مآلات الإنتخابات العراقية

إن الضجة الإعلامية التي صاحبت إدلاء أكثر من 21 مليون ناخب عراقي بأصواتهم في صناديق الإقتراع يوم الأربعاء الموافق 30 نيسان/أبريل 2014، توحي على أن سير الإنتخابات قد جرت على نحوٍ موفقٍ بشكلٍ عام. بيد أن التمعن في الحيثيات والتفاصيل سواء في الخروقات القانونية والإشكاليات الإدارية والميدانية وغيرها من السلبيات الكثيرة التي تثبت بأن حقيقة الواقع على غير ما يروم تصويره وإخراجه. فعدد المصوتين بلغ أقل من 12 مليون مصوتاً، ونسبة كبيرة من ناخبي المحافظات الست الثائرة عزفت عن الإنتخاب، وإن 90% من العرب (السُّنة) المهجرين في المحافظات الكردية لم يُفتح لهم مراكز إنتخابية.

كما وأن نوري المالكي المنتهية ولايته، والذي أعلن في شباط/فبراير 2011 عن أكتفائه بدورتين فقط، فإنه يسعى بالحصول على دورة ثالثة، وكأن الفترتين السابقتين الذي وصل فيهما العراق إلى الحضيض في كافة المجالات والميادين، لم تكن برئاسة حكومته القائمة على المحاصصة الطائفية والعرقية. وكذلك بالنسبة إلى منافسيه وخصومه من عمار الحكيم وأحمد الجلبي إلى أسامة النجيفي ومقتدى الصدر ومسعود البارزاني وسواهم، وكأنهم لم يكونوا مع المالكي في تشكيلة فسيفساء الدولة المتمخضة من العملية السياسية السقيمة أصلاً.

في الساعات الأولى من بدء التصويت، والمفروض أن يكون يوماً صامتاً للمرشحين كافة، فإن المالكي سرب لوسائل الإعلام خبراً مفاده إن 700 ألف عسكري قد صوتوا له، دونما أن يفصح عن حقيقة وكيفية حصوله على هذا العدد! وحتى عندما ذهب المالكي إلى فندق الرشيد في المنطقة الخضراء لكي يدلي بصوته، فقد أعلن بأنه واثق بفوز كتلته في هذه الإنتخابات، لكنه ينتظر لمعرفة حجم هذا الفوز، حيث قال: إن “فوزنا مؤكد ولكننا نترقب حجم الفوز”.

وبما أن الطابع العام من هدف الإنتخابات هو التغيير الذي طالبت به الكثير من المراجع الدينية والعشائرية والإجتماعية، فإن مفهموم المالكي لهذا التغيير يعني أن تنتقل الحكومة من وضع المحاصصة إلى وضع الأغلبية ليس إلا. ولذلك يرى أن شكل الحكومة المقبلة يتوقف على الإنتخابات وعلى كثافة المشاركة فيها وعلى الإختيار، معرباً عن أمله بأن يحصل على نسبة نجاح تؤهله لشكيل حكومة أغلبية.

وفي فندق الرشيد أيضاً قد صّوتَ رئيس المجلس الأعلى الإسلامى عمار الحكيم الذي قال: إن المؤشرات التى لاحظناها فى تصويت العراقيين فى الخارج والتصويت الخاص للقوات المسلحة جاء ليعبر عن إرادة وطنية عراقية لمشاركة واسعة فى هذه الانتخابات.وأضاف: أن “اليوم عظيم وسيحدد فيه حاضر العراق ومستقبله وتترسخ فيه الديمقراطية وتتحول من سلوك وممارسة إلى ثقافة وهذا ما نحتاجه، مضيفا أن القرار اليوم لأبناء الشعب وتقرير المصير. بالأمس كنا فى حملة إنتخابية واليوم هو قرار الشعب وسيحترم أيا كان ويوم غد ستبدأ مرحلة التلاحم والتآزر لبناء العراق ونهوضه”.

وكالعادة يتكلم الحكيم بلغة التنظير التي تطرب الأذن بمثاليتها، بينما مآسي وآلآم العارقيين تحتاج إلى أفعال لا أقوال. ناهيك بالإشارة إلى أن “المجلس الأعلى الإسلامي” الذي ينضوي في كتلة الإئتلاف الوطني الذي فرضته إيران بأن يمسك بزمام السلطة في العراق، هو تكتل طائفي النزعة من ناحية، ويخضع تماماً إلى الأوآمر الإيرانية من ناحية أخرى. وبالتالي فقد أثر هذا التكتل الطائفي إيما تأثير في تعطيل الهوية الوطنية. وبذا مهما حاول عمار الحكيم في تسويق خطابه “عن إرادة وطنية عراقية”، فهي ليست أكثر من مماحكة لكسب الأصوات وحسب.

وبعد إنتهاء يوم الإنتخاب، أصدر مسعود البارزاني بياناً يوم الخميس الموافق 1 آيار/مايو 2014 يدعو فيه جميع الكتل السياسية إلى قبول نتائج الإنتخابات والتعامل معها بروح وطنية. وقال فيه: “لا يهم كيف ستكون نتائج الإنتخابات، المهم أن شعبنا أعلن برغبته عن ترسيخ الديمقراطية، ولهذا أطالب جميع الأطراف السياسية المشاركة في الإنتخابات التعامل مع النتائج الرسمية التي سوف تعلن من قِبل الفوضية بروح وطنية ومسؤولة وأن يخضعوا لقرار الشعب”. والإشارة الأخيرة يقصد بها المالكي الذي يحاول الإلتفاف من أجل نيل ولاية ثالثة في السلطة. أما الكلام عن “ترسيخ الديمقراطية”، فالسنوات الإحدى عشرة المنصرمة قد ترسخت فيها مفردات الأستبداد والتسلط والبطش، وتلاشت فيها مفردات الحرية والديمقراطية والحقوق المدنية.

إن حقيقة التنافس الحاصل في الإنتخابات رغم تغليفها بالثوب الديموقراطي الفظفاظ ومزاعم إداء الخدمة للوطن وللمواطن، لكن الهدف الرئيسي يكمن في الوصول إلى المربع الذهبي المتمثل في كرسي رئاسة الوزراء، حيث التمكين من صناعة القرار السياسي والسيطرة الرسمية على المال والإعلام والقوات المسلحة وأجهزة الأمن الخ. وعليه فإن شخوص الإحتلال سيستمرون على خشبة المسرح بتأدية أدوارهم، لكن ربما ستتغير الأدوار، خصوصاً وإن المالكي التي إنقسمت عليه طهران وواشنطن، حيث كانت الأولى تود الإبقاء عليه، والأخرى تريد تغييره؛ فإن الموقف الإيراني قد تغير الآن.

ولقد كشف النائب العراقي السابق والقيادي في الحرس الثوري الإيراني المدعو جمال جعفر المُلقب “أبو مهدي المهندس” عن نقله رسالة من قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني إلى زعماء “إئتلاف التحالف الوطني” في 16-4-2014، ونقل نفس الرسالة إلى أقليم كردستان حيث إلتقى في أربيل بقيادات الحزبين  الكرديين الرئيسيين: “الحزب الديموقراطي الكرستاني” و “الحزب الوطني الكردستاني”، موضحاً للجميع أن “إيران تعد إن ولاية المالكي الثانية ستكون الأخيرة”.

وفي يوم الإنتخابات التشريعية في العراق، أفادت صحيفة نيويوك تايمز الأمريكية بأن “العديد من المسؤولين الأمريكيين سيرحبون بهزيمة رئيس الوزراء”. وأشارت الصحيفة إلى أن: تقييمات المخابرات المركزية الأمريكية ترى أن إعادة إنتخاب المالكي قد تزيد التوترات الطائفية وترفع أحتمالات الحرب الأهلية. معربين عن فشل المالكي في حل وسط مع الأطراف الأخرى (العرب السُّنة والأكراد)، والإخفاقات العسكرية التي تعرض لها، وعن قواته التي قامت “بإرتكاب إنتهاكات خطيرة ضد النشطاء والمعارضين لحكومته، بما في ذلك التعذيب، وعمليات الإعتقال العشوائي للسُّنة المطالبين بحقوقهم، وأخذ رشاوي من أجل إطلاق سراح المعتقلين”. ونوهت الصحيفة في تقريرها إلى أن “المالكي قد فقد الدعم من مراجع السلطات الدينية الشيعية في النجف”.
ولكن عندما بدأت في موقع “معرض بغداد الدولي” عمليات العد والفرز لنتائج الإنتخابات التشريعية، ومنع وكلاء الكتل السياسية من دخول قاعات، فقد أكدت نتائج أصدرتها الخميس الماضي “شبكة عين العراق” لمراقبة الإنتخابات تقدم “إئتلاف دولة القانون” الذي يتزعمه نوري المالكي في معظم المحافظات، بإستثناء محافظة الأنبار التي لم يشملها المسح الرقابي بسبب تردي الأوضاع الأمنية فيها على خلفية المعارك الدائرة هناك بين قوات المالكي وثوار العشائر.

ومما جاء في البيان الصادر عن الشبكة إن دولة القانون تصدرت النتائج الإنتخابية، تلاها التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، ثم كتلة المواطن التي يترأسها عمار الحكيم بفارق طفيف. ولقد حصل الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني على المرتبة الرابعة، فيما أحرزت قائمة متحون برئاسة أسامة النجيفي بالمركز الخامس، وتلاها إئتلاف الوطنية بقيادة أياد علاوي. وحصلت حركة التغيير الكردية برئاسة نو شيروان مصطفى على المرتبة التاسعة، بينما نال إئتلاف العربية الذي يقوده صالح المطلك على المركز العاشر. وهكذا داوليك مع بقية الأحزاب الأخرى المشاركة في الإنتخابات.

والسؤال هنا، هل فعلاً تتقدم قائمة المالكي بالمرتبة الأولى؟ وماذا عما جرى في مدينة الصدر؟ فأصوات الناخبين فيها بمئات الآلآف، وجلهم من التيار الصدري، وما أن أنتهى وقت التصويت، حتى باشرت قوات سوات التابعة للمالكي بالإستيلاء على صناديق الإقتراع بحجة نقلها إلى موقع “معرض بغداد الدولي”، والأخير يقول لم يستلم شيئاً من مدينة الصدر!!

هذا غيض من فيض، لا سيما وأن ضرب طيران المالكي لسدة النعيمية ونواظم المياه، وإغراق مناطق شاسعة في محافظتي الأنبار وغربي بغداد، قد حرمت أعداد هائلة من الإشتراك في التصويت بالإنتخابات. وكذلك إستمرار شن قوات المالكي بالهجوم البري والقصف الجوي والمدفعي بالصواريخ والقنابل والراجمات قد أجبرت أكثر من مليون مهجر على النزوح من مناطقهم وفقدانهم ممارسة حقهم الإنتخابي. وإذا كانت هذه العمليات الإنتقامية تكشف عن مدى سياسة المالكي الطائفية، فإنها تُظهر أيضاً عن عقليته الإستبدادية التي طالت حتى شركائه داخل “إئتلاف التحالف الوطني”. فقد جرت ثلاثة مواجهات مسلحة: داخل المنطقة الخضراء في بغداد، ومحافظتي البصرة والمثنى بين أتابع المالكي وعمار الحكيم، خصوصاً بعد إعلان المرجع الديني بشير النجفي تحريم إنتخاب المالكي، وتفضليه إلى عمار الحكيم.

بين هذا وذاك فإن رئيس الدائرة الإنتخابية بمفوضية الإنتخابات العراقية مقداد الشريفي قال في مؤتمر صحفي في بغداد أن: نسبة المشاركة إستناداً إلى سجل الناخبين قد بلغت 60%، ولفت إلى أن هذه النسبة لا تشمل بعض المناطق. وهذا يعني أن النسبة المذكورة ليست نهائية، موضحاً أن المفوضية تنتظر ورود أرقام أخرى من بعض “المناطق الساخنة”، أي في غربي العراق. وقال: إن النتائج النهائية للإنتخابات البرلمانية ستعلن في غضون شهر بأقصى تقدير.

إن النسبة التي أوردها مقداد الشريفي، تذكرنا في نفس نسبة الإنتخابات الماضية التي جرت في 7 آذار/مارس 2010، والتي إتضحت بعدها النسبة الحقيقية في المشاركة، حيث لم تصل إلى 38%، علِماً كانت الأوضاع حينها أهدأ حالاً مما عليه في الإنتخابات الحالية. أما قوله عن إعلان النتائج بنحو شهر، فهذه هي المخادعة الكبرى التي تجري فيها إعداد وتوزيع النسب المئوية وتحديد مَنْ هو رئيس الوزراء القادم.

فعلينا أن نكرر القول ونعيد للأذهان بأن “المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات” قد أسسها المحتل الأمريكي، وهي تعمل وفق ما مرسوم لها مقدماً. ولقد أشار أحد المهندسين في الحاسبات والبرمجيات من داخل المفوضية بأحد أبنية التصنيع العسكري سابقاً، إن بناية المطبعة تقع في جزئين، الأول تجري فيه إدخال البيانات من عدد من الطوابق، والجزء الآخر قاعة كبيرة يعتليها طابق خاص جداً له مدخل خاص يُدار من قِبل “المخابرات المركزية الأمريكية” تحت أسم “مركز مراقبة الأمم المتحدة” للتمويه والتغطية. وهذا الجزء هو الذي يدير الحاسبة المركزية ويحور النتائج التي يتم إدخالها من قِبل المدخلين المبرمجين من الجانب العراقي، وهم متدربين وتابعين للتوجيهات الأمريكية التي تحدد مَنْ هو الفائز، وفق أولويات حسابات الإدارة الأمريكية.

ومن بين الأدلة على هذا التخطيط الخفي والمتحكم بنتائج الإنتخابات العراقية، إن هناك نسبة من المواطنين لا يدخلون الإنتخابات، مثلاً: 90% من العرب السُّنة في أربيل الذين لم يوضع لهم صناديق إقتراع، فهولاء وغيرهم الكثير يقوم الحاسب المركزي المسيطر عليه أمريكياً بأستخدام هذه النسب وإدخالها لحساب من يريدونه. وكذلك  توظيف اللعبة الديموقراطية وتحريكها أمريكياً داخل العراق لتستمر العملية السياسية على منوال المصالح الأمريكية.

فما هي مآلات الأنتخابات العراقية وكذبة الديموقراطية الأمريكية تنخر بالعراق وشعبه؟ لم يحصل العراقيون على شيءٍ طيلة السنوات الماضية غير المزيد من التقهقر والتراجع، ولن يحصلوا على شيءٍ في السنوات الأربعة القادمة، إلا نفس النتيجة. وبالتالي لا حل عبر الإنتخابات ذات المقاييس الأمريكية، بل بإزالة ما رسخه المحتل الأمريكي بالعملية السياسية البائسة والفاشلة التي يسيطر عليها كتلة مصنوعة إيرانياً ومدعومة أمريكياً، ليبقى العراق في المنطقة العربية ضعيفاً ركيكاً لصالح الكيانين الصفوي والصهيوني.

د. عماد الدين الجبوري

كاتب وباحث عراقي

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

الوسم : العراق

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق