لماذا يتردد العرب في حماية أمنهم المشترك؟

تتحدث قصة شعبية قديمة في لبنان عن تاجر كان يحقق أرباحاً كبيرة عبر الاتجار بالبضائع. وكان صاحبنا يتنقل سعياً وراء الارباح بين المدن اللبنانية. وبسبب اشتهار أمره ونجاحه في التجارة، وحيث انه كثيراً ما كان يتنقل وحيداً في الليالي الموحشة والمناطق المقفرة من السكان، فقد نصحه اقرباؤه واصدقاؤه مراراً بان يصطحب معه حراساً يحمونه من اللصوص وقطاع الطرق. ولكن صاحبنا كان ضنيناً بماله فلم يرغب في تخصيص نصيب منه لحماية أمنه الشخصي. ولفترة من الزمن خيّل اليه ان خياره كان في محله الى ان وقع في كمين نصبه له اللصوص. سطا هؤلاء على كل البضائع والاموال التي كان ينقلها، ولم يكتفوا بذلك، بل نكّلوا به تنكيلاً شديداً فوجهوا اليه شتى الاهانات وسلطوا عليه كل اساليب الاذلال وتعرضوا له بالضرب والتعذيب الشديدين حتى خيّل اليهم انهم قضوا عليه فتركوه مثخناً بالجراح والآلام، وهو على شفير الموت. ولبث على هذه الحال حتى مرّ به بعض المسافرين فهرعوا به الى مستشفى قريب حيث امكن انقاذه وهو على آخر رمق. وفي المستشفى، عثر الطبيب على مسدس كان التاجر يخفيه في ثيابه الداخلية، لذلك لم ينتبه اليه اللصوص. وعندما تعافى صاحبنا، اعطاه الطبيب المسدس وقال له: وجدته بين ثيابك ولكنني لاحظت أنه غير مستعمل، فهل ان ملاحظتي في محلها؟ فأجابه قائلاً: ملاحظتك صحيحة. نعم هي في محلها. فأنا لم استخدم السلاح، ولن استخدمه إلا في حالات الحشرة، أي في أشد حالات الخطر!

يتذكر المرء هذه القصة، عندما تتفاقم الاوضاع الامنية المتدهورة في المنطقة العربية، فترشح منها الى بلدان المجتمع الدولي القريبة والبعيدة، الصغرى منها والدول الكبرى. ويتذكر المرء هذه القصة عندما تشير وسائل الاعلام العربية بابتسار شديد، وفي خضم شلالات التقارير حول اوضاع الامن البائسة في المنطقة، الى مسألة الامن العربي المشترك، وتجلياتها المتنوعة والضائعة. وتجمع هذه الانباء والتقارير على اننا نمر في اشد مراحل «الحشرة» والاضطراب الامني. فمنذ عام 2013 تقريباً، تبوأت المنطقة العربية المكانة الاولى، من حيث تقهقر اوضاعها الامنية كما تقول التقارير الدولية مثل «مؤشر الامن العالمي». ففي تقرير عام 2014، حلّ العراق في المرتبة الاولى بين دول العالم من حيث تفاقم العنف والنزاعات المسلحة فيه. وجاء ترتيب 8 دول عربية بين الدول العشرين الاولى في العالم في سلّم الاضطرابات والعنف.

لا تقتصر الاخطار والاحوال الأمنية السيئة على تفاقم درجة العنف الداخلي والتحديات واخطار العدوان الخارجي (مثل التوتر العسكري على الحدود الاسرائيلية مع سورية ولبنان أخيراً)، وانما يرافق ذلك تخلف ملموس عربياً ودولياً عن تحديد استراتيجية معقولة لمجابهة هذه الاوضاع. ويشدد بعض الخبراء المعنيين بقضايا الامن الدولي على ان هذه الاستراتيجية تتطلب اعطاء الاولوية لتحديد الأطر والتشريعات القانونية لمكافحة الارهاب والتحديات الامنية. كذلك تشدد دراسة أعدت لمناسبة اقتراب موعد مؤتمر القمة الافريقي في نهاية هذا الشهر على أهمية بلورة الأطر والتشريعات الاقليمية للتعامل مع المتاعب الامنية التي تواجه المجتمع الدولي. ورغم ان سجل افريقيا في هذا المضمار افضل بكثير من الدول العربية، ولكن مع ذلك نبهت هذه الدراسة وغيرها من الدراسات المماثلة الى ان ثمة علاقة مباشرة بين محدودية النتائج التي يحققها الاتحاد الافريقي ومنظماته الفرعية على صعيد حل مشاكل القارة الامنية، من جهة، وبين التعثر في شرعنة مبادرات الاتحاد ونشاطاته التي تستحق التنويه والتشجيع. فأين القيادات العربية من متطلبات انقاذ المنطقة من شرور الحروب والارهاب والعنف غير المبرر وغير الشرعي؟

حاولت الامانة العامة لجامعة الدول العربية الاجابة على هذه الاسئلة في دراسة قدمتها الى اجتماع لوزراء الخارجية العرب عقد خلال الاسبوع المنصرم في القاهرة. وجاء في هذه الدراسة، التي اعدت بتكليف سابق من مجلس وزراء الخارجية العرب، عدد من المقترحات، منها مثلاً تشكيل قوة للتدخل العسكري العربي السريع، ودعوة مجلس الدفاع العربي المشترك الذي يضم وزراء الخارجية والدفاع العرب الى الاجتماع لبحث هذا الموضوع. كذلك ذهبت الدراسة الى أبعد من ذلك، اذ اشارت الى ضرورة انشاء نظام امني عربي لصون الامن والسلم العربي وفقاً لالتزام الدول العربية. هذه ملاحظات ومقترحات قيمة، ولكن هل كانت الدول العربية بحاجة الى ان نصل الى «وقت الحشرة»، حتى تبحث في وسائل وطرق انقاذ المنطقة من الخراب الذي يعمّها؟ كلا. ان الدول العربية كانت تعي منذ زمن بعيد اهمية الاعداد لمثل هذا الوقت.

لا حاجة الى ان نرجع كثيراً الى الوراء للتذكير بمعاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول العربية التي تمت الموافقة عليها عام 1950، ولكن من الممكن العودة الى تأسيس مجلس السلم والامن العربي الذي تم بقرار من مجلس الجامعة العربية على مستوى القمة العربية عام 2005 وكذلك على النظام الاساسي للمجلس الذي تمت المواقفة عليه ايضا بعد ان وقع عليه مجلس وزراء الخارجية العرب. وقد تضمن النظام الاساسي الالتزام بإعداد استراتيجيات للحفاظ على السلم والامن العربي، وتوضيح الخطوات التي ينبغي ان تنفذها الدول العربية من اجل حماية هذه الدول من التحديات الخارجية والداخلية. وكان من بينها الاقتراح الأخير للامانة العامة للجامعة بصدد انشاء قوة حفظ سلام عربية.

كانت هناك نواقص مهمة في النظام الاساسي، فعندما طرح اقتراح المجلس، كانت الفكرة من ورائه تعزيز الامن الاقليمي العربي، ومن ناحية اخرى اصلاح طريقة وآليات التصويت في الجامعة، وذلك باعطاء الدول التي تتحمل والتي تحملت تاريخياً القسم الاكبر من اعباء الدفاع عن الامن العربي الجماعي عدداً أكبر من الاصوات بما يتوازى مع قدراتها ومساهماتها في هذا المجال. وكان من المفترض ان تكون هذه الآلية وسيلة من وسائل تفعيل الجامعة وارسائها على أسس اكثر واقعية وعدالة. ولكن لم يؤخذ بهذا الجانب من الاقتراح. رغم ذلك فان النظام الاساسي للمجلس تضمن خطوات مهمة للغاية، وتأسيس المجلس في حد ذاته كان خطوة مهمة على طريق تطويره. وكان من المفترض الاعلان عن انطلاق اعمال المجلس في مطلع عام 2008، ولكن جرى طي هذا الاعلان في حينه. ولم يعلن القيمون على الجامعة اسباب هذا التأجيل، ومن الارجح انهم، بسبب نزعتهم الاستعلائية وغير الديموقراطية، لم يجدوا مسوغاً لهذا الامر الاخير.

وتكرر الامر أخيراً بينما المنطقة العربية تنزف دماً وتقطر أحقاداً وسموماً وحروباً في الداخل وعلى الحدود، وبينما هذه المنطقة في أشد الحاجة الى جهد اقليمي جماعي امني ينقذها من الخراب الذي حلّ بها ومن المآسي البشرية التي تتجول بين بعض اقطارها وتستقر في البعض الآخر. في هذا الوقت، اي في «وقت الحشرة»، ذكر على هامش اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي عقد في القاهرة في ايلول (سبتمبر) الماضي ان الاجتماع سيبحث النظام الاساسي «المعدل» – اي الذي اطاح بالنظام الاساسي الذي اقر عام 2007 – كذلك ذكر ان النظام والمجلس سيوضعان موضع التطبيق بعد القمة العربية المقبلة في آذار (مارس) القادم.

ولسبب لا نفقهه، سحب مشروع المجلس ونظامه من التداول، واستبدل بالدراسة التي وضعتها الامانة العامة للجامعة. ولم يتطوع احد، لا في الامانة العامة ولا خارجها، لا بين وزراء الخارجية العرب ولا بين غيرهم من أولي الامر، لكي يشرح للرأي العام اوجه النقص في مجلس السلم والدفاع العربي، ولا شرح احد للمواطنين رأي وزراء الخارجية العرب في الثغرات التي تضمنها مشروع المجلس، والتوجيهات والملاحظات التي وضعها الوزراء على هذا المشروع، حتى تتلافاها الامانة العامة في مشروعها الجديد. لعل المطلوب من هذا المشروع ليس تطوير مجلس السلم والدفاع العربي، وانما الاجهاز على فكرة التعاون الامني العربي برمتها، الا اذا كان المطلوب هو إخفاء مشاريع الامن العربي المشترك والامتناع عن استخدامها إلا «وقت الحشرة».

رغيد الصلح

نقلا عن الحياة اللندنية

 

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق