توقيف أكثر من 7000 عسكري.
    • توقيف حوالي 1000 شرطي.
    • توقيف أكثر من 2000 قاضٍ ومدّعٍ عام.
    • اعتقالات طالت برلمانيين ودبلوماسيين ومسؤولين في مكتب أردوغان ومسؤولين حكوميين آخرين في غالبية المؤسسات الحكومية.
  • إغلاق مئات المؤسسات التابعة لما بات يعرف بـ “الكيان الموازي”، والمقصود بها، المؤسسات التي تتبع أو تدين لفتح كولن المتهم الرئيس بافتعال الانقلاب، ومنها:
    • 934 مدرسة.
    • 109 سكن طلاب.
    • 15 جامعة.
    • 104 مؤسسة أوقاف.
    • 35 مؤسسة صحية.
    • 1125 جمعية خيرية.
    • 19 نقابة.

ولابد من إعادة التذكير بأن هذه الأرقام ليست نهائية بعد، بل هي حصيلة عشرة أيام تالية لمحاولة الانقلاب، فيما تستمر السلطات التركية في توسيع اعتقالاتها وتوقيفاتها، وما يزال كثير من الموظفين الحكوميين رهن الصرف من وظائفهم، وتترقب مؤسسات أخرى قرارات قد تطالها.

كما تسعى السلطات جاهدة لتسلم فتح الله غولن من الولايات المتحدة، بغية اعتقاله والقضاء النهائي على نشاطه السياسي، ريثما يقر البرلمان إعادة حكم الإعدام، حتى يتسنى إعدام معظم المعتقلين السياسيين. وخصوصاً أنها تعمل على التصعيد من الحملة الإعلامية ضد غولن طيلة الفترة اللاحقة لمحاولة الانقلاب، بل وأصدرت مؤسسة NDR الموالية للحكومة استطلاعاً يؤكد أن 81.5% من المستطلعة آراؤهم يريدون تسليم غولن للحكومة التركية، وأن 77.7% منهم يرون فيه تهديداً على تركيا وأمنها.

عدا عن أن الحكومة التركية تتجه إلى العمل على إصدار دستور جديد، كانت قد أخفقت في تمريره في السنوات القليلة السابقة، بالاتفاق مع من تبقى من أحزاب معارضة، ومن المرجح أن يتم فيه تمرير النظام الرئاسي، والذي يمنح أردوغان سلطات واسعة على حساب البرلمان ورئاسة الوزراء، ويساعده على الخطي باتجاه تفكيك الدولة الأتاتوركية، ضمن ما يمكن أن نسميه مرحلة “الأردوغانية” Erdoganism. وهي المرحلة التي قد تشهد تجيير كل مقومات الدولة لصالح تعزيز سلطة أردوغان سياسياً وفكرياً وأيديولوجياً واقتصادياً.

وفي حين أخفق الانقلاب العسكري بالإطاحة بحكم أردوغان وحزبه، ومنه إخفاقه في عرقلة المسار الديمقراطي، وإخفاقه في العودة بتركيا إلى ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن الإجراءات اللاحقة التي تتخذها الحكومة التركية -ما تزال متفاعلة- تشكل ضربة قوية للنظام الديمقراطي بحد ذاته، وقد تطيح به لصالح نظام أكثر تسلطية، وأقرب إلى النظم المجاورة لتركيا في الشرق الأوسط، عدا عن القضاء على فرصة تركيا –المحدودة بالأساس- في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وخلق فجوة بين تركيا ونظم الحكم الأوروبية، يصعب ردمها حتى على المستوى البعيد، نتيجة بداية مسار يوحي بانتقاص كبير في حقوق الإنسان والحريات العامة تتحضر له تركيا ما بعد محاولة الانقلاب.

 

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق